تلخيص كتاب المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن – تأليف “ميشيل فوكو”

             آثرت في تلخيص هذا الكتاب الشيق -المعاقبة والمراقبة لميشيل فوكو[2]– أن لا أحيد عن منهجه الكرونولوجي؛ حتى لا أسقط في مطبة الاختزال المانع،  بدءا من المشهد التعذيبي، وصولا إلى ولادة السجن، بشكل تنازلي؛ عبر أقسامه الأربعة: التعذيب / العقاب/ الانضباط/السجن، وفي الآن ذاته، ارتأيت تقسيم الملخص إلى محورين كالآتي:

  • المحور الأول: التعذيب واللطف العقابي  كتكنولوجيات  لممارسة وتنظيم سلطة العقاب
  • المحور الثاني: استثمار السلطة للجسد من الانضباط إلى المراقبة

———————-

المحور الأول: التعذيب  واللطف العقابي  كتكنولوجيات  لممارسة وتنظيم سلطة العقاب

الفقرة الأولى: الحفل التعذيبي كأداة لتنظيم سلطة العقاب ما قبل الثورة الفرنسية

أولا: التحول من فرض السلطة عل الجسد إلى فرض السلطة على غير الجسد

يستهل  فوكو ] الفصل الأول – جسد المحكوم عليهم من القسم الأول- التعذيب-[  بتقديم مثال عن التعذيب الفظيع الذي وقع على “داميان” في الثاني من آذار سنة 1757  ، الذي حكم عليه “بدفع غرامة معنوية هي الإقرار بذنبه علنا أمام باب كنيسة باريس الرئيسي”،[3]  ليعقبه بمثال بعد ثلاثة أرباع قرن عن جدول زمني يومي سطره “ليون فشي” لسجن الأحداث في باريس”[4]. يذهب فوكو إلى أن هذين المثالين يحددان كل على حدة نوعا من أنماط الجزاء ويفصل بينهما أقل من قرن، إنها حقبة “الفضائح” الكبرى بالنسبة للعدالة التقليدية كما يسميها فوكو، وفي نفس الوقت حقبة المشاريع الإصلاحية؛ حقبة نظرية جديدة في القانون وفي الجريمة، تبرير جديد أخلاقي أو سياسي لحق العقاب، إنه العهد الجديد، حيث العقوبات أقل نيلا للجسد بصورة مباشرة، وبعد بضعة عقود سينتهي زمن الجسم المعذب، بل سيزول الجسم كهدف رئيسي للقمع الجزئي. وصاحَب هذا التغير في أواخر القرن الثامن عشر وفي مطلع القرن التاسع عشر؛ تراجع وإمحاء العرض العقابي ، بحيث  سيتحول الاحتفال العقابي إلى مجرد عمل إجرائي إداري، واتجه العقاب إلى ليصبح الجزء الأكثر خفاء في العملية الجزائية، إذ أصبحت فعاليته تعزى إلى حتميته، لا إلى شدته المرئية.

ويشير “فوكو” إلى مجموعة من المتنورين الذين ساهموا في هذه التحولات، ممن دافعوا عن أطروحة انحلال القبضة عن الجسد، ومن بينهم “روش” سنة 1787 حيث قال: “لا أستطيع أن أمنع نفسي من الأمل بأن يكون غير بعيد الوقت الذي تصبح فيه المشنقة وعمود التشهير، ومنصة الإعدام، والسوط، والدولاب، في تاريخ التعذيب، معتبرة من علامات بربرة العصور والبلدان، ومعتبرة كدلائل على ضعف تأثير العقل والدين على النفس البشرية.

بعد وصف “فوكو” لتطور تنفيذ العقوبة، و وصولها لمرحلة ما أسماها “رزانة العقوبة”؛ يتساءل عن تمدد العمق التعذيبي إلى معاقبة ما هو غير جسدي أو ما يسميه “القصاص اللاجسدي”، الذي يفسره بالتطور الذي يلحق غرض العقوبة: “الواقع أن هذه التحولات قد اقترنت بانتقال في الغرض بالذات التي ترمي إليه العملية العقابية”. لكنه في الآن نفسه يتساءل من جديد: إذا اكنت العقوبة لا توجه إلى الجسد، فعلى أي شيء تنصب قبضتها؟، يقدم ههنا جواب منظرين منذ سنة 1760 الذين افتتحوا وفق قوله حقبة لم تقفل بعد، مستحضرا قولة “مابلي”: فليتناول القصاص، إن أمكنني التكلم هكذا، الروح قبل الجسم”. ليعرج بعد ذلك فوكو على تكريس هذا التوجه من خلال تطور التشريع والقضاء نحو إقرار تفريد العقاب شيئا فشيئا داخل 150 سنة.[5] ويؤكد في نفس الوقت على مسألة مهمة وهي  أن العدالة الإجرامية أصبحت مدفوعة إلى إعادة التأهيل هذه عن طريق المعرفة.

وفي هذا السياق يخلص “فوكو” إلى أن هذه التحولات العقابية –نحو التلطيف العقابي / تحول العقوبة من الجسد إلى الروح-  ليست نتيجة جهود حقوقية ولكنها تقنية من تقنيات السلطة وبعد لتكتيك سياسي؛ كتحول عميق في الطرق الجزائية انطلاقا من تكنولوجيا سياسية للجسد. هكذا فهو يرى: “أن الجسد غاطس ضمن حقل سياسي؛ فعلاقات السلطة تعمل فيه عملا مباشرا؛ فهي توظفه، وتطبعه، وتقومه، وتعذبه، وتجبره على أعمال..، هذا التوظيف (الاستثمار) السياسي للجسد مرتبط، وفقا لعلاقات معقدة ومتبادلة باستخدامه اقتصاديا،؛ وإلى حد بعيد كقوة إنتاج، يزود بعلاقات سلطوية وبسيطرة؛ ولكن بالمقابل إن تكوينه كقوة عمل لا يكون ممكنا إلا إذا أخذ نظام استعبادي” وحتى يكون الجسد نافعا ومنتجا يجب أن يكون مسترقَا. أما ما أسماه “فوكو” بالتكنولوجيا السياسية للجسد؛ فلا يمكن أن تتشكل في نظره إلا بمعرفة هذا الجسد والتحكم فيه.[6]

لتكون جدلية السلطة والمعرفة آخر ما اختتم بها “فوكو” الفصل الأول من القسم الأول- مؤكدا أن السلطة تنتج المعرفة وأن السلطة والمعرفة تقتضي إحداهما الأخرى؛ وأنه لا توجد علاقة سلطة بدون تأسيس مناسب لحقل المعرفة، وأنه لا توجد معرفة لا تفترض، ولا تقيم بذات الوقت علاقات سلطة. وفي الأخير يؤكد “فوكو” على أن ما علمه الحاضر أكثر من التاريخ هو أن العقوبات بصورة عامة والسجن من مستلزمات تكنولوجيا الجسد السياسية – التوظيفات السياسية التي يجمعها السجن في هندسته المغلقة- ، ويعطي في ذلك -مثالا- عن  العصيان أو التمرد في السجون ضد كل بؤس جسدي، والذي وفق قوله : “لم تستطع تكنولوجيا النفس؛ من مربين وأطباء النفس..؛ لا أن تحجبها، ولا أن تعوضها عنها، لسبب بسيط هو أنها ليس إلا أداة من أدواتها”.

ثانيا: التعذيب كتكريم للعدالة وإرجاع هيبة الملك

         يستكمل “فوكو” من خلال ] الفصل الثاني (علنية التعذيب) من القسم الأول[ ، المشهد التعذيبي بالحديث عن الأشكال العامة للممارسة العقابية التي فرضتها الإرادة الملكية منذ سنة 1670 حتى الثورة الفرنسية، والتي عرفت فيها العقوبات الجسدية حيزا كبيرا؛ يظهر التعذيب فيها ما له من دلالة، ويعبر عن ذلك بقوله: “فكل عقوبة ذات نسبة من الجدية يجب أن تتضمن شيئا من التعذيب، من هنا يتساءل عن ماهية التعذيب، فيقدمه كتقنية ترتكز على فن بأكمله من كمية الوجع.

كما يرى أيضا أن العدالة كانت تفرض التعذيب، إذ أن أنين المجرم وصراخه تحت الضربات ليس بالأمر الجانبي المخجل، إنه تكريم للعدالة بالذات حيث تتجلى بكل قوتها. هكذا لم يقتصر التعذيب الجسدي في عصر الملوك والإمبراطوريات على مجرد إيقاع الألم، بل كان المشهد العلني للتعذيب أمام حشود من عامة الشعب يشكل جزءا جوهريا من عملية العقاب.

ويثير “فوكو” تلك المفارقة التي تطبع تلك الحقبة الفظيعة، بمناقشته المحاكمات التي كانت سارية حينئذ، بحيث كانت سرية في مجملها يغيب فيها المتهم في جل محطاتها، لكن في المقابل يظل الجسم الحلقة الأهم أو كما يسميها “قطعة أساسية في احتفال العقوبة العامة”، إذ على المتهم أن يظهر للعلن، إدانته وحقيقة الجريمة التي ارتكب، “إن فعل العدالة يجب أن يصبح مقروءا للجميع في هذا الجسم”.

كما أن “فوكو” يصر على أن التعذيب القضائي يجب أن يفهم كما لو أنه طقس سياسي، ويلعب وظيفة قانونية سياسية، إنه احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعد جرحها لحظة، إنه يعيدها بأن يظهرها في كل أبهتها؛ إذ أن التنفيذ العلني العام، يدخل في سلسة مراسم السلطة المغيبة، وبالتالي فتنفيذ العقوبة مجعول لا لإبراز الاعتدال والتوازن، بل لإظهار اللاتوازن والشطط، وأن التعذيب لا يعيد العدالة إلى نصابها بل يقوي السطة. ويتحدث “فوكو” في نهاية هذا الفصل –علنية التعذيب- عن الرقابة الشعبية على التنفيذ أو كما يسميه “انفعالات المشنقة”، بحيث كان للشعب دور كبير في ترجيح العدالة على قوة السلطة التي تحدث عنها “فوكو”.[7]

الفقرة الثانية : اللطف العقابي بين هاجس الاقتصاد السياسي للسلطة وتقليص مستوى اللاشرعيات

أولا: اللطف العقابي كتقنية موظفة للاقتصاد السياسي للسلطة العقابية

يستهل “فوكو” ] الفصل الأول (العقاب معمما) من القسم الثاني (العقاب) [ بالحديث عن الاحتجاجات ضد التعذيب خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وإلغاء المواجهة الجسدية بين العاهل و المحكوم؛ نحو البحث عن إنسانية المجرم في القرن التاسع عشر، “ليصبح فيه هذا –الإنسان- المكتشف في المجرم، هدف التدخل الجزائي”. ويفترض “فوكو” أن الاتجاه نحو تلطيف العقوبة وراءه نية اقتصاد للعقوبات؛ سيصاحب هذا التحول حسب “فوكو” تحول أيضا على مستوى التنظيم الداخلي للانحراف –الانتقال من الاجرام الدموي إلى الإجرام الاحتيالي- ويعزي ذلك “فوكو” إلى نمو الإنتاج، مع تزايد الثروات، مع أساليب رقابية أكثر دقة، ومع تقسيم رقابي عسكري للسكان أكثر دقة، ثم تزامن تحول الممارسات غير الشرعية مع توسع الإجراءات العقابية ورهافتها”.

كل هذه الإصلاحات التي طالت العقوبة، يرى “فوكو” لا تعدو أن تكون إلا “استراتيجية لإعادة تنظيم سلطة العقاب في القرن الثامن عشر، وفقا لأنماط تجعلها أكثر انتظاما، وأكثر فعالية، وأكثر ثبوتية وأفضل تفصيلا في مفاعيلها”؛ وباختصار أن تزيد في المفاعيل وأن تخفف من كلفتها الاقتصادية ( فصلها عن عمليات البيع والشراء..) والسياسية (بفصلها عن تعسف السلطة الملكية). هكذا فإن النظرية الحقوقية الجديدة الخاصة بالعقوبات تغطي في الواقع “اقتصادا سياسيا” جديدا للسطلة العقابية. وهي الاستراتيجيا التي تشكلت بسهولة ضمن النظرية العامة للعقد؛ ليقدم القصاص الجزائي كوظيفة معممة، وذلك لأن المخالفة تقيم بالفعل الفرد في مواجهة الجسم الاجتماعي بأكمله؛ والمجتمع في مواجهة الفرد. وبذلك يخلص “فوكو” إلى أن “حق العقاب قد انزاح من –دلالة-  انتقام العاهل إلى الدفاع عن المجتمع.

ثانيا: قواعد نظرية الدلالات الجزائية كآليات لتقليص مجال اللاشرعيات –الإجرام- عند “فوكو”

            يأتي الحديث عن القواعد التي تشكل  تقنية الدلالات  semio-technique كمحاولة من “فوكو” لتقديم تصورات بديلة للعقاب تسعى لتجنب ارتكاب الجريمة، فأحصى ست قواعد رئيسية من الضرورة أن تسلح بها سلطة العقاب وهي:

  • قاعدة الكمية الأقل: أن تكون الفائدة في تجنب العقوبة أكثر قليلا من المخاطرة بارتكاب الجريمة
  • قاعدة الفكروية الكافية: فما يجعل “العقوبة” في صميم المعاقبة، ليس هو الإحساس بالعذاب بل فكرة ألم، فكرة إزعاج، فكرة إضرار، من هنا فليس للمعاقبة أن تتناول الجسد، بل تتناول التمثيل – تصور العقوبة– بمعنى ليس الألم في حد ذاته الذي سيكون الأداة للتقنية العقابية.
  • قاعدة المفاعيل الجانبية: “يجب أن تأخذ العقوبة مفاعيلها الأكثر زخما عند الذين لم يرتكبوا الخطأ.
  • قاعدة اليقين التام: “يجب أن تقترن فكرة الجريمة والفوائد المتوقعة منها بفكرة عقوبة محددة” بأن تكون العقوبات واضحة تمام الوضوح من خلال التشريع والنشر..؛ بأن تصبح في متناول كل فرد، كما “يجب أن يعتبر الرابط بين جريمة والعقوبة ضروريا”، لذلك “فوكو” يرى أن العاهل يجب أن يتخلى عن حقه في العفو، حتى لا تصبح القوة الموجودة في فكرة العقوبة ضعيفة بفعل الأمل بهذا التدخل.
  • قاعدة الحقيقة المشتركة: ينطلق “فوكو” في تبيان هذه القاعدة من واقع تاريخي وهو “أن أنصاف الأدلة تعطي أنصاف الحقيقة وأنصاف مجرمين”، فهو يرى أن الحفاظ في أفكار الناس على فكرة الربط المطلق بين الجريمة والعقوبة لن يتحقق إلا إذا “تبع واقع العقوبة في جميع الأحوال واقع الجرم”؛ وذلك عن طريق إثبات واقع الجرم وفقا للوسائل السارية على الجميع من وسائل للتثبت من الجريمة وتحقيقات عادلة. دون تنكيل ونزع للاعترافات كما كان في السابق.
  • قاعدة التخصص الأمثل: لكي تستطيع نظرية الدلالات الجزائية أن تغطي تماما كل حقل اللاشرعيات التي يراد قصرها وحصرها، لابد من توصيف كل المخالفات وتصنيفها، إذ لا بد من قانون شامل وواضح، يحدد الجرائم ويثبت العقاب. فضلا عن فردنة للعقوبات تتلاءم مع الطباع الفردية لكل مجرم.

في آخر هذا ]الفصل –العقاب معمما-[ يطرح “فوكو” فرضية الدخول في عصر العقوبات اللاجسدية، في ظل تحقق أنسنة العقوبات كسياسة محسوبة من قبل سلطة العقاب، استدعت نقلة في نقطة ارتكاز هذه السلطة: “وهي ألا يكون الجسد هو المقصود باللعبة الطقسية للآلام المبرحة، وبالوسمات البارزة ضمن طقسية التعذيب؛ بل أن يكون الفكر“. لكن قبل ذلك يعتقد “فوكو” أنه في هذه الظرفية التاريخية  بالذات غدا من الممكن وضع المشروع السياسي الرامي إلى قمع الإجرام او “اللاشرعيات” حسب تعبيره، وإلى تعميم الوظيفة العقابية، وتحديد سلطة العقاب من أجل السيطرة عليها، من هنا يستخلص خطان من أجل موضعة الجريمة والمجرم؛ من جهة أولى يقع المجرم المعتبر عدوا للجميع، والذي يكون من مصلحة الجميع ملاحقته، خارج نطاق العقد “الميثاق” بهذه الصيغة يعود في يوم من الأيام ليدخل ضمن الموضوعية العلمية، وضمن المعالجة التي تناسبها، ومن جهة أخرى يتعين على السلطة العقابية فرض تكتيك تتدخل من خلاله ليطال المجرمين الحاليين والمستقبليين: تنظيم حقل وقائي، وحساب المصالح. من هنا أصبح التفكير في المجرم كفرد يجب معرفته.

يعود من جديد “فوكو” كمحاولة لنفي  فرضية الدخول في عصر العقوبات اللاجسدية، ليذهب أن تلك “التقنية الدلالية” للعقوبات، أو السلطة الإيديولوجية، سوف يستبدل جزء منها بعلم تشريح سياسي جديد، يكون فيه الجسد من جديد، إنما بشكل مستحدث.

ثالثا: التوظيف الجديد للجسد نحو تقليص أكثر لمجال اللاشرعيات

         قبل أن يوضح “فوكو” محاولات إصلاح القوانين خلال القرن 18 ومواطن الاتفاق والاختلاف التي كانت حاضرة آنذاك (ب)، سيستهل ] الفصل الثاني –اللطف العقابي من القسم الثاني –العقاب-[ بالحديث عن الشروط التي يجب أن تخضع لها الحواجز التي يجب أن تشكل مستودع العقوبات الجديد (أ). كل ذلك من أجل الاستمرارية في استراتيجية قمع الإجرام.

  • ميكانيزمات فن العقوبة الجديد عند “فوكو”[8]

اعتبر “فوكو”  البعد عن التعسف ما أمكن أول شروط الفن الجديد للعقوبات، “بأن تعطي العقوبة كل المطابقة مع طبيعة الجرم”. ويتحدث “فوكو” أيضا عن ضروة تجاوز – ميكانيك القوى-؛ وذلك بتقليص الرغبة التي تجعل الجريمة جذابة، وتنمية المنفعة التي تجعل العقوبة مريبة، والعمل بحيث يبدو تصور تمثيل العقوبة ومضراتها أكثر تأججا من تمثيل الجريمة وما فيها من ملذات. ويثير فضلا عن ذلك “فوكو” أهمية وفائدة وضع جدولة زمنية وتفادي التحديد، بأن تكون العقوبة قابلة للتغيير؛ من خلال تخفيفها حسب نتائجها. ويجب أيضا أن تستهدف العقوبة بشكل خاص الآخرين “كل المجرمين المحتملين”، وهو ما يجعل نشر أو إعلان العقوبة أمر ضروري عند “فوكو” حتى يستطيع كل فرد أن يطلع على مدلولاتها؛ لكن لا يجب على هذا الإعلان أن ينشر أثرا جسديا مرهبا، بل يجب أن يفتح  كتابا للقراءة. لذلك فهو يعتبر “العقوبة السرية عقوبة نصف ضائعة”. عندها يمكن أن ينعكس في المجتمع خطاب الجريمة التقليدي، وهذا هو الهم الكبير عند صانعي القوانين في القرن الثامن عشر:”كيف يمكن إطفاء المجد المشبوه، مجد المجرمين الذي تتغنى به الحكايات الشعبية..”.

  • مواطن الاتفاق والاختلاف الحاضرة في إصلاحات القرن الثامن عشر

عرج “فوكو” آخر الفصل الثاني–اللطف العقابي- على أهم نقاط التلاقي ونقاط الاختلاف التي كانت حاضرة ضمن الإصلاحات التي اقترحها المصلحون في هذه الحقبة المهمة –القرن 18-؛ حيث من نقاط الاتفاق التغير المفاجئ والمؤقت للعقاب، بحيث تهدف هذه الإصلاحات لا إلى محو الجريمة، بل إلى تجنب ارتكابها ثانية، إنها ترتيبات تتوجه إلى المستقبل؛ كتأكيد لقولة بيكاريا: “إن الوقاية ضد الجرائم هي الغاية الوحيدة للعقاب”، فضلا على تفريد العقاب، وجعله يتلاءم مع السمة الشخصية وما تحمله معها من خطر على الآخرين.

ومع ذلك فقد برزت الفروقات منذ توجب تحديد تقنيات هذا الإصلاح المفردن، بحيث يتموقع هذا الفرق حسب “فوكو” في الإجراء المتعلق بالوصول إلى الفرد، وفي كيفية تأثير السلطة العقابية عليه، في تكنولوجيا العقوبة لا في أساسها النظري؛ في العلاقة التي تقيمها مع الجسد ومع النفس، وليس في كيفية انسيابها إلى داخل النظام الحقوقي.

ليخلص في النهاية إلى القول أن آخر القرن الثامن عشر عرف ثلاثة أشكال من تنظيم سلطة العقاب، الشكل الأول، يرتكز على الحق الملكي القديم، والشكلان الآخران يرجعان معا إلى نظرية وقائية ونفعية وتأديبية لحق العقاب العائد إلى المجتمع بأكمله؛ الشكل الثاني يتجلى في مشروع الحقوقيين الإصلاحيين الذين اعتبروا العقوبة  إجراء يهدف إلى إعادة تأهيل الأفراد باعتبارهم أشخاصا قانونيين؛ والشكل الأخير يتمثل في  مشروع المؤسسة الاعتقالية التي هي قيد الإنشاء، تبدوا العقوبة تقنية إكراه للأفراد؛ وهي تستخدم وسائل تقويم جسدية. “إنها ثلاث تكنولوجيات سلطوية” وفق تعبير “فوكو”.

من هنا يطرح “فوكو” المشكلة الآتية: “كيف حدث أن التكنولوجيا الثالثة- السجن- قد فرضت نفسها أخيرا؟ كيف حل النموذج الإكراهي ،الجسدي، الانفرادي، السري لسلطة العقاب، محل النموذج التصوري، المسرحي الدلالي، العلنين الجماعي؟ لماذا حلت الممارسة الجسدية للعقوبة مع السجن الذي هو قوامها المؤسسي، محل الاحتفال الصاخب الذي كان يروجها؟”.

 

 

 

المحور الثاني: استثمار السلطة للجسد من الانضباط إلى المراقبة

الفقرة الأولى: حلول الفرد الانضباطي محل الجسد المعذب – الميكرو فيزياء الجديد للسلطة–  

أولا: نشأة الانضباطية كتقنية لإخضاع الجسد –

         يستهل “فوكو” ]الفصل الأول- الأجساد الطيعة- من القسم الثالث –الانضباط-[ بتقديم صورة الجندي -كشخص يعرف من بعيد- كمثال عن اكتشاف الجسد كموضوع وهدف للسلطة أو “كنموذج مختزل عن السلطة” خلال العصر الكلاسيكي؛ “الجسد الذي يُلعب، ويكيف، ويدرب، ويطوع، والذي يستجيب ويصبح ماهرا، وتتكاثر قواه”، ليصبح جسدا منضبطا.

يبدأ هذا “الانضباط” حسب “فوكو” أولا بتقسيم الأفراد في المكان، ولهذا فهو يستخدم عدة تقنيات، أولها الإقفال أو العزل، أي تخصيص مكان يختلف عن كل الأمكنة الأخرى ومنغلق على ذاته، مكان محمي على الرتابة الانضباطية، ويعطي مثالا بثكنة في جنوب فرنسا ذات الانغلاق الصارم “كل شيء محاط ومقفل ضمن سور من الجدران ارتفاعه عشرة أقدام..”، هذا الفضاء الانضباطي المقفل غير كافي إذا لم  يتجه نحو “الانقسام إلى أجزاء بمقدار ما يوجد من أجسام أو من عناصر يجب توزيعها”، هذه الفضاءات يجب أيضا أن تكون أكثر وظيفية؛ تسمح بالتفكيك المفردن لقوة العمل. كما يعتبر “فوكو” أن  الانضباط يجب أن يتسم ب “فن الصف”(أو المرتبة)، كتقنية لضمان طاعة الأفراد، وأيضا كتنظيم أفضل للوقت وللتحركات.

]إن إجراءات التوزيع الانضباطي كانت لها مكانتها بين التقنيات المعاصرة في التصنيف وفي الجدولة؛ ولكن أدخلت فيهما المشكلة الخصوصية، مشكلة الأفراد والكثرة. وكذلك اتخذت الرقابات الانضباطية للنشاط مكانا بين كل البحوث النظرية والتطبيقية، حول الآلية الطبيعية للأجسام؛ ولكنها بدأت تكتشف فيها عمليات مخصوصة نوعية؛ إن السلوك ومقتضياته العضوية سوف تحل تدريجيا محل الفيزياء البسيطة للحركة. فالجسم المطلوب منه أن يكون طيعا حتى في أدنى عملياته، غدا يعارض ويبين الشروط الوظيفية الخاصة بالعضوية الحية. وصار للسلطة الانضباطية قرين هو الفردية التي ليست فقط تحليلية و”خلوية” بل طبيعية و”عضوية”[ ؛ أي تحققت هنا قفزة معرفية، يدعوها “فوكو” (الإبستمية)، إذ لم يعد ينظر إلى الجسد باعتباره آلة، ولكنه كائن حي يتميز بالفردية، والفردية ستقاوم السلطة الانضباطية، أو تدخل معها في صراع يحدد مستقبل الحداثة الجديدة، أو ما يدعى بالحداثة البعدية.

يتحدث “فوكو” أيضا عن نمو تقنية جديدة تأخذ على عاتقها في الحقبة الكلاسيكية وقت الكائنات الفردية؛ من أجل التحكم بعلاقات الوقت والأجسام والقوى، ومن أجل تأمين تراكم المدة/ وتحويل حركة الوقت إلى منفعة ومكسب. من هنا طرح سؤال كيف يمكن رسملة وقت الأفراد بشكل يجعله خاضعا للانتفاع والرقابة، وقدم في الآن ذاته كجواب  أربع وسائل يظهرها التنظيم العسكري بكل وضوع؛ تتمثل في تقسيم المدة إلى أقسام متتالية أو متوازية؛ على أن تكون محددة بغاية تنتهي باختبار، كل حسب مستواه وأقدميته ورتبته..، كل ذلك بما يتيح توظيفا كاملا للمدة من قبل السلطة.

ستتطور الانضباطية ليبرز مطلب جديد يتمثل في بناء آلة يبلغ مفعولها الذروة، بواسطة التمفصل المنسق للقطع الأولية التي تؤلفها، بحيث “لم يعد الانضباط مجرد فن إعادة توزيع الأجساد، واستخراج وقتها وتركيمه، بل تأليف قوى للحصول على جهاز فعال. هكذا يعتقد “فوكو” أن الانضباط يصنع انطلاقا من الأجساد التي تسيطر عليها أربع أنماط من الفردية: السمة الخلوية (بفعل لعبة التوزيع الفضائي)؛ العضوية (بفعل تقنين النشاط)؛ التكوينية (بفعل تراكم الوقت)؛ الاندماجية (بفعل تأليف القوى)، ولإتمام هذا فهو يُعمل أربع تقنيات كبرى: إنه يبني جداول؛ وهو يفرض مناورات؛ وهو يوجب تمارين؛ وأخيرا ومن أجل دمج القوى، فهو يرتب تكتيكات؛ تكتيك يحقق حصيلة قوى متنوعة.

ثانيا: أدوات اشتغال السلطة الانضباطية – بداية تشكل نظرية المراقبة –

عالج “فوكو” من خلال ] الفصل الثاني –وسائل التقويم الجيد- من القسم الثالث –الانضباط-[ الأدوات التي تستعملها السلطة الانضباطية والتي وصفها بالبسيطة ومنها:[9]

1–  النظرة أو الرقابة التراتبية؛ بحيث تفترض ممارسة الانضباط وجود جاهزية تحقق الإكراه، بفعل النظرة؛ جهاز توحي تقنياته  التي تسمح بالرؤية؛ بمفاعيل سلطوية، وحيث بالمقابل، تجعل وسائل الإخضاع أولئك الذين ينصب عليهم هذا الإخضاع مرئيين بوضوح “المراصد التي ترى ولا تُرى”. هكذا ستصبح السلطة الانضباطية بفضل الرقابة منهجا “متكاملا” مرتبطا بصميم الاقتصاد وبغايات الجهاز الذي تعمل فيه هذه السلطة. إنها لا تترك من حيث المبدأ أي منطقة ظل، وأنها تراقب بدون توقف أولئك المكلفون بالمراقبة، وهي سرية تعمل في الصمت.

2 – العقوبة الضابطة: يتحدث “فوكو” عن وجود أوالية صغيرة عقابية تعمل في صميم كل الأنظمة العقابية؛ تجعل كل الأجزاء الدقيقة جدا من السلوك تحت طائلة العقاب، بحيث يجد كل فرد نفسه ضمن كيان شمولي “قابل للعقاب-معاقب”. فضلا على أن العقوبة الانضباطية وظيفتها تقليص الفوارق؛ مفعولها الإصلاحي يتم بشكل مباشر بفعل التقويم.  ويرى “فوكو” أن السلطة الانضباطية بدل أن تركز على استخدام  العقوبة؛ تستعمل نظام المكافأة، “فالكسالى تحفزهم الرغبة بالمكافأة أكثر من خشية القصاص. ثم إن الانضباط يكافئ بواسطة عملية الترقيات وحدها، وهو يقاصص بالتأخير وكسر الدرجة. وإجمالا فإن فن العقاب في نظام السلطة الانضباطية، لا يهدف إلى التكفير، ولا حتى إل القمع بالذات. إن المؤسسة الانضباطية تُقارن، تُفاضل، تُراتب، وتنسق وتستبعد، وبكلمة إنها تُسوي “تضبط”.

3– الفحص: “يدمج الفحص تثنيات التراتبية التي تُراقب وتقنيات العقوبة التي تضبط. إنه نظرة ضابطة وهو رقابة تتيح التوصيف والتصنيف والعقاب. إنه يقيم على الأفراد رؤية من خلالها تمكن المفاضلة بينهم ومعاقبتهم. ولهذا في كل تدابير الانضباط، فإن الفحص يتمتع بطقوسية كبيرة”. إن “فوكو” اعتبر الفحص عاكس لنظام الرؤية في ممارسة السلطة؛ بحيث تمارس السلطة الانضباطية نفسها حينما تختفي عن الأنظار؛ وبالمقابل فإنها تفرض على الذين تُخضعهم مبدأ من الرؤية إجباريا. ويمعنى آخر: “إن واقعة الرؤية التي لا تتوقف، وواقعة أن نكون دائما تحت المراقبة، هي التي تُبقي الفرد المنضبط على خضوعه“. “والفحص، إنه التقنية التي بها تستطيع السلطة، بدلا من أن تظهر دلالات قوتها – حضور العاهل سابقا..- وبدلا أن تفرض وسمتها على الأفراد الخاضعين لها، فإنها تأسر هؤلاء ضمن أوالية موضعة وتشيئ. في الفضاء الذي تسيطر عليه السلطة الانضباطية، فإنها تظهر، من حيث الجوهر، قوتها بواسطة ترتيب الموضوعات، ويبدو الفحص وكأنه الاحتفال بهذه الموضعة والتشيئ.

ثالثا: نظرة “فوكو” لنموذج سجن البانوبتيكون لصاحبه “بانتهام” – كنمودج قابل للتعميم نحو الفرد الانضباطي-

تناول “فوكو” من خلال ]الفصل الثالث- البانوبتية أو الإشراف- من القسم الثالث –الانضباط- [نموذج سجن” البانوبتيكون” الذي يعني الرؤية الشاملة، المعد من قبل “جيريمي بانتهام” سنة 1791، وهو تصميم عبارة عن مجموعة من الزنازين في شكل دائري ولا يسمح تصميمه بالتواصل بين السجناء، يتوسطه فضاء به برج للمراقبة، وتُضاء من الخارج بحيث لا يستطيع السجناء رؤية من في برج المراقبة، في حين أن المراقب وحده من يرى جميع من في الزنازين، مراقب واحد لآلاف السجناء،  يرسخ هذا التصميم شعور بالمراقبة الدائمة لدى السجناء، هكذا يرى “فوكو” “أن التجهيز المكشافي “البانوبتي” يُعدُّ وحدات زمنية تسمح بالرؤية اللامنقطعة”، من هنا حسب “فوكو” الأثر الرئيسي للمستشرف (بانوبتيك) وهو : “الإيحاء إلى المعتقلين بحالة واعية ودائمة من الرؤية تؤمن وظيفة السلطة الأوتوماتيكي. جعل الرقابة دائمة في مفاعيلها، حتى لو كانت متقطعة في عملها..، وباختصار أن يؤخد المعتقلون بوضعية سلطة يكونون هم حاملوها”. لذلك اعتبره “فوكو” تجهيزا مهما؛ لأنه يجعل السلطة آلية وينزع عنها طابع الفردية، فمبدأ هذه السلطة لا يقوم في شخص بقدر ما يتجلى في توزيع مدروس للأجسام وللسطوح وللأضواء وللنظرات، فتتوالد آليا؛ عبودية حقة من علاقة وهمية، بحيث تنتفي اللجوء إلى وسائل القوة لإكراه المحكوم على السلوك الحسن، والمجنون على الهدوء، والعامل على العمل، والتلميذ على الاجتهاد، والمريض على التقيد بالوصفات.

هكذا يعتقد “فوكو” أن النموذج “البانوبتيكي” يجب أن يفهم كنموذج للتشغيل قابل للتعميم، كأسلوب في تعريف علاقات السلطة بالحياة اليومية للناس، فضلا على أنه يعطي “للفكر سلطة على الفكر”. إن الهيكلة البانوبتية هي عامل زخم بالنسبة لأي جهاز سلطوي، فهي تؤمن له الاقتصاد (في المواد، وفي الأشخاص، وفي الوقت)؛ وهي تؤمن له الفعالية بواسطة طابعها الوقائي.

ويتحدث “فوكو” عن مسألة غاية في الأهمية، بطرحه سؤال: كيف يمكن تقوية السلطة بحيث لا تحصل مضايقة للتقدم وفي الوقت ذاته أن تكون السلطة مكثرة للإنتاج؟ وكيف تستطيع السلطة وهي تزيد في قوتها أن تنمي قوى المجتمع بدلا من مصادرتها أو لجمها؟. إن الحل الذي يقدمه البانوبتيك حسب “فوكو” لهذه المشكلة، هو أن الزيادة الإنتاجية للسلطة لا يمكن أن تتأمَّن إلا إذا كان بإمكان هذه السلطة أن تمارس بشكل دائم ضمن قواعد المجتمع، وصولا إلى أصغر حبة فيه، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، إلا إذا عملت خارج هذه الأشكال المفاجئة، والعنيفة، واللامتواصلة، والمرتبطة بممارسة السيادة”، أي أن السيادة و الحضور والهبة التي كانت لدى الملك، هي على النقيض الأقصى لهذه السلطة الفيزياء السلطوية الجديدة التي تحددها البانوبتية، التي يعتبر مجالها القواعد أو”المنطقة السفلية” كما يسميها “فوكو”.

ليخلص في الأخير إلى أن: “الشيء الذي فرض نفسه على العدالة الجزائية كنقطة ارتكاز لها، وكموضوع “مفيد” لها لن يكون أبدا جسم المجرم المنتصب ضد جسد الملك؛ ولن يكون أيضا الفرد الحقوقي في عقد مثالي؛ بل هو الفرد الانضباطي”.

الفقرة الثانية: حدود فعالية المؤسسة السجنية عند “فوكو”

أولا: السجن كمؤسسة كاملة وصارمة بين دعم  الإكراه الانضباطي وترسيخ تقنية المراقبة

         افتتح “فوكو” ]الفصل الأول –المؤسسات الكاملة والصارمة- من القسم الرابع- السجن-[ بالحديث عن ظرف ولادة السجن “كعقوبة المجتمعات المتحضرة” في سياق تجتاحه أشكال الإخضاع الانضباطية، كما أن السجن يشكل في المجتمع الصناعي بداهته الاقتصادية ليبدو كتعويض، فحرمان المحكوم من الوقت يعني أن السجن يبدو وكأنه يترجم بصورة محددة فكرة أن المخالفة قد أضرت، متجاوزة الضحية، بالمجتمع بأكمله.

وهو حسب “بالتاردا”: “مؤسسة كاملة وصارمة”، لذلك فإن “السجن يجب أن يكون جهازا انضباطيا شاملا، وبعدة معان: يجب أن يتكفل بكل أوجه الفرد وحالاته: تقويمه الجسدي، استعداده للعمل، سلوكه اليومي، موقفه الأخلاقي، كفاءاته؛ إذ يتطلب السجن أكثر من المدرسة بكثير..، “فعليه أن يكون الآلية الأكثر قوة من أجل فرض جديد على الفرد المنحرف. ولا يمكن تحقق هذه الغاية حسب “فوكو” إلى بدءا من عزل المحكوم عن العالم الخارجي، وعن كل ما تسبب في المحالفة، وعن أشكال التواطؤ التي سهلتها”، على أن تكون العزلة أداة إيجابية من أجل الإصلاح، فعن طريق التفكير الذي تبعثه، والندم الذي لا يمكن إلا أن يتولد، فما أن يوضع وحده أمام جريمته حتى يتعلم كيف يكرهها..، كما أن العزلة تؤمن نوعا من التنظيم الذاتي للعقوبة، وتتيح ما يشبه فردنة عفوية للعقاب: كلما كان المحكوم أهلا للتفكير، ازدادت جرميته في اقتراف الجريمة؛ ولكن كلما ازداد ندمه حدة، اشتدت عزلته إيلاما؛ وبالمقابل عندما يكون قد ندم في أعماقه، وغير ما في نفسه بدون أي مواربة، فإن العزلة لا تعود ثقيلة عليه. كما تؤمن العزلة في الوقت نفسه المجالسة وجها لوجه بين الموقوف والسلطة التي تمارس عليه.

وانتقل “فوكو” ليتحدث عن العمل الجزائي-داخل الفضاء السجني-، إذ اعتبر جدوى المكافأة عليه، كونها تفرض على المعتقل “الشكل المعنوي” للأجر كشرط لوجوده، والأجر يرسخ “الحب وعادة” العمل، وهو يعطي للمخربين الذين يجهلون الفرق بين ما لَي وما لَك، معنى الملكية التي تكتسب بعرق الجبين، وهو يعلم أيضا من اعتادوا التبذير ماهية الاحتياط والتوفير.  وفي الوقت ذاته ينفي “فوكو” اعتبار العمل الجزائي مكسب، ولا حتى تكوين لبراعة مفيدة؛ بل هو تكوين لعلاقة سلطة، لشكل اقتصادي، لرسيمة تصور الخضوع الفردي وتلائمه مع جهاز إنتاجي.

كما اعتبر “فوكو” أن السجن يفوق الحرمان البسيط من الحرية، فهو يميل إلى أن يصبح أداة تغيير للعقوبة. فالمدة الحقة للعقوبة يجب أن تتبدل ليس فقط مع الفعل وظروفه، بل مع العقوبة بالذات كما تتم بالتحديد. من هنا فكرة “فوكو” : “أن الشدة العقابية يجب أن لا تقاس مباشرة بنسبة الأهمية العقابية للعمل الجرمي، ولا أن تتحدد مرة واحدة وأخيرة. فالحبس كعملية تأديبية له مقتضياته وأبعاده الخاصة. وهذا ما أسماه “شارل لوكاس” الترتيب المتحرك للسلوكات.”. هذا وقد عاد “فوكو” ليؤكد على أن السجن هو بذات الوقت مكان مراقبة الأفراد المعاقبين، إذ يجب تصور السجن كمكان لتشكل معرفة عيادية حول المحكومين، “مما يقتضي تدبيرين أساسيين: فيجب إبقاء السجين تحت النظر بشكل دائم، ويجب تدوين واحتساب كل الملاحظات التي تؤخذ عن السجناء. فقد كان المطلوب على كل حال جعل السجن محل تكوين معرفة يجب أن تستخدم كمبدأ منظَّم من أجل تطبيق الإجراء الإصلاحي.

ثانيا: فشل العدالة العقابية- السجن- وراهنية نموذج النظام الاعتقالي

استهل “فوكو” ]الفصل الثاني (اللاشرعيات والجنوح) من القسم الرابع (السجن)[ بالحديث عن ما أسماه بالتحول التقني من فن العقاب إلى فن آخر، ويقصد الانتقال من التعذيب، وما فيه من مراسيم متألقة، ومن فن ممزوج بالاحتفال الألمي، إلى عقوبات الحبس المدفونة ضمن هندسات بنائية ضخمة محاطة بالسرية الإدارية. وهو بذلك يتجه نحو القول بأن السجن قد أخفق واعتُبر الفشل الأكبر للعدالة الجزائية، بحيث أن السجون لم تخفض معدل الجرائم، بل فإن الاعتقال يستثير التكرار-العود- إذ بعد الخروج من السجن يكون الحظ أكبر من السابق في العودة إليه. ولذلك يرى “فوكو” أن السجن لا يمكن أن يتخلى عن صنع المجرمين، فهو يصنع منهم بفضل نمط الحياة التي يؤمنها للمعتقلين: سواء بعزلهم في زنزانات أو بفرض عمل غير مفيد عليهم؛ ثم سوء استعمال السلطة. فضلا على أن السجن يساعد على تنظيم وسط للجانحين المتضامنين المتكافلين المستعدين لكل المواطآت المقبلة. ثم إن الظروف التي تهيأ للمساجين الذين أطلق سراحهم تحملهم على التكرار، لأنهم يظلون تحت رقابة البوليس، كما أن عدم إمكانية الحصول على عمل، والتسكع هي العناصر الأكثر حدوثا في التكرار. وأخيرا يصنع السجن بصورة غير مباشرة الجانحين، وذلك بإفقاره عائلة السجين: تعرض الأولاد إلى الترك، والعائلة كلها إلى التشرد والتسول..وغيرها.

إن التحول النوعي الذي عرفته اللاشرعيات خلال القرنين 18 و 19،[10]  إلى جانب فرضية “فوكو” القائلة: أن السجن قد نجح تماما في إنتاج الجنوح؛ جعل هذا الأخير –الجنوح- أيضا أداة ووسيلة للاشرعية تتطلبها ممارسة السلطة بالذات، بحيث تم الاستخدام السياسي للجانحين –بشكل مخبرين، ومحرضين-؛ لكن بعد الثورة اكتسبت هذه الممارسة أبعادا أخرى مثل: لغم الأحزاب السياسية من الداخل؛ وتجنيد العملاء ضد المضربين والدعاة إلى العصيان، وبوليس –تحتي-، مؤهل عند اللزوم لأن يصبح جيشا موازيا للسلطة.

وفي الأخير قدم “فوكو” النظام الاعتقالي، الذي ينقل التقنية الإصلاحية من المؤسسة الجزائية إلى الجسم الاجتماعي بأكمله ؛ كبديل عن السجن الذي يحول الإجراء العقابي إلى تقنية إصلاحية فقط؛ فضلا على أن هذه المؤسسات المفتوحة وشبه المفتوحة التي تقل فيها درجة الحراسة؛ أثبتت التجربة أنها قادرة على تجسير الفجوة بين السجناء والمجتمع والحد من العقوبات السالبة للحرية.[11]

هكذا إذن؛ تدرّج مفهوم العقاب عند ميشيل فوكو من المرئي إلى اللامرئي ومن العلني إلى المخفي. وتتجه ممارسة العنف السلطوي من الفيزيائي إلى “الميكروفيزيائي” وتتميز السلطة بالتحول من سلطة تستند إلى المشروعيّة والتبرير إلى سلطة انضباطية غير تسويغيّة، أو هي سلطة انضباطية مما يشرّع للقول بالسلطة بالجمع لدى فوكو، وهي سلطة تعمل بشكل مجهري عبر الأنشطة الاجتماعية والمؤسسات غير القمعيّة. فالسلطة العقابية شائكة في جوهرها وتتميّز بالاختفاء ضمن المؤسّسات والتشريعات. ولم يكن الميل إلى تلطيف العقاب يهدف إلى اللطف بقدر ما كان استجابة لمتطلبات الانضباط، وتلوّن السيطرة والإخضاع بدمج الجسد ضمن لعبتي الإنتاج والاستثمار.[12]

 

 

 

 

 

 

 

 

خطة تلخيص الكتاب

المحور الأول: التعذيب  واللطف العقابي  كتكنولوجيات  لممارسة وتنظيم سلطة العقاب    2

الفقرة الأولى: الحفل التعذيبي كأداة لتنظيم سلطة العقاب ما قبل الثورة الفرنسية  2

أولا: التحول من فرض السلطة عل الجسد إلى فرض السلطة على غير الجسد  2

ثانيا: التعذيب كتكريم للعدالة وإرجاع هيبة الملك   3

الفقرة الثانية : اللطف العقابي بين هاجس الاقتصاد السياسي للسلطة وتقليص مستوى اللاشرعيات    4

أولا: اللطف العقابي كتقنية موظفة للاقتصاد السياسي للسلطة العقابية  4

ثانيا: قواعد نظرية الدلالات الجزائية كآليات لتقليص مجال اللاشرعيات –الإجرام- عند “فوكو”  4

ثالثا: التوظيف الجديد للجسد نحو تقليص أكثر لمجال اللاشرعيات    5

المحور الثاني: استثمار السلطة للجسد من الانضباط إلى المراقبة  7

الفقرة الأولى: حلول الفرد الانضباطي محل الجسد المعذب – الميكرو فيزياء الجديد للسلطة  7

أولا: نشأة الانضباطية كتقنية لإخضاع الجسد –  7

ثانيا: أدوات اشتغال السلطة الانضباطية – بداية تشكل نظرية المراقبة –  8

ثالثا: نظرة “فوكو” لنموذج سجن البانوبتيكون لصاحبه “بانتهام” – كنمودج قابل للتعميم نحو الفرد الانضباطي-  8

الفقرة الثانية: حدود فعالية المؤسسة السجنية عند “فوكو”  9

أولا: السجن كمؤسسة كاملة وصارمة بين دعم  الإكراه الانضباطي وترسيخ تقنية المراقبة  9

ثانيا: فشل العدالة العقابية- السجن- وراهنية نموذج النظام الاعتقالي   10

 

 

 

 

 

 

        

 

[1]  الكتاب موضوع التلخيص: ميشيل فوكو،المراقبة والمعاقبة –ولادة السجن-، ترجمة: علي مقلد، مراجعة وتقديم، مطاع صفدي، الأعمال الكاملة مركز الانماء القومي، بيروت، لبنان، 1990

[2]  نبذة عن الكتاب:     المراقبة والمعاقبة هو كتاب للفيلسوف والباحث الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو. نشر في فرنسا عام 1975 باسم Surveiller et punir: Naissance de la prison، ثم ترجم إلى الإنجليزية في عام 1977 باسم Discipline and Punish. وهو فحص للآليات الاجتماعية والنظرية التي كانت وراء الاختلاف الرهيب بين نظم العقاب في العصر الحديث.

ويبدأ الكتاب برسم تصويري لعملية تنفيذ حكم الإعدام عام 1757 على روبرت فرانسوا ديمي، الذي حاول اغتيال لويس الخامس عشر. وفي الصفحة المقابلة وضع صورة لمخطط سجن صمم بعد 80 عاماً فقط. ويتساءل فوكو عن الطريقة التي تغير من خلالها المجتمع الفرنسي فيما يخص معاقبة المدانين في مدة قصيرة إلى هذا الحد.

هاتان صورتان لنمطين متقابلين مما يسمه فوكو تكنولوجيا العقاب:

             العقاب الملكي: يشتمل على قمع الجماهير من خلال تنفيذ عمليات إعدام وتعذيب وحشية علنية

             العقاب التأديبي: وهو ما يقول فوكو بأنه يمارس في العصر الحديث. يمنح العقاب التأديبي كلاً من (المعالج النفسي، منفذ البرامج، الضابط في السجن) سلطة على (السجين أو المتعلم أو المريض)، ومما يلفت الانتباه أن المدة التي يتوجب على السجين مثلاً أن يقضيها في السجن تتوقف على رأي المختصين.

يقارن فوكو في بحثه ما بين المجتمع الحديث وبين المشتمل (بانوبتيكون)، وهو تصميم أعده جيرمي بينتامز لمبنى سجن (وهذا التصميم لم ينفذ بشكله الأصلي في الواقع، لكنه كان ذي تأثير واضح)، في المشتمل يستطيع حارس واحد أن يراقب عدداً كبيراً من السجناء دون أن يتمكنوا من مشاهدته.

السراديب المعتمة لسجون ما قبل الحداثة استبدلت بسجون في أبنية حديثة، لكن فوكو يحرص على أن يوضح أن “الرؤية أو العين تخدع”. ويشير إلى أن المجتمع الحديث يستخدم هذه الرؤية لتطبيق نظام التحكم والسيطرة الخاص بالسلطة والمعرفة، وهما مصطلحان يرى فوكو أنهما متصلان ببعضهما بشكل جذري، حتى أنه يستخدمهما غالباً مقترنتين أو مدمجتين على نحو “معرفة ـ سلطة” (بالإنجليزية: power-knowledge)‏. المزيد من الرؤية يقود إلى سلطة تتربع على مستوى متزايد من الفردية، يظهر من خلال قدرة المؤسسة على تعقب ومراقبة الأفراد طوال حياتهم. يشير فوكو إلى رهاب مستمر وشعور دائم بالرقابة يسري في المجتمع الحديث، بدءاً من السجون شديدة التحصين، المنازل المحمية، الموظفون، الشرطة، المعلمون، وصولاً إلى كل نشاطاتنا اليومية وظروف معيشتنا وسكنانا. كلها مرتبطة بالمراقبة (المتنبهة أو الغافلة) التي يقوم بها بعض الناس تجاه البعض الآخر، للتحقق من التزامهم بأنماط السلوك المقبولة.

مقتطف من موسوعة ويكيبيديا

www.ar.Wikipedia.org/

[3]  ينظر تفاصيل تعذيب “داميان” من الصفة 47 إلى ص 49 من الكتاب موضوع التلخيص.

[4]  ينظر مقتطف من نظام ليون فوشي ي الصفحات 49 و50 من الكتاب

[5]  ينظر من ص 57 إلى 61.

[6]  للمزيد من الإيضاح، ينظر ص 63

[7]  للإحاطة بالمسألة السايسية التي طرحها التدخل الشعبي في عملية التعذيب يذكر “فوكو مشهدين” يمكن الاطلاع عليهما في الصفحتين 92 و93.

[8]  للمزيد ينظر من ص 130 إلى 137

[9]  للاطلاع والتعمق ينظر من ص 186 إلى ص 204

[10]  تحدث “فوكو” عن المنعطف الذي عرفه القرن 18 والقرن 19 في مواجهة القوانين الجديدة، والذي برز من خلاله فجأة حظر تجاوز شعبي جديد، أي نمو لا شرعيات شعبية وفقا للأبعاد الجديدة ( الصراعات ضد النظم السياسية؛ مقاومة حركة التصنيع؛ آثار الأزمات الاقتصادية؛ التغير في بنية السلطة آنذاك)، وفي أفق هذه الممارسات اللاشرعية – والتي تكاثرت بصدور تشريعات أكثر تضييقا- ظهرت صراعات سياسية خالصة.

[11]  الفصل الثالث والأخير (الاعتقالي) من القسم الرابع والأخير (السجن)، للمزيد ينظر من ص 290 إلى ص 301.

[12]  لعروسي لسمر، من الحفل التعذيبي إلى ولادة السجن، الموقع الالكتروني: ديوان العرب، تاريخ نشر المقال 29 ماي 2010

المعلومة القانونية

*سفيان شاوش

باحث بسلك ماستر العدالة الجنائية بكلية الحقوق بفاس/خريج ماستر قضاء الأسرة بكلية الشريعة بفاس

قد يعجبك ايضا