التجنيح القضائي بين أزمة الواقع وضرورة التفعيل

لا يخفى على أي دارس أو مهتم بالعلوم القانونية أو متتبع للعمل القضائي أن المشرع المغربي قد صنف الجرائم تصنيفا ثلاثيا حسب مدة العقوبة المنصوص عليها إلى جنايات وجنح بشقيها التأديبية والضبطية ثم المخالفات، وحدد تبعا لذلك المحاكم المختصة، نوعيا للبت فيها حيث جعل الجنايات من اختصاص غرفة الجنايات بمحاكم الإستئناف، والجنح بنوعيها والمخالفات من اختصاص المحاكم الإبتدائية، إلا أنه ونظرا لاعتبارات قانونية وموضوعية مستوحاة من تطبيق السياسة الجنائية، استلهمها العمل القضائي في تطبيقاته لإضفاء نوع من المرونة على قواعد الإختصاص النوعي، فلجأ في بعض الحالات إلى عرض جرائم، تشكل حسب وقائعها جنايات على المحاكم الإبتدائية وهو ما يسمى بمسطرة التجنيح القضائي، بالإضافة إلى التجنيح القانوني الذي لجأ إليه المشرع في حالات استثنائية[1].

ونظرا للإرتفاع المهول للجرائم المعروضة على غرفة الجنايات ولو في قضايا بسيطة لا ترقى إلى تلك الدرجة التي تحتاج  إلى كل تلك الضمانات والإجرائية التي خص بها المشرع هذا الصنف من الجرائم، إلى الضغط على الغرفة الجنائية بملفات وقضايا بسيطة، وفي إطار تدبير هذا الإشكال العملي الذي يربك العمل بمحاكم الإستئناف، ومن أجل الإسراع في سير العدالة وتقليصا للزمن والتكاليف، فرضت هذه الآلية القضائية الجديدة نفسها بقوة؛ للتقلص قدر الإمكان من تلك القضايا الزهيدة وتغيير وصفها من جناية  إلى وصف يراعي خطورتها واعتبارها جنح وإخضاعها بذلك لما تخضع له الجنح من حيث الإختصاص والضمانات.

وقد تم استعمال هذه الآلية لأول مرة من طرف القضاء الجنائي الفرنسي ويقصد به حسب الفقه تغيير صفة جريمة معينة من وصف أشد إلى وصف أخف من حيث العقوبة المنصوص عليها في القانون، وبذلك يعد فالتجنيح القضائية  مبادرة قضائية أفرزها العمل القضائي  وكرسها من أجل التلطيف من جمود  وغلو بعض النصوص القانونية التي تفقد التناسبية بين الفعل والجزاء، ورغم أن التجنيح القضائي يفتقد إلى الشرعية على مستوى التنصيص عليه في القانون إلى أن الممارسة العملية فرضته لاعتبارات عديدة تجند ما يبرره. وانطلاقا مما تقدم يمكننا أن نطرح إشكالية محورية وهي إلى أي حد يمكن للتجنيح القضائي أن يحقق التوازن بين حقوق الدفاع ومصلحة المجتمع؟

المحور الأول: الجوانب القانونية للتجنيح القضائي

المحور الثاني: الجوانب القضائية للتجنيح القضائي

المحور الأول: الجوانب القانونية للتجنيح القضائي

إن أول الإشكاليات القانونية التي تعتري التجنيح القضائي هو غياب أي نص ينظمه، وهو الأمر الذي يساءل مبدأ الشرعية الذي باعتباره عماد القانون الجنائي برمته سواء في شقه الموضوعي وكذلك شقه الإجرائي، فهو ضمانة من الضمانات الراسخة في القانون الوطني أو المواثيق الدولية، فالتجنيح في أصله مبادرة قضائية  أفرزتها الممارسة وكرستها المحاكم من خلال تواتر العمل بها.

إذن المشرع هو من يتولى تحديد الأفعال والعقوبات المناسبة باعتماده على مبدأ أساسي لا يقل أهمية عن مبدأ التفريد، وهو مبدأ الشرعية[2]، والذي نصت عليه العديد من التشريعات الجنائية الحديثة، وإن كانت الشريعة الإسلامية هي السباقة إلى التنصيص على هذا المبدأ الذي كرسته الآية القرآنية: ] وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [[3]، ثم الآية الكريمة: ] لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [[4].

والمشرع المغربي كغيره من التشريعات المقارنة نص على مبدأ الشرعية في الفصل الثالث من القانون الجنائي بقوله: “لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”.

إذن فالتفريد يجعل العقوبة من حيث نوعها ومقدارها وكيفية تنفيذها ملائمة لظروف من تُفرض عليه، وأساس هذه النظرية أن العقوبة وسيلة لإصلاح المحكوم عليه[5].

وعليه، لابد من التأكيد على ضرورة المحافظة للمشرع بكل اختصاصاته المتعلقة بإحداث الجرائم والعقوبات والإجراءات المسطرية، وعدم فتح الأبواب على مصراعيها للتفريد، وإخضاعها لشروط وضمانات قانونية دقيقة وصارمة.

كما أن الاختصاص يعود للمشرع فيما يتصل بتحديد الأفعال التي يعتبرها جرائم وما ينطبق عليها من عقوبات، وعلى أساسها يتم ضبط مسألة الإختصاص حسب قواعده المعمول بها في إطار قانون المسطرة الجنائية.

ولابد أن يذهب المشرع في هذا الإطار إلى أبعد حد ممكن دون أن يتنازل عما يدخل في اختصاصاته الأساسية لجهات قضائية تسلب من المشرع تلك السلطة المخولة له بتحديد الجرائم والعقوبات، حيث حرص دستور المملكة على تحديد الجهات المخول لها سلطة التشريع بخصوص تصنيف الجرائم والعقوبات وتحديد العقوبات المناسبة لها، في إطار مبدأ فصل السلط كما دعا إليه مونتسكيو.

وقد يختلط عند البعض التجنيح القضائي  باعتباره تغيير الوصف الحقيق للفعل أو إحلال وصف آخر محله، وسلطة وإعادة التكييف ومفاد هذا الأخير إعطاء الوصف الحقيقي للفعل الجرمي، سواء أدى إلى أعتماد وصف من نفس المستوى أو جريمة مماثلة أو من وصف أخف إلى وصف أشد أو العكس.

ويختلف التجنيح عن إعادة التكييف في كون الإجراء الأول لا يتخذ إلا من طرف النيابة العامة وقاضي التحقيق، أما الثاني فيتخذ من طرف المحكمة الإبتدائية والغرفة الجنحية وغرفة الجنايات أو من طرف قاضي التحقيق، أما الغاية من الإجراءين؛ فالتجنيح يرمي تبسيط الإجراءات وتدبير أمور العدالة وتقريبها من المواطن، في حين أن الغاية من إعادة التكييف هو التطبيق السليم للنصوص القانونية بغض النظر عن الظروف والمبررات المحيطة بالقضية[6].

إن مبادرة  النيابة العامة أو قضاة التحقيق إلى التجنيح راجع بالأساس إلى مخلفات أزمة سياسة التجريم الذي فرضت تفريجها في سياسة العقاب، حيث إن الضغط والإكتظاظ الذي تعرفه الغرفة الجنائية بسبب جرائم بسيطة، والبطء في الأحكام نتيجة المبالغة في المتابعات والإعتقال الإحتياطي، فضلا على  الإصلاحات التشريعية الجديدة على مستوى مشروع القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، من قبيل إقرار الوسائل البديلة كتوجه جديد فرض نفسه في الآونة الأخيرة، هذه كلها أسباب ساهمت في اللجوء إلى التجنيح القضائي.

المحور الثاني: الجوانب القضائية للتجنيح القضائي

إن مبادئ القانون الجنائي وقواعده تتنافى وهذا الإجراء المبتدع، فلا وجود لنص صريح لهذه المسطرة، لكن واقع السياسة الجنائية وما تقتضيه من إجراءت ووسائل لتوحيد العمل القضائي على مستوى النيابات العامة على الأقل اقتضى النظر في قساوة العقوبات المقررة لبعض الجرائم التي لا تتسم بالخطورة، والتي لا ترقى إلى مستوى الجناية بالمفهوم الحقيقي، وذلك بسلوك مسطرة التجنيح القضائي في حدود ووفقا لمعايير معينة تأخذ بعين الإعتبار تحقيق التوازن القانوني بين حقوق الدفاع ومصلحة المجتمع[7].

ولعل جمود القانون الجنائي وصلابته من الأمور التي تبرر اللجوء إلى هذا الإجراء القضائي من الناحية العملية، إذ أن القانون الجنائي المغربي الحالي يعود إلى ما سنة 1962  المتسمة بنوع من التشديد والقساوة  في العقاب الذي زادت التعديلات التي طالته من تفاقم حدته، وهو ما لا يسعف الواقع الذي يحتاج إلى سياسة عقابية تتلاءم والواقع العملي من جهة والأهداف الحديثة للعقوبة من جهة أخرى.

وحيث إن أبرز الخصائص التي تتميز بها العقوبة كونها قضائية، بحيث لا يمكن تطبيق العقاب على الجرائم إلا بواسطة القضاء لأن تدخله يعتبر أكبر ضمانة لحريات الأفراد والجماعة إلى جانب الضمانات الأخرى كالشرعية في العقوبات ومبدأ الشخصية ومبدأ المساواة[8].

هذا مع العلم أن مبدأ القضائية يجد سنده في أن الجريمة هي واقعة جنائية تنشئ حق الدولة في العقاب وتخلف رابطة قانونية لا بين الجاني والضحية، وإنما أيضا بين الدولة كشخص معنوي وبين الجاني، ومن تم وجب تدخل القضاء لفض النزاع بين المتهم والدولة[9].

ولكي يكون تدخل القضاء تدخلا إيجابيا يحقق العدالة الجنائية من خلال التوفيق والموازنة بين العقوبة والجريمة، كان لابد من تدخل للنيابات العامة ( الوكيل العام للملك) وقضاة التحقيق، لتقويم ما يمكن تقويمه وضمان السير العادي للعمل داخل المحاكم من خلال رسم سياسة جنائية كفيلة بمواجهة الجريمة والتصدي لها.

وبالرجوع إلى العمل القضائي والممارسة العملية لهذه المسطرة يتبين أنها تمس بمجموعة من من الثوابت وتخلق نوع من الإرتباك، سواء أمام النيابة العامة من خلال البحث عن التكييف الحقيقي للأفعال المعروضة عليها دون التطاول على سلطة قاضي الحكم الذي يجد نفسه  أمام تناقض بين الوقائع والتكييف الذي سطرته النيابة العامة، بحيث يمكن أن تجنح النيابة العامة فعلا يعد جناية وتحيل القضية على المحكمة الإبتدائية وفقا لقواعد الإختصاص المعمول بها طبقا لمقتضياته في قانون المسطرة الجنائية، ويحكم بعدم الإختصاص على أساس أن الأمر يتعلق  بجناية ولو سكت الأطراف عن ذلك، كون قواعد الإختصاص من النظام العام وبالتالي وجب احترام تراتبية الجرائم.

وبهذا يكون التجنيح القضائي مبادرة وممارسة انبثقت عن واقع لم تعد المحاكم قادرة على استعابه، لما يكرسه من بطء في المحاكمات وإصدار لأحكام في قضايا لا ترقى إلى خطورة الجناية،  وهو ما يمس الأمن القضائي من خلال التقليص من فعاليته.

يتضح مما تقدم أن التجنيح القضائي ماهو إلا سلطة مخولة للنيابة العامة ( الوكيل العام للملك) وقضاة التحقيق تمكنه من التصرف في الإنتماء النوعي للجرائم من خلال تجنيح جرائم هي في أصلها جنايات، ومرد ذلك رغبة النيابات العامة أنسنة القانون الجنائي بما يتواقف وأهداف السياسة الجنائية  المتبعة تلطيفا لما يعيقها من إكراهات جمة.

 

الخاتمة:

مما لا شك فيه إن التجنيح القضائي رغم كل الإنتقادات والعيوب الموجهة إليه إن من الناحية الموضوعية أو الإجرائية إلا أنه المنفذ الوحيد للتلطيف من قسوة القانون الجنائي، وإعطاء الطابع الإجتماعي للقاعدة القانونية الجنائية، حيث إن السياسة الجنائية المغربية اليوم بحاجة إلى آليات حديثة  تفسح المجال أمام الجهات القضائية خاصة النيابات العامة أو قضاة التحقيق من أجل ملاءمة القانون بالواقع بما يحقق  التوازن بين المصلحة العامة  للمجتمع وكذلك المصلحة الخاصة للأفراد.

[1] ـ ميلود غلاب، التجنيح القضائي وإشكالياته القانونية والعملية، الطبعة الأولى 2011، ص 9

[2] يُقصد بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات حصر مصادر التجريم والعقاب في النصوص محددة، أي تحديد الأفعال التي تعتبر جرائم وبيان عناصرها، ووضع الجزاء المقرر لها… ثم بيان الحد الفاصل بين عمل المشرع وعمل القاضي، أنظر: إدريس لكريني: “السلطة التقديرية للقاضي الزجري”، مطبعة التلمساني، الطبعة الأولى، 1425هـ/2004م، ص: 252.

[3] – الآية 15 من سورة الإسراء.

[4] – الآية 165 من سورة النساء.

[5] لطيفة المهداتي: “حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء”، مطبعة طوب بريس، الطبعة الأولى سنة 2007، الرباط، ص: 14.

[6] ـ ابراهيم الدريف، التجنيح القضائي، بحث نهاية التدريب،  المعهد العالي للقضاء، الفوج 41، فترة التدريب 2016 ـ 2017، ص 11.

[7] ـ ابراهيم الدريف، التجنيح القضائي، مرجع سابق، ص 18.

[8]–  لطيفة الداوي: “القانون الجنائي المغربي”، القسم العام، السنة الجامعية: 2002 – 2001، مراكش، ص: 180.

[9]-عبد السلام بنحدو: “الوجيز في القانون الجنائي المغربي”، الطبعة الرابعة، سنة 2000، ص: 283.

المعلومة القانونية

*الأستاذ محماد الفرسيوي

محامي متمرن

باحث في العلوم الجنائية

قد يعجبك ايضا