مصطفى الهايج: مكانة السلطة التشريعية في دستور 2011

يشكل البرلمان أحد الركائز الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة السياسية، كما يعتبر سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والقضائية، غير أن هذا لا يعني عدم وجود علاقة بين هذه السلط، فعلى مستوى علاقة السلطة التشريعية بالسلطة التنفيذية، نجد أن الدساتير التي تعاقبت بالمغرب، تحدد مجال القانون على سبيل الحصر، وما لا يشمله القانون فهو من اختصاص السلطة التنظيمية، فبالإضافة إلى وظيفة البرلمان التشريعية والتمثيلية، فإنه يستطيع من  خلال النظام الدستوري الجديد، والرقابة الفعالة  التي يمارسها على السلطة التنفيذية، أن يضمن توازنا بين السلطات، حيث تم إعادة النظر في بنية البرلمان من خلال تقوية مجلس النواب على حساب مجلس المستشارين، سواء من حيث عدد الأعضاء أو من حيث الاختصاص.

فقد ولدت المؤسسة البرلمانية المغربية رسميا مع الوثيقة الدستورية سنة 1962، وهو أول دستور تعرفه المملكة بمجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين، فعرف المغرب أول انتخابات عام 1963، حيث ولدت معها الولاية التشريعية الأولى 19631965، التي لم تدم إلا سنتين، انتهت مع اعلان الملك الراحل الحسن الثاني عن حالة الإستثناء، واستمر العمل بغرفة واحدة في دستور 1970، في الولاية التشريعية الثانية 1970-1971،  وفي دستور1972، في الولاية التشريعية الثالثة 1977-1983، والولاية التشريعية الرابعة 1984-1992، وفي دستور 1992، في الولاية التشريعية الخامسة 1993-1997، أما في دستور 1996 فتم إعادة العمل بالمجلسين في الولاية التشريعية السادسة 1997-2002، والولاية التشريعية السابعة 2002-2007، والولاية التشريعية الثامنة 2007-2011، وفي دستور 2011، في الولاية التشريعية التاسعة 2011-2016، والولاية التشريعية العاشرة 2016-2021.

وفي ظل هذه التجارب التي عرفتها المؤسسة البرلمانية أصبحت المسؤولية السياسية للحكومة لها معنى بعد أن أصبح البرلمان ينصب الحكومة، وأصبح البرلمان الذي صوت على البرنامج الحكومي له إمكانية مراقبة مدى التزام الحكومة بتنفيذ هذا البرنامج، من خلال عقد جلسة شهرية لتتبع السياسات العامة التي تنهجها الحكومة بحضور رئيسها، الذي يجيب على أسئلة أعضاء البرلمان، وأيضا تخصيص جلسة سنوية بغية تقييم السياسات العمومية.

ومن بين أهم المقتضيات الجديدة التي نص عليها دستور 2011، والتي تستهدف النهوض بالعمل الرقابي، والعمل على تطويره، وعقلنته ومأسسته تلك المتعلقة بالمعارضة البرلمانية، حيث خصها بمكانة متميزة  لم تكن تحظى بها سابقا، حيث نص الفصل 10 على العديد من الحقوق الأساسية من بينها المشاركة الفعلية في مراقبة العمل الحكومي، لاسيما عن طريق ملتمس الرقابة ومساءلة الحكومة والأسئلة الموجهة للحكومة، واللجان النيابية لتقصي الحقائق. كل هذا من أجل نهوض المعارضة بالأداء البرلماني الجيد وضمان مشاركتها في العمل التشريعي والعمل الرقابي والعمل الدبلوماسي أمرا غاية في الأهمية.

لكن رغم ما حمله الدستور الجديد من مستجدات ايجابية بالنسبة للمعارضة البرلمانية، لكن ذلك لم تستثمره المعارضة البرلمانية الحالية، ولم ترق إلى مستوى ما جاء به الدستور الجديد لأسباب عديدة أبرزها غياب الإنسجام بين فرق المعارضة وعدم تكتلها للقيام بمعارضة مؤسساتية.

كما أن البرلمانيين توجهت اهتماماتهم بشكل أكبر للأسئلة الشفوية، كونها تحظى بالنقل التلفزي، بالإضافة إلى تشكيل بعض لجان تقصي الحقائق كشكل من أشكال إعمال الرقابة على الأداء الحكومي، بعيدا عن اللجوء إلى إعمال الآليات الأخرى التي ينص عليها الدستور بسبب تعقيد مساطرها.

أما بخصوص الدبلوماسية البرلمانية فما زالت ضعيفة على مستوى النتائج  والمردودية، رغم كثرة الإستقبالات والسفريات التي يقوم بها أعضاء المجلسين، حيث لازال حضور البرلمان في الفعل الدبلوماسي يحتاج إلى العقلانية في اختيار الكفاءات المتفاوضة.

وفي إطار تخليق الممارسة البرلمانية، اتجه المشرع الدستوري نحو القطع مع مجموعة من المظاهر السلبية لسلوكات أعضاء البرلمان، وذلك بالتنصيص على منع الترحال البرلماني وتجريد النائب البرلماني من صفة العضو في أحد المجلسين في حالة تخليه عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه في الإنتخابات أو عن الفريق أو المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها، كما أنه ألزم مجلسي البرلمان بالتنصيص على الجزاءات المرتبطة بالغياب وذلك عند وضعهما لنظاميهما الداخليين.

فضعف الترسانة القانونية على مستوى الدستور أو على مستوى الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان، تحمي هذه المؤسسة من هيمنة الحكومة، نظرا لوجود علاقة تتسم بانعدام التوازن بينهما، وترجيح كفة الجهاز التنفيذي بقطبيه على الجهاز التشريعي، فلا الدستور ولا الأنظمة الداخلية للمجلسين استطاعا أن ينصفا المؤسسة البرلمانية، باعتبار هذه الأخيرة سلطة تشريعية مستقلة ومؤسسة دستورية لا تحتاج لا للرعاية ولا للوصاية من طرف مؤسسات دستورية كيفما كانت مكانتها أو أهميتها في المنظومة السياسية.

لذلك فمن الطبيعي أن تكون الحكومة متفوقة على البرلمان في حصيلة الإنتاج التشريعي، طالما أنها تتوفر على الأمانة العامة للحكومة التي توصف بالمستشار القانوني للحكومة، والتي تتوفر على مستشارين قانونيين واقتصاديين ذو كفاءة وخبرة كبيرة في التشريع، والبرلمان لا يتوفر على مثلها لكي يقوم بالمهمة التشريعية على أحسن وجه، فالبرلمانيين يشكون من نقص في الكفاءة اللغوية والقانونية لصياغة القوانين، كما يفتقرون إلى المعلومات والمعطيات التي تمكنهم من الإعتماد عليها لإنتاج القوانين، فالحكومة تحتكر المعلومات، وبالتالي يحتاج البرلمان إلى مثل ما تتوفر عليه الحكومة من امكانيات.

لذلك فالإصلاح الدستوري ليس وحده الكفيل بارتقاء المؤسسة البرلمانية إلى مكانة متميزة، لتحقيق الأهداف المتوخاة من وراء هذا الإصلاح إذ يجب دعمه بالجانب الأخلاقي والقيمي، الذي تكرسه الثقافة السياسية التشاركية والإحساس الفعلي بالمسؤولية الملقاة على العضو البرلماني تجاه بلده وناخبيه، فرغم أن الدستور الجديد نص في العديد من المقتضيات على تدعيم العمل البرلماني مقارنة مع الدستور السابق، إلا أن هذه المقتضيات تبقى غير كافية لتحقيق الفعالية والحكامة في العمل البرلماني، ومن هنا يجب العمل على تبني إصلاحات عميقة حقيقية وجوهرية من خلال ربط العمل البرلماني بالحكامة البرلمانية، هذا فضلا عن ضرورة توفر الإرادة والعزم، لدى الفاعلين السياسيين ووجود أرضية فكرية إديولوجية، وسياسية مؤطرة لشروط إرساء حكامة جيدة في العمل البرلماني، مع الإبتعاد عن القوالب الجاهزة والمستوردة في هذا الإطار. وعليه أصبح من الضروري تجويد العمل التشريعي المغربي، حتى يتمكن هذا الأخير من القيام بدوره على أحسن وجه، وذلك من خلال:

  • إلزام الحكومة على الإجابة عن الأسئلة في الآجال المحددة قانونا.
  • تخليق الممارسة البرلمانية من خلال التنصيص في الأنظمة الداخلية على اجراءات تأديبية وعقابية للبرلمانيين وتفعيل مضامينها خاصة ما يتعلق بالحضور سواء في الجلسات التشريعية والرقابية أو الجان البرلمانية.
  • التنصيص في الأنظمة الداخلية على الزامية التكوين وتأهيل النخب البرلمانية، ومد البرلماني بوسائل بشرية ذات كفاءة لتجويد التشريع والعمل البرلماني.
  • تجويد الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان وتضمينها مبادئ الحكامة البرلمانية.
  • تنقية الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان من الغموض والمعاني الملتبسة.
  • الحرص على تكوين البرلمانيين وتزويدهم بتقنيات تحرير وصياغة النصوص القانونية، وذلك حتى يتسنى لهم مناقشة كل المشاريع المحالة على اللجان، وتمكينهم من منهجية التقدم بمقترحات قوانين، تكون في مستوى المشاريع التي تتقدم بها الحكومة.
  • منع الجمع بين المهام، ونقصد هنا تفرغ النائب البرلماني لمهمته البرلمانية دونما إضافة مهمة انتخابية محلية كيفما كانت.
  • إحداث شراكات مع الجامعات والمعاهد المغربية، وتشجيع البحث العلمي عبر تخصيص جوائز ونشر بحوث المتفوقين، خاصة في الدراسات التي لها علاقة بتخصص البرلمان.
  • إلغاء الصفة السرية لأعمال اللجان.
  • نشر أعمال اللجان في الجريدة الرسمية.
  • إعطاء لجان تقصي الحقائق صلاحيات قضائية.
  • فتح البرلمان أمام هيئات المجتمع المدني للمشاركة في أعمال اللجان النيابية.
  • إنشاء بنيات استقبالية أو إحداث أجهزة مهمتها تلقي شكاوي ومذكرات واقتراحات المواطنين والمواطنات داخل البرلمان.

وكخلاصة يمكن القول أن السلطة التشريعية عرفت تطورا كبيرا مقارنة بفترات سابقة، قبل دستور 2011، لكن رغم الإصلاحات الدستورية التي طالت المؤسسة التشريعية في الدستور الجديد، إلا أنه مازال هناك من يشكك في قدرة هذه الإصلاحات من تغيير واقع البرلمان المغربي على اعتبار أن تحديد المشرع الدستوري لمجالات ممارسة البرلمان للسلطة التشريعية، يجعل أعضاء البرلمان يتحركون في إطار منظومة قانونية ودستورية ضيقة جدا بخلاف مجالات التنظيم، الذي يعتبر واسعا لأنه لم يأتي على سبيل الحصر، على اعتبار أن الوظيفة التشريعية أهم الوظائف التي يمارسها البرلمان، وهي الوظيفة التي لم تعد في يد البرلمان لوحده بل أصبحت مشتركة بينه وبين السلطة التنفيذية. وعموما فإن مجموعة الأحكام الدستورية التي تضمنها دستور 2011، ومختلف النصوص القانونية الأخرى خصوصا والرهانات التي رفعها يمكنها أن تكسب البرلمان صبغة خاصة مقارنة مع البرلمانات السابقة، كما تمكنها من إعادة الإحترام وتقييم لوظائفها المختلفة، ونزع تلك الصورة النمطية والتقليدية التي ساهمت في إعطاء نموذج سيء للبرلمان لدى مختلف شرائح المجتمع. لأن البرلمان المغربي لم يكن يشكو من أزمة في الإختصاصات والصلاحيات بقدر ما يعيش أزمة تفعيل هذه الصلاحيات وترجمتها على أرض الواقع.

المراجع المعتمدة

  • محمد ضريف: المعارضة البرلمانية الجديدة، طموح الخطاب وإكراهات الواقع، منشور بجريدة الحدث، العدد 7، 8 نونبر 2000، ص: 13.
  • عبد الإله فونتير: العمل التشريعي بالمغرب، أصوله ومرجعياته الدستورية، دراسة تأصيلية وتطبيقية، الجزء الثالث، سلسلة دراسات وأبحاث جامعية، الطبعة الأولى، مطبعة المعارف الجديدة 2002.
  • ادريس لكريني: نظام الغرفتين في التجربة البرلمانية المغربية، مجلة شؤون استراتيجية، السنة الأولى- العدد الأول، دو الحجة /محرم 1429 موافق ماي/يونيو 2008، ص7.
  • عثمان الزياني: الحماية الدستورية لحقوق المعارضة البرلمانية، مقاربة على ضوء دستور 2011، منشورات مجلة الحقوق، سلسلة الأعداد الخاصة، العدد الخامس، ماي 2012، ص 92.
  • رشيد منظور: العمل البرلماني في المغرب، قضايا وإشكالات، الطبعة الأولى2006، مطبعة طوب بريس، الرباط.
  • رضوان الشباكي: السلطة التشريعية في المغرب، التكوين والإختصاص، دراسة مقارنة، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، وحدة القانون الدستوري وعلم السياسة، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، جامعة محمد الخامس، أكدال الرباط، السنة الجامعية 2005-2006.
  • حسن طارق: السياسات العمومية في الدستور الجديد، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية 92، الطبعة الأولى 2012.
  • دستور المملكة المغربية 2011 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر الصادر بتاريخ 29 يوليوز 2011.
  • الدستور المغربي لسنة 1996 الصادر الأمر بتنفيذه بموجب الظهير الشريف رقم 157.96.1، الصادر بتاريخ 7 أكتوبر، عدد 4420، بتاريخ 10 أكتوبر 1996.

المعلومة القانونية

*مصطفى الهايج

باحث في سلك الدكتوراه القانون العام والعلوم السياسية بكلية الحقوق أكدال الرباط .

قد يعجبك ايضا