هيأة كتابة الضبط والعِقْدُ الأخير (ج/3)

المعلومة القانونية

*عبد العزيز المساوي

باحث وإطار بوزارة العدل المغربية

الفقرة الثانية من المحور الثاني من المقالة في هذا الجزء الثالث وبه الختام (يراجع الجزئين الأول والثاني من المقالة اللذان سبق نشرهما).

 

  • الإدارة القضائية وسؤال الريادة

الإدارة القضائية واستقلاليتها، وكل ما يمَكِّن من الرقي بها وتعزيز مكانتها، ويدعم نموذجية مدرستها، هي اليوم مطالب مشروعة محمودة. يبقى السعي لتحقيقها، و”النضال” من أجلها، بالعمل والجد والاجتهاد وتظافر الجهود، في إطار وحدة لِلصَّفِّ تزيده قوة ومتانة، وليس بالوعود فقط من هنا أوهناك التي سرعان ما تتبخر مُخلِّفة في أحايين كثيرة حسرة في نفوس من وثق بفحواها المعسول. والحديث عن وحدة الصف، ومتانة تماسكه مهما بدا مُرًّا أو مُضرًّا، يبقى حافزا مُهما للنهوض والاستدراك.

كما أن كل مكونات منظومة العدالة شركاء في الإصلاح والترسيخ لعدالة مستقلة، تكون ملاذا لكل ذي حق من جهة، فكل مكونات الإدارة القضائية هي الأخرى شركاءُ في البناء الداخلي من جهة ثانية، ونقصد هنا مختلف النقابات والجمعيات المهنية والوداديات وغيرها من المنظمات القانونية التي يشكل أطر وموظفو هيأة كتابة الضبط قاعدة لها.

كل هذه المنظمات مسؤولة كباقي المؤسسات عما وُكِل إليها، أمام منخرطيها، وأمام القانون وأمام التاريخ. وفوق هذا، لن تخرج عن دائرة المساءلة العظمى التي نبه إليها هذا الحديث الشريف “إن الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه، حَفِظَ أم ضَيَّع؟”(1). والحفظ هنا يستدعي سعي هذه المنظمات مجتمعة إلى بلورة مقاربة متكاملة على مستوى التصور لخلق أجواء أكثر نظافة ونزاهة بالمرفق القضائي. ومحاربة الفساد التدبيري بالتصدي الموحد لمظاهره على المستوى الذاتي للإدارة القضائية، وفضحه متى استشرى على مستوى أي مؤسسة متدخلة في الوسط القضائي المشترك. بما تُمليه ثقة المواطن في العملية القضائية برمتها وبما يخدمها.

الأمر الذي يتطلب اليوم قيادات نقابية وجمعوية حازمة ليِّنة في تجاوبها ليونة الأغصان، تتقبل النقد. بعيدا عن التَّعَامي والتَّصَامُم. وتتجاوب مع حاجيات الموظف والإطار، ولا تتيه بين أسئلة الأولويات، ولا تستبد بالمنصب مهما كانت كفاءتها، في زمن ولت فيه فكرة الزعيم الوحيد الخالد، والقائد الأوحد الذي لا يُشْغَرُ منصبه إلا بشهادة وفاته. وصدق الشاعر إذ قال:

إن الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعتدَلَتْ **** ولا يَلِينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الخَشَبُ

كما أنه على هذه القيادات اليوم أن تُوَطِّن نفسها على تقبل الانتقاد الصريح الحازم من جهة، وعلى الاعتراف بالخطأ متى صدر منها كفضيلة تمنح صاحبها الأهلية للتقويم. وأن يَسِمَها الاِنْتِصَاتُ العميق إلى كل صوت ناصح أوناقد أومُذَكّر أومحذر، ففي كل خير.

والجمعيات المهنية والوداديات والنقابات يبقى من غير المقبول في زمن الشفافية والمصداقية، والانتشار السريع للمعلومة، أن تطغى يوما ما مصالحُها الشخصية الضيقة، المرتبطة بتحسين الأحوال المادية الخاصة على حساب العموم. أقول – يوما ما-. ولا نخص بالتوجيه العام هنا واحدة عن الأخرى، بقدر ما ندلي دلوا من قلب الميدان، مساهمة في التقييم والتقويم البناء والواجب، والمنشود. وما ينبغي لها أن تتسم بالجمود، والوسط في حركية مستمرة، لتكون زاحفة نحو ما يسمو من الأهداف القريبة والبعيدة، الخادمة للإدارة القضائية ومستقبلها، – ما أشقه من طريق- حتى لا يستعير لوصفها الناقد لفعلها من علم الأحياء عبارة “التوقف عن النمو”.

حيث لا حديث عن ريادة الإدارة القضائية إلا بالتنسيق الاستراتيجي لمستقبلها ومستقبل القطاع بين جميع مكوناتها، فلا عيب أن تختلف التصورات، ولكن العيب التشبث بالرأي ولو كان ضدا على مصلحة المجموع، ما يفرض ليونة وتماسكا وتوحيدا للمجهود في عديد مواقف، بعيدا عن كل تعنت، وذلك في إطار مقاربة شمولية للنهوض بالإدارة القضائية وبمكانة أطرها وموظفيها.

الإدارة القضائية ينبغي أن تكون الرافد المُغْني لكل الهيئات والمؤسسات الفاعلة بقطاع العدل، من قضاء عادي وقضاء إداري ومحاماة، ومفوضين وموثقين وغيرهم، بالتفعيل السلس لالتحاق الموظف بأيهم ناسبَ مَارَاكَم من تجربة وخبرة لسنوات، ووافق اختيارَه، لما لهذه المهام من ارتباط وثيق بهذه الخبرة، بعد الإشهاد الرسمي عليها من الجهات المعنية _وهذا مطلوب_. ليس لكون وظيفة ومهمة أفضل مقاما من الأخرى، وإنما في إطار التدبير الجيد للكفاءات، وتشجيعها على العطاء المستمر.

على سبيل المثال لا الحصر، إن قضى الواحد سنوات بالإدارة القضائية (إطارا أوموظفا بهيئة كتابة الضبط) لما أهله لذلك من خبرة علمية، وبعدها التحق بالقضاء فقضى سنوات ومنه التحق بالمحاماة أوالتوثيق أوغيرها. فهل تتصورون عطاء هذا، كعطاء من لزم كرسيه منذ الالتحاق الوظيفي إلى التقاعد؟ بأي من المهمات. وتأكيدًا نُكرر، إنه أفضل استثمار للعنصر البشري، الذي لو استثمرت كفاءته بنجاعة لفجرت من الصخر الأصم عيونا.

وبصفة عامة، كيف يكون عطاء أي مؤسسة من المؤسسات المكونة لمنظومة العدالة لو كان رافدها الأساس، من حيث الموارد البشرية هو الإدارة القضائية وما تنتج من خبرات عدلية. والواقع بأمثلته اليوم يشهد على ذلك.

وعموما، ما دام الحق النقابي أوالجمعوي التنموي المشروع لا يُنَال بالخطاب المُصَعِّد وحده، ولا باللهجة البليغة أحيانا ولا الرعناء أحيانا أخرى لقيادة رُمِّزت نقابيا أوجمعويا يوما ما، وفي ظروف ما. وإنما بالفعل المُوغل في الإخلاص للفئة المُمَثَّلة دفاعا مشروعا عن مطالبها المادية والمعنوية. وخدمة ثقافية علمية تنموية، تصورية تطويرية. ومواجهة لكل حيف طالها أوتنقيص أيا كان مصدره، كحماة لها، إعمالا لـ”قانون نيوتن”(2)، والتزاما بالواجب الذي تفرض طبيعة المهمة.

فتبقى تلك وأخرى، هي المهام الجسام التي تنتظر هذا المكون الأساسي من مكونات العدالة، الذي نتمنى له مزيد رُقِي لمستوى التطلعات. ليُكَوِّن ذاك المجموع المتماسك، الذي لا يقف وَاجِمًا حيرانا، صاحب الفعل الذي يطلبه التغيير المأمول، لا صاحب رداتِ فعلٍ على شطحات هنا وركزاتٍ هناك. أيا كان الفاعل، وأيا كانت تغريداته التي لا تُترجم إلا محدوديةً وقصورا، تتبخر سريعا كما تتبخر قطرة الماء في الرمضاء، ويتلاشى ما يليها من مَزاعم كما تتلاشى الموجة الصغيرة على الصخرة الصماء. وهذا لا يعني السكوت في معرض البيان الواجب بما تنضحه وريقاته بفصاحة حين يُغَمْغِمُ آخرون بِلَثَغِهِم. وباستقامة حين يتذبذبون. تغليبا للمصلحة العامة، وتقديرا للإنسان وآدميته.

ختاما نشير أن المكانة التي تحتلها اليوم الإدارة القضائية باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات منظومة العدالة المغربية، تجعل من كل مساس بها أوتنقيص مساسا بالعدالة في جوهرها، وتثبيتا للأذى في طريقها. فخادم العدالة من يميط الأذى من طريقها، لا من يلقيه في منعرجاته. ليبق العِقْد الموالي عقدَ الإشراق والتنوير وتقدير الكفاءة، و”معاركه” ومُدَافَعَاته مرتبطة بالكرامة أكثر من ارتباطها بكل ما هو مادي. وهذه معالم طريقها وبداياتِه، فإشراق النهايات رهين بصحة البدايات، ولكل زمان رجاله.

والفترة الزمنية السابقة خاصة ما قبل العِقْدِ الزمني الأخير، إن كانت هي والِدَةُ كلِّ ما ينهال على الإدارة القضائية اليوم من “ويلات” مُعيقة إياها ومُعرقلة أداءَها للدور المنوط بها، وسيرها في طريق أداء واجبها المهني. مُزكَّاة بسلوك البعض المستمر إلى اليوم. فلا أحد ينكر فضل كل فاضل فيها على ما قدم لهيأة كتابة الضبط حينها. ولمستقبل الإدارة القضائية بمفهومها الجديد.

لهذا وُسِمَت هذه المقالة المتواضعة بـ” هيأة كتابة الضبط والعِقْدُ الأخير “، لما لهذا العِقْد بالنسبة للإدارة القضائية من ذكرى لا تُنسى، وبصمات لا تنمحي، فبها يجلى النور وتنجلي الظلمات، بما يعمم الفضل على الوطن والمواطنين. وما هي إلا قطرة من قطرات بحر هَمٍّ وتَهَمُّم. والتاريخ لا ينكر لكل ذي فضل فضله، وإن أنكرَته زُمَرٌ من الناس على مر الزمن.

وما خلي زمان من فضلاء، فبفضلهم ومشيئة المولى، مهما طال الليل وأظلم، سيعقبه شعاع الفجر ونور الصبح.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

هوامش:

 (1): رواه النسائي وابن حبان رحمهما الله

(2): قانون نيوتن: “لكل فعل ردة فعل مساوية له أو تفوقه في المقدار، ومعاكسة له في الاتجاه”.

وانتهى بالرباط في:

04/06/2020 الموافق لـ 12 شوال 1441 هـ

للاطلاع على الجزء الثاني

إضغط هنا

للاطلاع على الجزء الأول

إضغط هنا

قد يعجبك ايضا