هيأة كتابة الضبط والعِقْدُ الأخير (ج/2)

بسم الله الرحمان الرحيم

خلصنا في الجزء الأول من هذه المقالة(1) إلى أن هيأة كتابة الضبط لها مكانة استراتيجية، ودور أساسي ومتميز بين مكونات منظومة العدالة، لا يتأثر باعتراف من اعترف ولا جحود من أنكر. لكونها تلك التَّلْعَة التي يروي سَيلُها الغَزير كل الفاعلين بقطاع العدل من المهنيين والمرتفقين. فلا حق يُنتزع من غَاصبٍ فيرجع لمستحق، ولا توثيق ولا إشهاد لحقٍّ مادي أومعنوي، مُكتسب أوموروث، من دون فعل وبَصمة لهذه الهيأة بأطرها وموظفيها، الذين بقدر تقدير كافأتهم، اعتبارا وتشجيعا، وتكوينا مستمرا وتحفيزا

ومكافأة، يكون فعلها ناجحا خادما لروح العدالة ومبتغاها، بشقيه الإداري والقضائي.
ولعل هذا من الميزات الخاصة التي تنضاف إلى ما يميز هيأة كتابة الضبط، إذ يُوكَل إليها فعل إداري بطبيعته- وهو الغالب- وفعل قضائي أوشبه قضائي هو الآخر من نوعه، ما جعل المشرع اليوم ينعت الإدارة التي تُكوِّن هذه الهيأة نسبة 80% منها بالإدارة القضائية، من خلال عدة مواد سواء بمشروع التنظيم القضائي الجديد(2)، أوالقانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية(3)، أوالمتعلق بالنظام الأساسي للقضاة(4).

فكيف السبيل لأن تؤدي هذه الإدارة القضائية، الدور المنوط بها، واللائق بالمكانة المرموقة التي تحظى بها بين مجموع مكونات منظومة العدالة، وما منطلقات ذلك؟ وكيف للوطن والأجيال أن تستفيد من طاقاتها وكفاءاتها العلمية والتجريبية الممتازة بها اليوم، والتي ستتراكم وتتطورغدا؟

وملامسة لجواب ما تطرحه هذه الأسئلة ونظيرها من إشكالات، نحاول ببساطة تناول الموضوع من زاويتين أساسيتين؛ من زاوية تأسيس وتطوير الإدارة القضائية ودور الفاعلين بالقطاع في ذلك. ومن زاوية تأثيث بيتها الداخلي وأهليته الرِّيادية.

ملامسة فقط، وإلا فما سيفيض به أطر الإدارة القضائية من إنتاج وعطاء، وكذا غيرهم من المهتمين والباحثين، لا شك يُغنيها ويُعزز مكانتها أكثر، يوم تتحرر طاقاتها وما تزخر به من كفاءات من رِبْقَةِ التجاهل والتغاضي، والإغراق في مهام لا تتناسب والقدرة العلمية والتجريبية، وما لذلك من تأثير على المردودية.

1- الإدارة القضائية وحتمية النهوض

هيأة كتابة الضبط هي إدارة قضائية فعلا منذ زمن، إذ يتأسس هذا المفهوم في أصله على نوعية ما يُوكل إلى أطر وموظفي هيأة كتابة الضبط، وما يضطلعون به من صلاحيات ومهام، ذات الأهمية البالغة في سير القضايا خاصة، وفي سبيل تحقيق العدالة عموما.

إلا أن هذا المفهوم الجديد يجعل منها إدارة قائمة الذات مساهمة في التغيير المنشود، لما يحمل في طَيِّه من كثيرِ معانٍ ودِلالات، مُحِيلة على تغيير تلك النظرة الدونية المشار إليها قبله “بالجزء الأول”، والمُؤسِف ارتباطها باسم”هيأة كتابة الضبط”، المنظَّمة قانونا، وأكثر من ذلك سيطرتها على نظرة وتَمثُّلات بعض واضعي ميثاق إصلاح منظومة العدالة ومُنظريه.
تلك النظرة المشحونة سلبا، والتي يمكن أن يشكل مفهوم الإدارة القضائية الذي يراه عديدُ مهتمينَ وباحثين أعَمَّ من مفهوم كتابة الضبط، قنطرة للإِبعاد عنها. وهذا ما نراه أقرب للصواب، على اعتبار مواكبته النسبية للتطور المتسارع للعلوم المعرفية منها والقانونية والإدارية. وما تتطلبه المنظومة القضائية من عصرنة وتحديث للنهوض بها. والمُمَيِّز كذلك للمهام الموكَلة لأطرها وموظفيها كموارد بشرية عن بقية الإدارات العمومية.

بات مشروطا اليوم تحسين المردودية، والرفع من الإنتاجية بتجاوز النظرة التقليدية للموارد البشرية. فلم يعد مقبولا النظر لإدارتها مجرد وظيفةٍ مُوزعَةٍ محاورُها على مراقبة الموظف، وضبط سلوكه الوظيفي وقيامه بالروتيني من الأعمال، وضبط وقت الحضور والانصراف، وتنظيم الرخص الإدارية. بينما ينبغي النظر إليها كأهم الوظائف الإدارية المُسْتَلزِمَة لخطط مستقبلية مُحْكمة، ورعاية خاصة تُخصص لها موازنات مالية كافية، تتناسب وأهمية العنصر البشري ومدى التأثير الإنتاجي لكفاءته.

باعتبار الإدارة القضائية مجموعة من البنيات والإجراءات والمهام المرتبطة بالتدبير الجيد للموارد بشقيها المادي والبشري، بغية تحقيق ما لها من أهداف، يُناط بها ترشيد وعقلنة تدبير مُقومات الموارد البشرية، بحسن تدبير ما يلزم للارتقاء بها، تلبيةً لحاجيات المرتفق بنجاعة وحسن تفعيل.

فبالرجوع إلى بعض الإحصائيات الرسمية(5)، التي تشير إلى أن وزارة العدل لا يشكل مجموع موظفيها سوى 3.61% من مجموع موظفي الإدارات العمومية، ما يقارب 80% من مجموعهم يُكوِّن الإدارة القضائية، وأكثر من 35% منهم أطر. وأخذا بعين الاعتبار ما تُذِرُّه وزارة العدل على الخزينة العامة من أموال، نتيجة تظافر جهود العنصر البشري للإدارة القضائية، ولغير ذلك من الاعتبارات، يتضح أنه لا يعجز وزارة العدل، المتوفرة اليوم على قسم كامل للتكوين والتتبع والتقييم والمستفيدة من خدمات المعهد العالي للقضاء في هذا الباب، والتي تتعاقد تعاقدات خاصة أحيانا للتكوين والتأطير، أن تنهض من زاويتها بالإدارة القضائية، ماديا ومعنويا بالشكل الذي يرقى لمكانتها المرموقة متى توفرت الإرادة لذلك.

وما برهان هذه الإرادة اليوم، سوى السعي الحثيث بين “صفا” النهوض بالإدارة القضائية وترسيخ مقوماتها، و”مروة” استثمار كفاءاتها إشراكا ومشاركة. بالتسريع لإخراج مدرسة الإدارة القضائية إلى الوجود وفسح مجال خدماتها للأطر الميدانية من هيأة كتابة الضبط اليوم.

فصاحب التكوين العالي من ماستر ودكتوراه في أي مجال وتخصص، بمؤهلاته تلك – وما أكثرهم بالإدارة القضائية-، المنضافة إليه أكثر من عشر سنوات إلى ثلاثين سنة خبرة تجريبية ميدانية بمكاتب الإدارة القضائية، لا شك أن هذه المدرسة في أمس الحاجة إليه وإلى خبرته، لتشق طريقها، خاصة في بداياته، نحو إنتاج الكفاءات الكفيلة بالرفع من عطاء المرفق القضائي لمستوى التطلعات. فشُعَبٌ وأقسامٌ بالمحاكم ووزارة العدل وما لها من مصالح بمختلفها، عرفت ما عرفت من الرقي والإنتاج ورفع المردودية خلال العِقْد الزمني الأخير بفضل إشراف هؤلاء الأطر الميدانيين، الذي لا يميز صاحبه أحيانا بتعويض مادي مستحق أو نقاط تحتسب في التنقيط المؤهل للترقية.

وبالموازاة لذلك، ضرورة التعجيل بإخراج دليل توصيف المهام والوظائف لموظفي الإدارة القضائية وأطرها، وما لذلك من أهمية بالغة ضد الهدر الطاقي، والتصنيف الإداري البناء. والعجيب أنه حسب المتداول تم إعداد مشروعه منذ سنة 2012، فهل يا ترى كان للقفزة النوعية التي عرفتها هيأة كتابة الضبط في العقد الزمني الأخير، بتوالي أفواج من الأطر تأثير غير مباشر على ذلك؟، أم للنقابات القطاعية رأي وطروحات تخص ذلك؟، أم ذاك سر غير مكشوف، تنتظر “الشغيلة العدلية” انكشافه من خلال التصريحات التي ستعقب بزوغ الدليل ومراسيم تنزيله؟.

لا يعقل أن تجد مباريات التوظيف بوزارة العدل من خلال إعلانات الترشيح الرسمية لها، تُميز تمييزًا دقيقا بين الشروط المؤهلة لكل وظيفة حسب مهامها. الشيء الذي يسمح للبعض بالترشح لوظيفة من بين الوظائف المعلنة دون أخرى. ولا تجد لذلك تأثيرا واقعيا بعد اجتياز المباراة بنجاح. حيث من العيب الإداري أن يشتغل الكلُّ بالمهامِّ الكل، دون تصنيف ولا تمييز مشروع وعادل ومنصف. وتفادي هذا من الواجب الذي لا يستقيم الواجب إلا به.

كما لا يعقل أن تُعنى أزيد من أربعين مادة من النظام الأساسي الخاص بهيأة كتابة الضبط الصادر سنة 2011 بتصنيف موظفي وأطر هذه الهيأة. مع استعمال تسميات للإطار الوظيفي وتنوعه، وأرقام استدلالية تتغير بتغير درجات الترقية، دون التطرق لتصنيف هذه الوظائف والمهام وتحديد مميزات كل واحدة منها. الشيء الذي لا يمكن استدراكه إلا بدليل الوظائف والمهام ومراسيم تنزيله. والذي لا يستساغ أكثر، أن يستغرق هذا الاستدراك عقدا من الزمن أو أكثر. والجميع يعلم أن سوء توزيع الأشغال والمهام من سوء تدبير الموارد البشرية. وينضاف إلى هذا ما جاء به المرسوم رقم 2.20.5 الخاص بالتعويض عن الديمومة (6). إذ حدد المبلغ”الموحد” للتعويض عن الديمومة لموظفي هيأة كتابة الضبط بمختلف درجاتهم. مع وضع كلمة “الموحد” هنا بين أكثر من مزدوجتين، والتي لا يقبلها العقل الإداري السليم المؤمن بالإدارة وعلمها وما لتصنيف وتراتبية مواردها من بالغ الإثر على الفاعلية.
يمكن القول بعد هذا، أنه من دون انطلاق تأسيس المدرسة الوطنية للإدارة القضائية وانبعاثها من خلال استثمار خبرة كفاءات هيأة كتابة الضبط اليوم، بعد دليل المهام والوظائف المبني على الاختصاصات وتوزيعها، لا ارتقاء يرجى لها. فمتى صحت البدايات صحت النهايات.

المفروض اليوم على كل المتدخلين ناشدي إصلاح منظومة العدالة، المساهمة كل من جانبه دعما لتأهيل الإدارة القضائية وتوظيفها الأمثل. وإحداثا لمدرستها الخاصة ونَمذجتها. لأن التحديث والتطوير المنشود يبقى رؤيةً متكاملةً في كل ما يتعلق بالموارد البشرية، والمستندات القانونية المؤطرة، والبِنيات الإدارية اللازمة. وهذا التأهيل هو السبيل لرقي هذه الإدارة إلى مستوى مسؤوليتها الوطنية العظيمة وأمانتها الكبرى. فجني ثمار المستقبل يُغرس ويؤسس له بداية، قبل فوات الأوان. وَلاَتَ حين رجاء!، ولا تَجني الأجيالُ إلا ما زُرِع اليوم حين يَئين قِطافه، الذي نتمناه ثمرا حلو المذاق لاحَنظلا مُرًّا أُجَاج.

رغم كل الجهود المبذولة إلى اليوم، فالإدارة القضائية في نظرنا لم تنل حقها من العناية والاهتمام اللازمين في ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الشيء الذي يمكن تداركه متى توفرت الإرادة التامة للنهوض بها تحقيقا للمصلحة العامة، من خلال مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية أثناء التنزيل.

يبقى أمل أطر وموظفي الإدارة القضائية، ويقينهم في مستقبل التدبير الجيد للكفاءات الذي لا يرون محيدا عنه، ساميا متعاليا مترفعا عما يُشاهَدُ اليوم من تداعٍ وتكالب على الإدارة القضائية ومكانتها كما تتداعى الأَكَلة على قَصعتها، إلى أن يصبح هذا التداعي تهافتا محمودا للاستفادة من مخزونها العلمي والتجريبي العملي، المُشرِّف لمنظومة العدالة متى تحرر وتم تشجيع كل مبادرة في سبيل ذلك، وفي سبيل استقلالية الإدارة القضائية ومستقبها، الرهين بمكانة أطرها وتموقعهم. إذ هم ميزان القوة الناعمة اليوم.

أما عن تأثيت البيت الداخلي وأهليته الريادية، ففي الجزء الثالث سنتطرق إليه من خلال النقطة الثانية من هذا المحور وهي: “الإدارة القضائية وسؤال الريادة” وفيه إشارة نراها مهمة لدور النقابات والجمعيات المهنية والوداديات وغيرها من المنظمات بالقطاع.

يتبع..

هوامش:

(1): نشر الجزء الأول من المقالة على بواب القانونية، وهذا رابطه:

عبد العزيز المساوي: هيئة كتابة الضبط والعِقْدُ الأخير (ج/1)


(2): مشروع قانون رقم 38.15 موضوع قرار المحكمة الدستورية عدد 89/19 م.د ملف رقم 19/041.
(3): المادة 54 من القانون التنظيمي عدد 100.13.
(4):المادة 51 من القانون رقم 106.13
(5): إحصائيات موظفي الدولة منشور على موقع وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، وهدا رابط لذلك:
https://www.mmsp.gov.ma/ar/decline.aspx?m=8&r=52
(6): المرسوم الذي جاء في إطار تنزيل مقتضيات المادة 38 من المرسوم رقم 2.11.473 الصادر في 14 شتنبر 2011، بشأن النظام الأساسي الخاص بهيأة كتابة الضبط.

المعلومة القانونية

*عبد العزيز المساوي

باحث وإطار بوزارة العدل المغربية

قد يعجبك ايضا