المجتمع المدني في زمن الكورونا: الأدوار الوظيفية وتحديات استمرارية الحراك الاجتماعي

الملخص

تهدف هذه الورقة إلى مناقشة الأدوار الوظيفية للمجتمع المدني إلى جانب الحكومات في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد، مع الإشارة إلى أهمية المساهمة المجتمعية في التخفيف من الاثار الاقتصادية والاجتماعية للفئات الأكثر تتضررًا من جائحة كورونا. كذلك نحاول هنا الوقوف عند تمظهرات التحركات التي قامت بها منظمات المجتمع المدني لمواجهة تحديات وانعكاسات الجائحة على استمرارية الفعل المدني نفسه والحركات الاجتماعية بمختلف بلدان العالم.

الكلمات المفتاحية: المجتمع المدني، كورونا، الحركات الاجتماعية

Abstract

 

This paper aims to discuss the functional roles of civil society,also the governments in facing the emerging coronavirus pandemic, while pointing out the importance of societal contribution to mitigating the economic and the social effects of the most affected groups by the pandemic. We are also trying here to stand at the manifestations of the movements made by the civil society organizations to face the challenges and the pandemic repercussions on the continuity of the civil act itself and the social movements around the world.

Key words: civil society, corona, social movements

مقدمة:

يعتبر فيروس كوفيد 19 المستجد جائحة تدفع الجميع إلى إعادة تقييم نمط العيش بصفة عامة وطريقة تدبير الازمات بصفة خاصة، وما قد يعنيه هذا بالنسبة للاقتصاد أو السياسة أو التفاعلات الاجتماعية كما نعرفها. ما نراه في كل أنحاء العالم في الوقت الحالي هو ردة فعل بديهية من قِبَل الدول للانغلاق على دواتها. وهذه علامة واضحة على صد العولمة. بل إننا نشهد بدلاً من ذلك تعزيزاً لسلطة الدولة، وإعادة فرض الحدود الصارمة ضد موجات أخرى من العولمة. ويبدو أن نفوذ المنظمات الدولية والإقليمية أصبح في تراجع، في حين بدأت العزلة والسياسات المنغلقة على الداخل تحرز تقدما ملحوظا. وما نشهده يومياً هو أن الحكومات تسرع إلى تبني تدابير الطوارئ، أو تركيز السلطة، أو تعزيز آليات المراقبة على مواطنيها.

ولكن هذه السياسات القومية والانعزالية هي على وجه التحديد ذلك النوع من ردود الفعل التي لا تساعدنا في الكفاح العالمي ضد الوباء. وما ينبغي أن يحدث هو المزيد من التضامن عبر الحدود، والمزيد من الانفتاح والتعاون. والأمر البالغ الأهمية هنا هو أن الدول لا ينبغي لها أن تتحول إلى أجهزة متفشية في كل مكان، واسعة الانتشار وتهيمن على المجال العام بالكامل لمجرد وجود أزمة عالمية تتكشف فصولها. وما ينبغي أن يحدث الآن هو أنه على الرغم من هذه الأزمة (أو بالأحرى بسبب هذه الأزمة على وجه التحديد)، هو ضرورة زيادة مشاركة المواطنين وتمكين المجتمع المدني بشكل أكبر.

إذن كيف ساهم المجتمع المدني في مواجهة جائحة فيروس كورونا والتغيرات الذي فرضها هذا الأخير، و هل ينبغي للمجتمع المدني أيضاً أن يتغير في هذه الأوقات التي تشهد تطوراً دائما للحفاظ على استمراريته؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟

المبحث الأول: الإطار العام لمفهوم المجتمع المدني وادواره الوظيفية

المطلب الأول: الإطار العام لمفهوم المجتمع المدني

المطلب الثاني: مساهمة المجتمع المدني من خلال أدواره الوظيفية في ظل جائحة كورونا

الفقرة الأولى: أدوار المجتمع المدني في ظل جائحة كورونا المستجد

الفقرة الثانية: مساهمة المجتمع المدني في ظل الجائحة (تجارب مقارنة)

المبحث الثاني: انعكاسات جائجة كورونا على المجتمع المدني.. تحديات استمرارية الدور المجتمعي

المطلب الأول: انعكاسات كورونا على الأهداف الـ 17 للتنمية المستدامة التي يشتغل عليها المجتمع المدني

الفقرة الأولى: انعكاسات الجائحة على المجال الاجتماعي والحقوقي

الفقرة الثانية: انعكاسات الجائحة على المجال الاقتصادي والبيئي

المطلب الثاني: المجتمع المدني والحركات الاجتماعية في ظل ظروف الجائحة

الفقرة الأولى: المجتمع المدني والحركات الاجتماعية  في عصر التباعد الاجتماعي

الفقرة الثانية: المجتمع المدني ورهان الاستمرارية ما بعد كورونا

الخلاصة

المبحث الأول: الإطار العام لمفهوم المجتمع المدني وادواره الوظيفية

المطلب الأول: الإطار العام لمفهوم المجتمع المدني

إذا كانت الخاصية المميزة للمعرفة عموما محكومة بتجديد مفاهيمها و بناء معجمها الخاص من خلال وجود آلية       و طريقة واضحة في بنية المفهوم و تنظيم الميدان المعرفي في موضوعه و تخصصه  و أفقه، فإن مفهوم المجتمع المدني لا زال أسير مشكلة المعنى بتعبير فيبر[1] لتباين منطلقه المرجعي ـ الوظيفة ـ و أشكال فهمه و ممارسته ـ التوظيف ـ .

بداية نميز في التعاريف التي أعطيت للمجتمع المدني بين مستويات عدة.

فالمستوى الأول يحصره في الفعالية التي تشجعها الممارسات التعاونية و التشاورية التي هي الجوهر المشترك للعديد من أفكار المجتمع المدني[2].

والمستوى الثاني يحده في مجموع المؤسسات المدنية و الاجتماعية ومن ثم القنوات التي يتم فيها للمجتمع الحديث التعبير عن رغباته و الدفاع عن نفسه في وجه ما يعرف عند هوبز ” اللوفيتان “[3].

أما المستوى الثالث فقد تعاطى فيه أصحابه مع هذا المفهوم بنوع من الاحتراس مخافة التنميط و غياب الدلالة الشافية         و الجامعة المانعة ؛ فعده كريشان كومار [4]مفهوما فضفاضا يميل ليعني كل الأشياء و كل الأشخاص . و يؤكد أن الشعبية المتنامية لهذا المصطلح تزيد من تراكم الالتباسات الموروثة عنه و تخلق قلقا و تناقضات صريحة حوله ، ذلك أن الكتابات عنه كانت احتفالية بدل أن تكون نقدية ، و حسبه محمد أحمد بنيس [5] مفهوما إجرائيا يساعد على اجتراح قراءات جديدة لطبيعة الحراك الاجتماعي بعد أن حالت البلبلة الايديولوجية دون التعامل العلمي معه، في وقت عد هذا المجتمع  ممارسة يومية و خيار اجتماعي و رهان سياسي ضد الدولة الشمولية الراعية و الموجهة لفعاليات البشر، كما يعني أيضا دور القطاع الخاص المنظم و القوي بوصفه حاميا فعليا لهذا المجتمع الذي يشكل دورا حاسما و أساسا[6].

و في السياق نفسه نجد ثلاثة تعاريف تخص السوسيولوجيا السياسية و تعني به مجموع المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات و المنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة[7].

أما التعريف الثاني فهو للندوة التي عقدت ببيروت سنة 1992 التي اقترحت التالي :” المجتمع المدني المقصود في هذه الندوة هو مجموع المؤسسات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدول لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي و مثال ذلك الأحزاب السياسية و منها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة ، و منها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة و الدفاع عن مصالح أعضائها ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب           و المثقفين و الجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية ، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية و بالتالي يمكن القول أن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الأحزاب السياسية ، النقابات المهنية ، النقابات العمالية ، الجمعيات الاجتماعية و الثقافية “[8].

المطلب الثاني: مساهمة المجتمع المدني من خلال أدواره الوظيفية في ظل جائحة كورونا

الفقرة الأولى : أدوار المجتمع المدني في ظل جائحة كورونا المستجد

كان لا بد لمنظمات المجتمع المدني من دور مساند لمؤسسات الدولة الرسمية في مجابهة جائحة كورونا، عقب إصدار منظمة الصحة العالمية في يناير2020 نداء إلى جميع دول العالم بأن تكون على أهبة الاستعداد للوقاية من خطر الانتشار الدولي لفيروس كورونا المستجد، وما تبع ذلك من إعلان لحالة الطوارئ في المغرب في 19 مارس 2020م، وهو ما طرح العديد من التساؤلات حول ماهية الأدوار التي من المفترض أن يلعبها المجتمع المدني لمواجهة هذه الجائحة، وما نتج عنها من صعوبات وعوائق اقتصادية.

يتبلور لمنظمات المجتمع المدني في ظل اتساع موجة انتشار جائحة كورونا دور هام واستراتيجي لتكون بمعية مؤسسات الدولة على قدر من الجاهزية لمواجهة تلك الجائحة وآثارها، ويمكننا القول أن دور تلك المنظمات يتمركز في اتجاهات ثلاثة[9]، وهي:

دور توعوي: يتمثل في نشر الوعي لدى المواطنين حول خطورة وباء كورونا، وتحسيسهم بضرورة الالتزام بقواعد الصحة الأساسية، ووسائل الوقاية من هذا الوباء الخطير، وتقديم المعلومات الإرشادية لمساعدة المواطنين على التصدي للإشاعات في ظل هذه الأزمة، وتوعية الجمهور بخطورة عدم الانضباط والاستهتار بإجراءات السلامة والذي ستكون له عواقب وخيمة على كافة أطياف المجتمع في حال استمراره. لقد أصبح دور منظمات المجتمع المدني وتأثيرها في الصحة العالمية خاصة موضوعاً شديد الأهمية نتيجةً للتغيرات الديموقراطية في البيئة السياسية للبلدان والحاجة للابتكار في الصحة العالمية[10].

دور ميداني: يقوم على مساعدة الدولة في التصدي لهذا الوباء من خلال توفير الأطر المؤهلة لمعالجة الأثار الناجمة عن تلك الجائحة، مثل: تقديم المساعدات العينية والصحية للمواطنين، وتوزيع المواد الغذائية على المحتاجين، وتوفير المتطوعين المؤهلين للمساعدة في أعمال الرعاية في مناطق الحجر الصحي(مثل منظمة الهلال الأحمر المتخصصة في الإسعاف والانقاد المدني ومبادراتها خلال هذه الفترة)، والتدخل العاجل لمواجهة أي انتهاكات لحقوق المواطنين خلال حالة الطوارئ الصحية (حملات التحسيس حول العنف ضد النساء)، من خلال مساعدة الضحايا في انصاف وتعويض عادل، والضغط لمحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات.

دور رقابي: يتم من خلال متابعة المؤسسات لتطورات الأزمة، وكيفية تعامل الحكومة معها، ومتابعة شكاوى المواطنين داخل الحجر الصحي، والرقابة لضمان احترام السلطة التنفيذية أحكام الدستور، واحترام الحقوق والحريات أثناء فترة الطوارئ[11]، كما تعمل منظمات المجتمع المدني في السياق المحلي والوطني على المتابعة اليومية للوضع الإجتماعي في تفاصيله من خلال متطوعين وفاعلين محليين بحيث يسجلون في كل منطقة الاختلالات والتجاوزات ويعملون على التبليغ عنها عبر وسائل عديدة : جمعيات حماية المستلك، مراسلة وإخبار السلطات المحلية المعنية ، صفحات على الفايسبوك واليوتوب تُنشأ لهذا الغرض، بحيث يجعل الوعي الفوري بالتجاوزات والاختلالات من الحلول أسرع وأسهل و أنجع[12] .

إن دور منظمات المجتمع المدني لا يتعارض بالمطلق مع ما تقوم به الحكومة من إجراءات رسمية لمواجهة هذه الجائحة، بل هو مكمل له؛ لذلك ينبغي على الحكومة أن تقوم بإشراك المجتمع المدني في جهودها للتصدي لتداعيات تلك الجائحة، وأن تسهل جميع أنشطته وأعماله.

وحتى تستطيع منظمات المجتمع المدني القيام بدورها بفعالية، فمطلوب من السلطات أن تساعدها على ذلك من خلال إيجاد بيئة تشريعية وسياسية وبرامجية جيدة، وأن تعترف بالدور المهم لتلك المنظمات وتعززه، كما يجب على منظمة الصحة العالمية أن يكون لها دور في تدعيم الشراكات بين وزارة الصحة ومنظمات المجتمع المدني، ويجب أن تكون مشاركة منظمات المجتمع المدني في مجابهة هذا الفيروس مشاركة رسمية  وليست رمزية فقط[13].

الفقرة الثانية: مساهمة المجتمع المدني في ظل الجائحة (تجارب مقارنة)

هي مجموعة من الأدوار التي أخدها المجتمع المدني على عاتقه خاصة في هذه الفترة العصيبة التي يمر منها العالم وحاول تجسيدها من خلال عدة تمظهرات. ففي تونس على سبيل المثال، انضم أكثر من 100 ألف شخص إلى مجموعة على الموقع للتواصل الاجتماعي Facebook تجمع بين متطوعين للمساعدة في مكافحة الفيروس. المجموعة لديها الآن 24 مركز تنسيق في جميع أنحاء البلاد، جمع متطوعوها الأموال والإمدادات الطبية، وقاموا بتطهير الأماكن العامة، وعملوا مع السلطات المحلية لتحديد الأسر ذات الاحتياجات المالية العاجلة. في إيران، قامت مجموعة من الشركات والمتطوعين بتسليم 70 ألف جهاز تنفس ومعدات حماية أخرى للعاملين الصحيين الإيرانيين. وبالمثل، في بولندا، ظهرت منصات جديدة على الإنترنت            و وسائل التواصل الاجتماعي يتم من خلالها تقديم الدعم والتنظيم لتزويد الطاقم الطبي بالمعدات والطعام. بدأت تظهر العديد من المبادرات المحلية الأخرى، حيث قامت مجموعة من الجمعيات بالمغرب بتوفير منصات رقمية تساعد التلاميذ في عملية التعليم عن بعد وتقديم لهم خدمات التوجيه الأكاديمي والنفسي. على الرغم من أن كل هذه المجموعات تهدف إلى تلبية الاحتياجات الفورية للناس، فإن بعض النشطاء الذين يقودون المسؤولية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى يسعون أيضًا إلى تعزيز مهمة سياسية أوسع: تعزيز مرونة المجتمع تجاه الأزمات المستقبلية وبناء أساس الحركات الاجتماعية الجديدة للحكم السياسي والتغيير الاقتصادي[14].

المبحث الثاني: انعكاسات جائجة كورونا على المجتمع المدني.. تحديات استمرارية الدور المجتمعي

المطلب الأول: انعكاسات كورونا على الأهداف الـ 17 للتنمية المستدامة التي يشتغل عليها المجتمع المدني

تسبب تفشي فيروس كورونا (COVID-19) في أزمة عالمية أربكت السير العام لسياسات الدول والمنظمات غير الحكومية واستراتيجياتها خاصة المتعلقة بأهداف الأمم المتحدة الـ 17 للتنمية المستدامة، مما يجعلنا نطرح اشكالية تأثير الفيروس على هذه الاهداف، وهل يجب أن يبطيء الفيروس من مسيرة الاستدامة أم يمكن أن يعطيها دفعة للأمام؟

الفقرة الأولى: انعكاسات الجائحة على المجال الاجتماعي والحقوقي

وتناول تقرير للأمم المتحدة – تحت عنوان “المسئولية المشتركة والتضامن العالمي” – هذا السؤال الرئيسي بالإضافة إلى دور صناع القرار والشركات والمجتمع المدني لاحتواء الأزمة والحفاظ على المسيرة نحو أهداف التنمية المستدامة، والكفاح للتغلب على أزمة الفيروسات التي كان لها آثار اجتماعية واقتصادية متعددة الأبعاد. وفى هذا السياق جاء تقرير الأمم المتحدة موضحا لأثار هذا الوباء على الأهداف الـ 17 للتنمية المستدامة. الأمر الذي ربما يدفع المنظمة إلى إعادة ترتيب أهدافها وأولوياتها في مرحلة ما بعد الجائحة، التي لا يوجد أي مؤشر يمكن الاعتماد عليه في التكهن بموعد انتهائها، أو بالحجم الفعلي للخسائر المادية والبشرية التي ربما تنجم عنها[15].

فقد أسفر التقرير عن تسبب الوباء في عرقلة انتاج الغذاء وتوزيع المؤن، كما تسبب في عدم تمكن فئات إنسانية كبيرة من الوصول إلى الماء النظيف؛ مما أدى إلى منعهم من غسل اليدين بالشكل الصحيح.

فحسب احصاءات منظمة الصحة العالمية يوجد 3 مليار شخص على الصعيد العالمي قد لا يحصلون حتى على مرافق أساسية لغسل اليدين في منازلهم.  ولعل هذا ما جعل هذه الفئات أكثر عرضة للإصابة بالوباء.

وفى هذا الصدد أشار التقرير إلى أن سكان العشوائيات اكثر عرضة للإصابة بالفيروس نظرا لكون العشوائيات هي الأكثر كثافة فضلاً عن افتقارها إلى النظافة والتطهير. ليس هذا فحسب بل تسبب هذا الوباء في عجز النظام الصحي في معظم الدول عن استقبال جميع المصابين بالفيروس، ناهيك عن تأثيره الكارثي على نتائج الكشوف الطبية.

وفيما يتعلق بالتعليم أشار التقرير إلى تأثر ما يقرب من 1.25 بليون متعلم، أو 72.9%من مجموع المتعلمين المسجلين في جميع أنحاء العالم بتفشي الفيروس التاجي حتى 20 مارس الماضي. حيث تسبب الفيروس في غلق كثير من المدارس ولجوء كثير من الحكومات إلى التعليم عن بعد .. الذي عدهُ كثيرٌ من الخبراء بأنه غيرُ متكافئ، وليس متاحا لكثير من التلاميذ.

وحسب ما تضمنه التقرير فقد تسبب الوباء في انتهاك مبدأ المساواة بين الجنسين، إذ جعل المرأة تفقدُ جزءاً كبيراً من دخلها، فضلاً عن زيادة معدل العنف الموجه إليها. فلما كانت النساء تمثلن الشريحة الأكبر من العاملين في الصحة والرعاية الاجتماعية؛ فهن الأكثر عرضة للإصابة بالوباء[16].

الفقرة الثانية: انعكاسات الجائحة على المجال الاقتصادي والبيئي

وفيما يتعلق بالعمل اللائق والنمو الاقتصادي فقد توقعت منظمة العمل الدولية أن يفقد ما يقرب من 25 مليون شخص وظائفهم بسبب الأزمة الاقتصادية، وأزمة العمل الناجمة عن الوباء. وحذرت المنظمة من أن الأشخاص الذين يعملون في وظائف غير رسمية لن يحصلوا على الحماية الاجتماعية التي يحتاجونها في أوقات الأزمات.  ودعت الحكومات إلى أن تضمن على الأقل مستوى أساسياً من الضمان الاجتماعي للجميع، وأن تكفل تدريجياً مستويات كافية من الحماية لأكبر عدد ممكن من الناس، وفي أقرب وقت ممكن.

وأشار التقرير إلى المغارم الاقتصادية التي يمكن أن تتكبدها الدول من جراءِ انتشارِ هذا الوباء.  إذ أن انتشاره أدى إلى تعطلِ أو توقفِ كثيرٍ من الأنشطةِ الاقتصادية، كما أدى إلى تقليص وقت العمل وتخفيف أعداد العمالة؛ مما تسبب فى تراجع مستوى الدخل، وارتفاع معدلات البطالة .. ووقوع كثير من الأسر والمجتمعات تحت خط الفقر ففي الأزمات عادة ما يدفع الفئات الأكثر ضعفا الثمن باهظاً.

وحول الأجواء الإيجابية التي تسبب هذا الوباء في خلقها، أشار التقرير إلى أن انتشار هذا الوباء دفع الأمم المتحدة إلى توجيه نداء عالمي عاجل لوقف إطلاق النار في جميع الأنحاء، كما دعت إلى بذل جهدٍ دوليٍ موحدٍ لمكافحة الوباء، والتركيز على المعركة الحقيقية لحياة الشعوب، فاكثر الناس عرضةً للمعاناة من الخسائر المدمرة للفيروس هم سكان المجتمعات المليئة بالصراعات.

ورغم الثورة المتفاقمة ضد العولمة التي كرسها الفيروس وانشغال الحكومات عن أنشطة وبرامج تحسين المناخ وتكريس الجهود للتعاون الدولي من أجل الصحة العامة، إلا أن تراجع معدلات الإنتاج وانخفاض حركة التنقل تسببوا بشكل غير مقصود فى تراجع معدلات التلوث البيئي.

وأشار التقرير في خاتمته إلى أن معظم الجهود التي تبذلها حكومات العالم لمواجهة كورونا هي جهود ” دفاعية ” ربما لا تحقق النتائج المرجوة منها لمواجهته، فليس بالدفاع وحده نكسب المعركة، وإنما بالهجوم أيضاَ، ومن ثم فنحن بحاجة إلى مواجهة الفيروس بتكتيكات متطورة ومحددة الهدف.

المطلب الثاني: المجتمع المدني والحركات الاجتماعية  في ظل ظروف الجائحة

في عصر حيث يفرض كوفيد-19 بإعادة تقييم بعض ممارسات التفاعل الاجتماعي الأساسية، مثل تصافح الناس، فهل من المحتم أن يتحول المجتمع المدني إلى كيان آخر؟ و بشكل أعمق، في عصر حيث قد يصبح الابتعاد الاجتماعي قاعدة يومية، وربما لسنوات قادمة، ماذا قد يحدث للتجمعات الضخمة التي تعبئها منظمات المجتمع المدني؟ ملتقيات ومنتديات، تجمعات طلابية، نشاطات شبابية؟ ماذا سيحدث للحركات الاجتماعية واحتجاجات الشارع؟

الفقرة الأولى: المجتمع المدني والحركات الاجتماعية في عصر التباعد الاجتماعي

لا يتعلق الامر بإثارة القلق بدون داع بل بالأحرى للتفكير في التغييرات التي قد يتعرض لها المجتمع المدني بشكل طبيعي في الأعوام المقبلة. ولا يزال المجتمع المدني والحركات الاجتماعية تحفز على دفع التغيير إلى حد حقيقي.  وربما كان هذا هو التهديد الأشد خطورة الذي تواجهه الأنظمة السياسية.  حتى وقت قريب للغاية، كان العالم مليئا بالاحتجاجات، في نظر العديد من الناس، عام 2019 كان عام احتجاجات الشوارع بامتياز. فمن شيلي إلى هونغ كونغ، ومن أرمينيا إلى الجزائر، يطالب الناس من جميع أنحاء العالم بوضع حد للفساد، وزيادة المساءلة، والمساواة في الحقوق. ولكن في الشهرين الماضيين، كان العالم هادئا، ولا يكاد يكون هناك أي صوت احتجاج يمكن سماعه[17].

وبالنظر إلى خطورة هذا الوباء، فإن هذا أمر مفهوم.  في الجزائر، أوقف فيروس كورونا احتجاجاً دام عاماً ضد الطبقات الحاكمة. كما توقفت الاحتجاجات ضد تغير المناخ. وقد دفعت الحشود في هونج كونج إلى الضغط على زر الإيقاف المؤقت بينما تكافح المدينة الفيروس.

لا شك أن هذه تطورات محمودة بالنسبة للأنظمة الشمولية في مختلف أنحاء العالم.  لا يوجد موسيقى أكثر هدوء لأذنها من صوت الشوارع والساحات الصامتة.  ولكن من المؤكد أن الغريزة البشرية للتكلم بصوت مسموع سوف تجد وسيلة أخرى لكي نستمع إليها من جديد.  في الواقع أن هناك بالفعل بؤر للمقاومة والتعبئة الاجتماعية تحدث. ورغم أن المظاهرات المذكورة أعلاه في هونج كونج توقفت، فقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن أغلبية واضحة من السكان يطالبون باستقالة عمدة المدينة. وفي شيلي، عادت الاحتجاجات التي اندلعت العام الماضي بسبب أوجه عدم المساواة الاجتماعية العميقة الجذور إلى الاشتعال من جديد، الأمر الذي أدى إلى اعتقال 14 شخصا في 21 أبريل. ففي العاصمة كوسوفو بريشتينا، على الرغم من الحجر الصحي، كان الناس يمارسون طرقاً إبداعية للاحتجاج للإطاحة بالحكومة من خلال قرع القدور والمقالي من شرفاتهم. كان المحتجون في بولندا يتحدون إجراءات الحجر الصحي لمعارضة اقتراح الحكومة الذي من شأنه أن يمنع الإجهاض بالكامل تقريباً. إلا أنهم فعلوا ذلك من خلال الحفاظ على مسافة اجتماعية تبلغ مترين بينهم. وفي ميدان رابين في تل أبيب، احتج 2000 إسرائيلي على التدابير المناهضة للديمقراطية التي تم اتخاذها أثناء أزمة الفيروس التاجي وسياسات الحكومة. كما احترموا قواعد التباعد الاجتماعي أثناء الاحتجاج[18].

الفقرة الثانية: المجتمع المدني ورهان الاستمرارية ما بعد كورونا
في البداية، قد يبدو الأمر وكأن الوقت الذي ينتظر منظمات المجتمع المدني أكثر صعوبة، وجد عصيب. وعلى الرغم من وجود إرادة، فإن عمليات التعبئة والتنظيم واجهت فجأة عقبات، يُطلب من الناس البقاء في منازلهم، وحتى عندما يُسمَح لهم بالمغامرة في الخارج، فلابد من احترام مسافة التباعد الاجتماعي.

ولكن كما رأينا من الأمثلة المقدمة سابقا، فإن الفعل المدني لا يزال حياً ويجد سبلاً جديدة للتعبير عن نفسه، ومن المرجح أيضاً أن يحدث هذا التحرك النشط في كثير من بلدان العالم.  والواقع أن وسائل التواصل الاجتماعي، والتطبيقات، والهواتف الذكية، إلى آخر ذلك، لعبت بالفعل دوراً بالغ الأهمية في تحفيز الاحتجاجات كتلك التي اندلعت في ميدان التحرير في مصر في عام 2011. ومن المحتم أن يتسارع هذا النشاط المدني في المستقبل.

ومن بين الأخطاء التي لا ينبغي للحكومات أن تقوم بها أن تفترض أن أزمة الفيروس التاجي سوف تساعد في القضاء على المجتمع المدني والاحتجاجات الاجتماعية، وقد يجازفون أولئك الذين يقومون بمثل هذه الحسابات باستبدال النظام بنوع من Coronacracy ــ بمعنى النظام السياسي الذي يستخدم التدابير المرتبطة بالفيروس التاجي لخنق المعارضة والمجتمع المدني. [19]وقد يؤدي هذا إلى إحباط معبأ، وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى اضطرابات اجتماعية. وما ينبغي فهمه وتقبله هو أن رغبة الناس في التغيير دائمة، وهذه الرغبة سوف تجد حتماً سبلاً جديدة للتعبير عن نفسها في المستقبل على الرغم من وبسبب القيود التي يفرضها الفيروس التاجي.

 

الخلاصة

يعتقد ألان تورين عالم الاجتماع الفرنسي أننا ندخل نوعا جديدا من “مجتمع الخدمات بين البشر”[20] وهو الامر الذي يبرز أهمية الفعل المجتمعي لمكونات المجتمع المدني، ومن الواضح أن زيادة استخدام الأنظمة السياسية القمع سترافق هذه النشاط المدني والحراك المجتمعي، سواء بفرض الحجر، كما يحدث في بعض الدول، أو لاحتواء قوى المعارضة.

لكن سيعقب أزمة كورونا تحوّل في المشهد السياسي بمختلف بلدان العالم خاصة الدول النامية “في ظل إعادة توجيه الحركات الاجتماعية اهتمامها نحو المشاكل المتعلقة بتفشي الجائحة؛ مثل ضعف الرعاية الاجتماعية، وعدم المساواة الاجتماعية، وسوء الرعاية الصحية” وبالتوجه كذلك إلى فضاءات أخرى للتعبير وبوسائل أكثر تطورا ورقمنة.

 

الإحالات

[1]  ماكسيميليان كارل إميل فيبر (21 أبريل 1864 – 14 يونيو 1920) كان عالمًا ألمانيًا في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة واهتم بمفهوم المجتمع المدني.

[2] كلاوس أوفه، المجتمع المدني و النظام الاجتماعي، مجلة الثقافة العالمية ، ع 107، 2001، ص 57

[3] سعيد بنسعيد العلوي، المثقف العربي و استراتيجيات التنمية ، مجلة الوحدة ، س 6، ع 66، 1990، ص 82

[4] كريشان كومار ،حول مصطلح المجتمع المدني ، مجلة الثقافة العالمية ، ع 10، 2001،  ص 36

[5] محمد أحمد بنيس ،المجتمع المدني العربي و التباسات التأصيل ، مجلة وجهة نظر ، س2، ع 7، 2000،  ص 14

[6]  عمر البرنوصي ،مفهوم المجتمع المدني ، مجلة فكر و نقد ، س 4، ع 37، 2001،  ص 23.

[7]  المرجع نفسه، ص 30

[8] رشيد اليملولي ، مقال حول ” إشكالية المجتمع المدني في المغرب” مجلة جدلية الالكترونية يوم الأربعاء 15 أكتوبر 2014

[9]المنصة الدولية لمنظمات المجتمع المدني العاملة لأجل فلسطين،  مقال حول “دور منظمات المجتمع المدني في مواجهة جائحة كورونا”  نشر بتاريخ 15 ماي 2020 على الموقع المنصة http://ipalestine.org.uk/ar

[10] Silberschmidt G, Matheson D, Kickbusch I. Creating a committee C of the World Health Assembly. Lancet 2008; 371: 1483-6 doi: 10.1016/S0140-6736(08)60634-0 pmid: 18456086. (The challenge of global health)

[11] Saul Mullard and Per Aarvik : Supporting civil society during the Covid-19 pandemic ,The potentials of online collaborations for social accountability (chr. michelsen institute) https://www.cmi.no

[12]  حسن مروان، مقال حول “جمعيات المجتمع المدني وجهود مكافحة وباء كرونا” نشر في جريدة المغرس الكترونية بتاريخ 16 ابريل 2020

[13]  The New Humanitarian ;”  Civil society demands more partnership with governments  “Journalism from the heart of crises , 13 June 2008 ( https://www.thenewhumanitarian.org/news/2008/06/13/civil-society-demands-more-partnership-governments)

[14] SASKIA BRECHENMACHER,  THOMAS CAROTHERS,  RICHARD YOUNGS :”Civil Society and the Coronavirus: Dynamism Despite Disruption”  CARNEGIE ENDOWMENT FOR INTERNATIONAL PEACE, April 2020 (https://carnegieendowment.org)

[15] SOUMYA BHOWMICK :  « Covid-19 ‘infecting’ Sustainable Development Goals » An article published on the website( https://asiatimes.com/2020/04/covid-19-infecting-sustainable-development-goals/) 29 April 2020

[16]محمد الغباشي: ” تقرير أممي يرصد مستقبل الأهداف العالمية للتنمية المستدامة في ظل تفشي فيروس كورونا” 11 ابريل 2020 عن مصدر https://www.csregypt.com/

[17] Armend Bekaj, Civil society in times of the coronavirus: reinventing its role, International Institute for Democracy and Electoral Assistance (International IDEA), PUBLISHED:  23/04/2020 (https://www.idea.int)

[18]Armend Bekaj, Ibid

[19] TOI STAFF: Welcome to the coronacracy: 6 things to know for March 19, PUBLISHED: 19 March 2020 (www.timesofisrael.com)

[20]  ألان تورين، مقال ” أكبر عالم اجتماع فرنسي يحلل الجائحة…” نشر بالموقع الالكتروني للقناة الجزيرة بتاريخ 17/4/2020 https://www.aljazeera.net/

المعلومة القانونية

*حاتم الحمراني

باحث في ماستر القانون الدستوري والعلوم السياسية

قد يعجبك ايضا