مبدأ الأجل المعقول وبعض تجلياته في مدونة الأسرة المغربية

لا يمكن الحديث عن التنمية والرقي بالمجتمعات دون التفكير في إصلاح أحوال الأسرة وأوضاعها، وملامسة مشاكلها واقتراح الحلول المناسبة لمعالجتها، بغية النهوض بأحوالها في مختلف مناحي الحياة، باعتبار أن الأسرة هي النواة الأولى لبناء المجتمعات وأصغر وحدة قياسية في الهندسة الاجتماعية، فتقدم المجتمعات لم يعد يقاس بالنجاح الاقتصادي والثقافي فقط، بل يقاس كذلك باهتمام الدول بالأسرة والسهر على ضمان حقوقها، مما يجعلها في مصاف الدول المتقدمة، والمغرب على غرار باقي الدول الساعية للنهوض بأحوال الأسرة، قام بإصدار مدونة الأسرة التي تعتبر ثمرة لمسلسل تشاركي مبني على التعاون والتشاور المؤسس لرؤية حديثة تنسجم مع السياق الوطني والدولي، فمشرع المدونة جاء بفلسفة جديدة ترمي إلى عدم التعقيد والتأخير، وتكريس مبدأ المرونة والتبسيط في اقتضاء الحقوق ويتجلى ذلك في وضع آجال محددة يجب على القضاء احترامها من خلال إصدار الأحكام في أسرع الآجال، وبجودة تحول دون ضياع الحقوق، ويمكن القول بأن معايير الجودة ينبغي أن تنصب على صحة الفصل في النزاعات القضائية واتسام الأحكام بالجودة من خلال المدة التي تستغرقها الدعوى والبت فيها داخل أجل معقول، بعيدا عن طول وتعقيد مساطر التبليغ والتنفيذ ومدى إحساس المواطن بالأمن على نفسه وحقوقه، وبناء على ما ذكر يمكن طرح الاشكالية التي سيحاول هذا المقال الجواب عنها،  وهي كالآتي:

ما مفهوم مبدأ البت داخل أجل معقول؟ وما هي بعض تجليات هذا المبدأ في مدونة الأسرة المغربية؟

وسأجيب عن هذه الاشكالية انطلاقا من مبحث واحد عنونته بمبدأ البت في الحكم داخل أجل معقول وبعض تجلياته في مدونة الأسرة وقسمته إلى مطلبين سأتحدث في المطلب الأول عن مبدأ البت في الحكم داخل أجل معقول كمبدأ دستوري على أن أبين تجليات هذا المبدأ في مدونة الأسرة كمطلب ثاني.

 

  المبحث الأول: مبدأ البت في الحكم داخل أجل معقول وبعض تجلياته في مدونة الأسرة

إن ضمانات إقامة العدالة تشكل ركنا أساسيا لازما لحماية كافة حقوق الإنسان، لذلك كفل المشرع الدستوري[1] لكل شخص الحق في المحاكمة العادلة، والتي تتطلب توفر العديد من الضمانات التي تجعل القضاء في خدمة العدالة عامة، وفي خدمة المواطن خاصة، فالمشرع الدستوري نص على حق المتقاضي في إصدار الأحكام داخل آجال معقولة، وهو مقتضى سيسهم في معالجة إشكالية البطء في الإجراءات، على أن تكون ضوابط تلك الآجال محددة على ضوء طبيعة أنواع القضايا التي تعرض على أنظار المحاكم. وللحديث عن هذا المبدأ حاولت تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين سأتحدث في المطلب الأول عن مبدأ البت في الحكم داخل أجل معقول على أن أبين تجليات هذا المبدأ في مدونة الأسرة كمطلب ثاني.

المطلب الأول مبدأ البت في الحكم داخل أجل معقول

في هذا المطلب سأتحدث عن دور هذ المبدأ في توفير الأمن القضائي الأسري )الفقرة الأولى( كما سأبين دور المبدأ في جودة الأحكام الصادرة في المادة الأسرية )فقرة ثانية(.

الفقرة الأولى: دور المبدأ في توفير الأمن القضائي الأسري

  لقد تعددت التعريفات المعطاة للجودة في الأداء العملي لقطاع العدالة أهمها: أنها نظام تفعيل للعمل القضائي لتحسين مستوى أدائه وللرفع من الثقة به، فالجودة في مجال الأداء القضائي تعني الحصول على محاكمة عادلة بأقل تكلفة وحياد تام للقاضي وسهولة الوصول إلى المعلومة القضائية، وأيضا التقييم الذاتي للعدالة لبعض المخططات والمشاريع المستقبلية، والحديث عن جودة القضاء والأحكام ينطلق من حاجة الإنسان إلى نظام قضائي متكامل، مستقل ونزيه، إذ ما من شك أن ما ينشده المتقاضي والمحامي والقاضي ورجال الفكر والقانون، يصب في مصب واحد، هو شيوع العدل ورعاية حقوق المواطن وفق تنظيم محكم يسهم في إرساء قواعده[2].

إن استقلال القضاء وحياده، ونزاهته وجودة أحكامه…،كلها تعد شروطا ضرورية لبناء دولة القانون وتحقيق الأمن القضائي، والتي تعد بدورها ضمانات أساسية لتطبيق وسيادة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة، فجودة الخدمة القضائية تنطلق من حاجة الإنسان الضرورية، والمـُلحة إلى العدل والقضاء النزيه المستقل الذي يأمن معه على حقوقه، ويطمئن إلى أنه لا يمكن المساس بها في ظل هذا القضاء، ومن المهم التأكيد على أن تقييم المحاكم  والتحقق من سلامة أدائها لا يمكن أن يقاس دون معرفة واستطلاع آراء المتعاملين معها والمراجعين لها، وليس المقصود رضا الناس عن نتائج الأحكام القضائية التي لا يمكن أن يرضى بها طرفا الخصومة معا، بل لابد من سخط أو رفض أحد الطرفين لها، إنما المقصود هو رضا المتعاملين مع المحاكم عن أسلوب وطريقة الأداء فيها، مثل سهولة الإجراءات، وقرب المواعيد، وحسن تعامل الموظفين والقضاة معهم، وتكامل المرافق والأقسام التي تقدم الخدمة لهم داخل المحاكم، وتهيئة المباني المناسبة، والأمن القضائي موكول لجميع المحاكم[3]، وقد شكلت حماية المتقاضي ومحاولة تحقيق آماله وتطلعاته في الجهاز القضائي أولوية من أولويات الدولة، وذلك نظرا لأهميتها على جميع المستويات الاقتصادية والحقوقية، إضافة إلى ترسيخ التوجه الذي تبنته الدولة في سبيل بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، وهذا ما جاء في تصدير دستور فاتح يوليوز 2011، وبالنظر في عنوان هذه الفقرة فقد يتساءل سائل أين يبرز دور مبدأ البت داخل أجل معقول في توفير الأمن القضائي الأسري؟

والجواب عن هذا أن أحد أطراف العلاقة الزوجية عندما يلجأ للقضاء فهذا يوحي أن هناك أسبابا عديدة دفعت به كي يلجأ إلى القضاء واعتبره الملاذ الوحيد التي سينصفه ويضمن له حقوقه بعد تقصي الأسباب والدوافع، فهذا الشخص أمله أن يحظى بالتفاتة تجد حلا لمشكلته دون تعقيد في المساطر ولا طول مدة تزيد من معاناته، والمشرع – كما ذكرت سابقا- وضع آجالا محددة لِيُبَتَّ في الدعاوى الأسرية داخله، ولعل فلسفة المشرع من ذلك هو تسريع البت في مثل هذه القضايا.

إذن فالشخص الذي يتلقى استجابة من الجهاز القضائي داخل هذه الآجال يبعث الطمأنينة في نفسه ويعزز الثقة لديه في هذا الجهاز، وبالتالي تحقق الأمن القضائي، فالمرتفق أمله أن يكون القضاء في خدمته من خلال قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها، وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها وتحفيزها للتنمية والتزامها بسيادة القانون، في إلحاق الحقوق ورفع المظالم[4].

وعندما نتحدث عن السرعة في البت فلا يجب أن تنصرف الأذهان إلى أنه التسرع في البت وإصدار الأحكام، فعدم التروي يوقع لا محالة في الخطأ والزيغ عن جادة الصواب.

وفي هذا الصدد يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: “فإن الإبطاء بإيصال الحق لصاحبه عند تعيينه بأكثر مما يستدعيه يثير مفاسد كثيرة، منها حرمان صاحب الحق من الانتفاع بحقه، وذلك إضرار به، ومنها إقرار غير المستحق على الانتفاع بشيء ليس له، وهو ظالم للحق، ومنها استمرار المنازعة، ففي الإبطاء مفسدة بقاء التردد في تعيين صاحب الحق، وقد يمتد التنازع بينهما في ترويج كل شبهة، وفي كلا الحالتين تحمل مفسدة تعويض الأخوة الإسلامية للوهن والانهزام، فتزول حرمة القضاء من نفوس الناس، وزوال حرمته من النفوس مفسدة عظيمة”[5].

يتضح من كل ما سبق أن احترام الآجال القانونية في الدعاوى الأسرية يسهم في إرساء مبدأ الأمن القضائي، وإذا رجعنا قليلا إلى مدونة الأحوال الشخصية واستحضار بعض الأحكام والقرارات التي صدرت في ظلها، نجد أن الدعوى كانت تمتد لسنين مما كان يرتب عدة نتائج تعود بالسلب على مستقبل بعض الزوجات اللواتي يطمحن لبداية حياة جديدة ويجدن أمامهن تعقيد المساطر وبطئها مما يكبح جماح آمالهن، إلا أن مدونة الأسرة حاولت أن تتدارك الأمر من خلال تنصيص المشرع على آجال تحول دون التعقيد والبطء في الدعاوى، كما أن التعديل الجديد لقانون الأسرة الذي أدخله المشرع بخصوص النظام القانوني لإنهاء العلاقة الزوجية جعل النظر في إنهائها من الاختصاص المطلق للقضاء، وجعل التصرفات الرامية إلى إنهاء الزواج خاضعة للمراقبة القضائية،  وهكذا تم إيجاد مؤسسة مختصة في النزاعات بهيئة قضائية متخصصة ورقابة عامة، وتم تحديد اختصاصات كل الأجهزة المتداخلة في هذه النزاعات، وتنظيم عمليات الصلح عن طريق مساطر تراعي التيسير والتبسيط والسرعة في آجال محددة وإجراءات مضبوطة ومحمية حفاظا على حقوق الطرفين في الدفاع عن مصالحهما وحرصا على حماية الطابع التوجيهي للإجراءات[6]، إلا أنه لا يمكن نفي  وجود إكراهات على مستوى العمل القضائي فيما يخص عدم الالتزام بتلك الآجال وإصدار أحكام خارجها بل هناك من الإكراهات ما جعل العمل القضائي يصدر أحكاما متضاربة بهذا الخصوص. وهذه الإكراهات سأتناولها بالدراسة في مقال آخر بإن الله.

فالأمن القضائي إذن يعكس الثقة في المؤسسات القضائية، والاطمئنان إلى ما يصدر عنها من أحكام وهي تقوم بمهمتها المتجلية في تطبيق القانون على ما يعرض عليها من قضايا، أو ما تجتهد بشأنه من نوازل، هذا مع تحقيق جودة أدائها وتسهيل الولوج إليها، وعلم العموم بمجريات عملها القضائي[7]. في نهاية هذه الفقرة لابد أن أشير إلى أن للأجل دورا كبيرا في ترسيخ مبدأ الأمن القضائي وتعزيز الثقة لدى المتقاضين من خلال البت والاستجابة لدعاواهم في أسرع وقت من غير تماطل ولا تعقيد.

الفقرة الثانية: دور المبدأ في جودة الأحكام الصادرة في المادة الأسرية 

إن المشرع قد بين أغلب الأحكام المؤطرة للنزاعات الأسرية وذلك من خلال وضع ترسانة قانونية تتمثل في قواعد موضوعية وأخرى إجرائية، فبالقواعد الموضوعية بَيَّن َواجبات كل فرد من أفراد الأسرة، وبالقواعد الإجرائية قد بين مختلف إجراءات الدعوى، إلا أن إرادة المشرع رهينة بالسادة القضاة المعنيين بجعل هذه النصوص حية لترى النور على المستوى العملي وفق تأويلاتهم وقناعاتهم، والاجتهاد في المواضع التي تقتضي فيه المصلحة ذلك، فتفعيل مبدأ البت داخل أجل معقول وتحقيقه لنتائج مرضية على مستوى الأحكام القضائية الأسرية وجودتها رهين بإرادة جميع مكونات الجهاز القضائي من قضاة ومساعدي القضاة…

وإن من الأمور التي اتفق عليها أغلب الباحثين والدارسين بعد صدور مدونة الأسرة ضرورة وجود قضاء متخصص، وذلك من أجل ضمان التطبيق السليم والفعلي لهذا القانون، إذ لا يمكن أن نتصور نجاح مدونة الأسرة بدون توفر قضاء فعال وعادل، وقد اتضح ذلك جليا من الخطاب الملكي الذي أشار فيه الملك محمد السادس في رسالة إلى وزير العدل التي تضمنت ما يلي:

“… وقد أوضحنا فيها أن هذه المدونة مهما تضمنت من عناصر الإصلاح فإن تفعيلها يظل رهينا بإيجاد قضاء أسري عادل، وعصري وفعال، لا سيما وقد تبين من خلال تطبيق المدونة الحالية أن جوانب القصور والخلل لا ترجع فقط إلى بنودها ولكن بالأحرى إلى انعدام قضاء أسري مؤهل، ماديا وبشريا ومسطريا، لتوفير كل شروط العدل والإنصاف، مع السرعة في البت في القضايا، والتعجيل بتنفيذها…”[8].

بالنظر في الخطاب الملكي أعلاه يتضح جليا أن ضمان جودة الأحكام الأسرية رهين بوجود عدة معايير وركائز أساسية، فالمدونة  مهما تضمنت من عناصر الإصلاح فلابد من وجود قضاء أسري عادل وفعال يضمن الحقوق ويحمي كل من يدق بابه، وما يكرس ذلك هو أنه من خلال التطبيق العملي لبنود مدونة الأسرة تأكد أن الخلل لا يقتصر  فقط على بنودها بل تجاوزها إلى انعدام قضاء أسري له من المؤهلات المادية والبشرية والمسطرية ما يسهم في التطبيق السليم لهذا القانون من حيث الموضوع والشكل، فبهذه المؤهلات يمكن توفير شروط العدل والإنصاف بالإضافة إلى سرعة البت في القضايا الأسرية والتعجيل بتنفيذها، وما دمنا نتحدث عن المؤهلات القضائية فيجب أن أتطرق لنقطة في غاية الأهمية، هي تفعيل القضاء المتخصص في القضايا الأسرية،  فتخصص القاضي في قانون معين يسهم بشكل كبير في النجاعة القضائية، كما يترتب عن ذلك جودة في الأحكام، ورغم أن هناك إرهاصات تشير إلى أن وزارة العدل تسعى لتفعيل القضاء المتخصص، إلا أنه آن الأوان لأخذ الموضوع بجدية تامة، لما لهذه الخاصية من دور كبير في حماية الأسرة وضمان حقوقها.

وعموما فللقاضي دور كبير لتحقيق الجودة في الأحكام الأسرية من حيث ضبطه للمسطرة والسلطة المخولة له للتحكم في زمن الخصومة ودراسة كل دعوى على حدة، متأملا فيها مستخدما نباهته وفطنته للوصول إلى إصدار أحكام مناسبة في وقت وأجل مناسب يروم تحقيق متطلبات المتقاضين، إلا أن هذا القاضي كذلك يجب أن يحظى بظروف ومقومات مهنية خاصة وملائمة، بعيدا عن كل ضغط أو ما من شأنه أن يعكر صفو عمله، فتعزيز استقلال السلطة القضائية والنهوض بالحالة المادية والاجتماعية للقضاة أضحى واجبا لنكون أمام نتائج إيجابية على مستوى العمل القضائي،ويمكن القول -كذلك – بأن مساعدي القضاء يجب الحرص على تكوينهم بشكل يتماشى مع خصوصية القضايا الأسرية لعلاقتهم بحسن تدبير الأجل القانوني بشكل خاص والتدبير القضائي بشكل عام، فأعوان كتابة الضبط مثلا والمفوضون القضائيون تناط بهم مهمة التبليغ داخل آجال محددة، فتهاونهم وتماطلهم عن التبليغ وفق الآجال والمساطر المرسومة سيقلل لا محالة من النجاعة القضائية ومن جودة الأحكام الصادرة، إن لم نقل سيعرقل مجريات الدعوى كليا مما سيؤثر سلبا على منظومة العدالة.

المطلب الثاني بعض تجليات هذا المبدأ في مدونة الأسرة المغربية

من أهم المبادئ التـي يقف عليها من أقدم على استقراء مدونة الأسرة، هو حرص المشرع على الإسراع أثناء البت في القضايا الأسرية، وذلك من خلال وضع آجال محددة يجب على القضاء احترامها من خلال إصدار أحكامه وفقا لها، فنجد مثلا المادة 45 من المدونة أوجبت على الزوج إيداع المبلغ الذي تحدده المحكمة لفائدة الزوجـة والأولاد داخل أجل سبعة أيام، وإلا اعتبر الزوج متراجعا عن طلب الإذن بالتعدد، ونجد أيضا المادة 83 التي تلزم الزوج بإيداع المبلغ الذي تحدده المحكمة داخل أجل أقصاه ثلاثون يوما كمستحقات للزوجة والأطفال، و إلا اعتبر متراجعا عن رغبته في الطلاق، كما نجد المادة 97 من مدونة الأسرة  تنص على أن الفصل في دعوى الشقاق يجب أن يتم داخل أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب، وفي التطليق لعدم الإنفاق نجد المادة 102 من مدونة الأسرة  تنص في فقرتها الثانيـة على أن المحكمة عليها أن تحدد للزوج أجلا لا يتعدى ثلاثين يوما حتى ينفق خلاله، وإلا طلقت المحكمة منه زوجته إلا في حالة وجود ظرف قاهر واستثنائي ، وبتأملنا  كذلك في الفقرة الأخيرة من المادة 190 والتي تنص على أنه يتعين البت في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد.

وكما هو معلوم فالنفقة من أهم القضايا التي تثير العديد من الإشكالات على مستوى العمل القضائي، لذ سأتناولها بشيء من التفصيل في هذا المطلب الذي سأتحدث فيه عن الأجل الذي عينه المشرع للبت في قضايا النفقة (فقرة أولى) كما سأبين الضمانات القانونية التي خص بها المشرع حق النفقة لدورها الحيوي ولارتباطها بالمعيش اليومي (فقرة ثانية)

 الفقرة الأولى: الأجل الذي حدده المشرع للبث في قضايا النفقة

كما سبق وأشرت فالنفقة تثير الكثير من الإشكالات على مستوى العمل القضائي، ولصبغتها الاستعجالية أشار المشرع بضرورة البت في قضايا النفقة خلال أجل أقصاه شهر واحد بصريح المادة 190 من مدونة الأسرة، وينص الفصل 179 -مكرر- من قانون المسطرة المدنية على أنه: يبت في طلبات النفقة باستعجال، وتنفذ الأوامر والأحكام في هذه القضايا رغم كل طعن، ريثما يصدر الحكم في موضوع دعوى النفقة، للقاضي أن يحكم بنفقة مؤقتة لمستحقيها في ظرف شهر من تاريخ طلبها، مع اعتبار صحة الطلب والحجج التي يمكن الاعتماد عليها….

وبغض النظر عن الاختلاف الفقهي فيمن يعود له اختصاص البت في النفقة، فتوحيد المحاكم بخصوص هذا الإشكال في اتجاه إعطاء الاختصاص لقاضي الموضوع بالنظر في دعوى النفقة، سواء كانت مؤقتة أو نهائية، مع استفادته من المسطرة الاستعجالية – خاصة أن الحكم الصادر لا يمكن أن يكون إلا مساسا بالموضوع – ويبدو أن هذا الرأي هو الراجح.

وعلى خلاف الأصل أي إقامة الدعوى في محكمة الموطن الحقيقي أو محل إقامة المدعى عليه[9] نصت المادة 28 من قانون المسطرة المدنية على أنه خلافا لذلك تقام الدعوى في دعاوى النفقة أمام محكمة موطن أو محل إقامة المدعى عليه، أو موطن محل إقامة المدعي، باختيار هذا الأخير.[10]

فالمشرع أورد في المادة 190 من مدونة الأسرة السالفة الذكر، مقتضيات يظهر منها رغبة المشرع في إنهاء الكثير من مظاهر الممارسة العملية السائدة، والتي يطغى عليها التأخر خلال الفصل في قضايا النفقة في الكثير من الأحيان، مع أن موضوع النفقة لا يقبل التأخر لارتباطه بالمعيش اليومي، فنص على وجوب البت في قضايا النفقة في أجل أقصاه شهر واحد، وهذا الأجل هو عبارة عن أجل تحفيزي قصد منه الإسراع بإصدار حكم النفقة، على اعتبار صعوبة احترام ذلك الأجل[11]، وهذه الاستحالة الواضحة من خلال الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة يكون سببا فيها – بالإضافة إلى الأطراف – النيابة العامة التي أصبحت طرفا أصليا في كل القضايا ومنها النفقة، حيث تكون تارة حاضرة وأحيانا أخرى تغيب في الجلسات، مما يدفع بالمحكمة إلى تأخير الملفات من أجل إحالتها عليها[12].

وللإشارة فإن الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة أحكاما وقتية لا تخول أصحابها مراكز ثابتة، ومن ثمة تجوز مراجعتها زيادة أو نقصا، كلما تغيرت الظروف التي أدت إلى صدورها، وذلك بعد انصرام سنة من تحديدها إلا في ظروف استثنائية، وهو ما تخوله صراحة مقتضيات المادة 192 من مدونة الأسرة والتي جاء فيها: لا يقبل طلب الزيادة في النفقة المتفق عليها، أو المقررة قضائيا أو التخفيض منها، قبل مضي سنة، إلا في ظروف استثنائية.- استمرا ر سريان نفقة المصابين بالإعاقة والعاجزين عن الكسب، ونفقة البنت إلى حين توفرها على الكسب أو وجوب نفقتها على زوجها، أو إتمام 25 سنة بالنسبة للأبناء الذين يتابعون دراستهم خلافا للأحوال العادية الموجبة لسقوط النفقة ببلوغ المحضون ثمانية عشر سنة، كما نصت على ذلك المادة 198 من مدونة الأسرة.

هذا ويعتبر شرط مرور السنة على تاريخ فرض النفقة، من المقتضيات التي يراعيها القضاء المغربي قبل مراجعة النفقة، حيث جاء في حكم صادر عن قسم قضاء الأسرة بالناظور أنه: ” وحيث مضى أكثر من سنة على إقرار نفقة الابن… المطلوب مراجعتها”[13]، ورغم ربط طلب مراجعة النفقة بمضي سنة على تاريخ فرضها، فإن المجلس الأعلى لا يعتبر الشرط المذكور من النظام العام فلا يكون للدفع بعدم مرور السنة أي أثر، إذا أثير ذلك أمامه أول مرة، مما يدل على أن محكمة الموضوع لا يمكنها إثارة ذلك تلقائيا، فعلى المحكمة أن تتأكد من شرط مرور سنة على تقدير النفقة في حالة ما إذا تم الدفع أمامها بذلك، وإلا كان الحكم وحسبما ما قرره المجلس الأعلى يستوجب النقض”[14].

فإذا كانت المراجعة تنصرف إلى رفع أو خفض مبلغ النفقة الشهري أو السنوي فيتعين مراعاة ما إذا كانت هذه الظروف الاستثنائية أمرا طارئا أو دائما، إلا أن قصور النص يفرض المرونة في تفسيره[15].

الفقرة الثانية: الضمانات القانونية التي خص بها المشرع حق النفقة

ونظرا للدور الحيوي للنفقة فقد خصها المشرع المغربي بعديد من الضمانات القانونية حماية لهذا الحق وتجسيدا له في أرض الواقع وتمكينا لأصحابه منه بسهولة وسرعة بالقدر الكافي، وهذه الضمانات مبثوتة في قوانين مختلفة موضوعية وإجرائية ومن أبرزها[16]:

اعتبار المسطرة في قضايا النفقة شفوية ومعفاة من أداء الرسم القضائي بقوة القانون، بحكم طابعها المعيشي الإعالي، حسبما نص عليه القانون المتعلق بالمصاريف القضائية لسنة 1984، وبالذات المادة الثانية منه[17]، إذ كيف لمن لا يجد ما ينفقه، أن يؤدي الرسوم القضائية عن طلبه المتعلق بالنفقة؟ وكذا تحديد أجل قصير للفصل فيها محدد في شهر بعد أن كان أمد البت يزيد في المتوسط عن السنة، وإعطاء القضاء إمكانية اقتطاع المبالغ المتعلقة بها من منبع الريع الذي يتقاضاه الملزم وتمكينه من اتخاذ جميع الضمانات التي تسمح بتنفيذ الحكم.

شفع الحكم القاضي بالنفقة بالنفاذ المعجل وإتاحة تنفيذه رغم كل طعن عملا بمقتضيات المادة 190 من مدونة الأسرة.

جعل النفقة في عداد الديون الممتازة المحصنة ضد أي حجز أو مقاصة، كما جاء في الفصل 1248 من قانون الالتزامات والعقود وكدا ما كرسه الفصل 488 من قانون المسطرة المدنية وزكاه العمل القضائي، حيث جاء في أمر صادر عن رئيس المحكمة الابتدائية بتازة: .. لكن حيث إن ما دفعت به المدعى عليها غير مؤسس قانونا، ذلك أن مقتضيات الفصل 488 من قانون المسطرة المدنية واضحة وصريحة في كون النفقات لا تقبل التحويل ولا الحجز، وليس بها أي استثناء يجيز للدائن بدين النفقة في إيقاع الحجز على مبلغ النفقات، لضمان أداء دينه المذكور، الشيء الذي تبقى معه تلك المقتضيات عامة.. هذا من جهة أما من جهة أخرى فإن مقتضيات الفصل 365 من قانون الالتزامات والعقود تنص على أنه لا تقع المقاصة إذا كان أحد الدينين نفقة أو غيرها من الحقوق التي لا يجوز الحجز عليها.

وحيث إنه لذلك يكون الحجز المضروب على مبالغ النفقة المودعة بصندوق المحكمة مخالفا للقانون، وعليه يكون الطلب الرامي إلى رفعه مؤسسا مما ينبغي الاستجابة له”[18].

كل توقف عن أداء النفقة وخصوصا نفقة الأولاد لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول، تطبق على المتوقف عن أدائها أحكام إهمال الأسرة[19]،  كما نصت على ذلك المادة 202 من مدونة الأسرة .

خاتمة:

وفي الأخير يمكن القول إن مبدأ البت داخل أجل معقول من شأنه أن يخلق في نفوس المتقاضيين ارتياحا، ويشجعهم على اللجوء إلى القضاء؛ لأن التجربة أثبتت أن المساطـر الطويلة لا تبعث على الارتياح وتدخل اليأس في نفوس المرتفقين، كما أنها تفقد الناس الثقة في مرفق القضاء عند عدم نجاعة وجودة الأحكام الصادرة عنه بالإضافة إلى بطءٍ يسيء للجهاز القضائي بشكل عام، ثم إن  الضمانات التشريعية الإجرائية والموضوعية التي كرسها المشرع تحتاج إلى ضمانات أخرى تنفيذية تيسر اقتضاء الحق المقضي به، فالحكم الصادر بأيسر السبل وفي أقرب الآجال يبقى مجرد حبر على ورق، إذا لم يجد السبيل إلى التنفيذ في أقرب الآجال كذلك.

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة

  • أحمد الخمليشي، التعليق على قانون الأحوال الشخصية، ج2 آثار الولادة والأهلية والنيابة القانونية، ط1 1995، دار النشر المعرفة.
  • أمر استعجالي رقم 05/400، صادر بتاريخ 28 دجنبر 2005. ملف عدد 369/05 أشار إليه عبد القادر قرموش، الدور القضائي الجديد، ص277.
  • جميلة السويري، الأمن القضائي وجودة الأحكام، بدون طبعة.
  • جودة الخدمة القضائية وتقييم عمل المحاكم ملخص تقرير حول الندوة العلمية التي نظمتها وزارة العدل ضمن برنامج التعاون مع وزارة العدل الفرنسية بتاريخ: 12-13 ماي 2003. منشور بالصفحة الالكترونية: منظمة الحريات للتواصل بين موظفي قطاع العدل بالمغرب. https://alhoriyatmaroc.yoo7.com/
  • حكم رقم 1020 صادر بتاريخ 25-06-07. غير منشور.
  • دستور المملكة المغربية الصادر بالجريدة الرسمية، عدد 5964 مكرر، بتاريخ 30 يوليوز 2011.
  • ضمانات إجراءات تقدير نفقة المتعة، سرعة البت والتنفيذ، مقال منشور بالموقع الإلكتروني. http://www.blog.saeeed.com
  • عادل حاميدي، الدليل الفقهي والقضائي للقاضي والمحامي في المنازعات الأسرية. الطبعة الأولى 2016.
  • عبد القادر قرموش، الدور القضائي الجديد في قانون الأسرة المغربي، أطروحة لنيل شهادة الدكتورة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2007-2008.
  • عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، عرض مقدم في إطار الندوة المنظمة من طرف الودادية الحسنية للقضاة بمناسبة المؤتمر الثالث عشر للمجموعة الإفريقية للاتحاد العالمي للقضاة، الدار البيضاء، 28 مارس2008.
  • قانون الالتزامات والعقود المغربي، ظهير 12 غشت 1913.
  • القانون المتعلق بالمصاريف القضائية ظهير شريف 54- 84- 1 بتاريخ 25 رجب 1404هــــ 27 أبريل 1984 بمتابة قانون المالية لسنة 1984.
  • قرار رقم 171 بتاريخ 17-07-1972 مجلة القضاء والقانون عدد124.
  • محمد الشافعي، قانون الأسرة المغربي بين الثبات والتطور، الطبعة الأولى 2004 المطبعة والوراقة الوطنية مراكش.
  • محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، ط1، 1978،
  • مدونة الأسرة المغربية رقم 70.03 صادر بالجريدة الرسمية عدد 5184 بتاريخ 5 فبراير 2004.
  • المسطرة الجنائية المغربية الصادرة بالجريد الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003.
  • المسطرة المدنية المغربية، الصادرة بالجريدة الرسمية، عدد:3230 بتاريخ 30 شتنبر 1974.
  • مقتطف من الخطاب الملكي محمد السادس الذي ألقاه عشية يوم الجمعة بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان 10 – 10- 2003 بالرباط.

الإحالات:

[1] – جاء في الفصل 120 من الدستور:

لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول.

_ حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم.

[2]– جودة الخدمة القضائية وتقييم عمل المحاكم ملخص تقرير حول الندوة العلمية التي نظمتها وزارة العدل ضمن برنامج التعاون مع وزارة العدل الفرنسية بتاريخ: 12 و 13 ماي 2003. منشور بالصفحة الالكترونية: منظمة الحريات للتواصل بين موظفي قطاع العدل بالمغرب. https://alhoriyatmaroc.yoo7.com/

[3] -جميلة السويري، الأمن القضائي وجودة الأحكام، بدون ط، ص 3 وما بعدها بتصرف.

[4]– مقتطف من خطاب الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الثامنة لسنة 2011.

[5]– محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، ط1، 1978، ص200 بتصرف.

 [6] – عبد القادر قرموش، الدور القضائي الجديد في قانون الأسرة المغربي، أطروحة لنيل شهادة الدكتورة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2007-2008. ص 14.

[7]– عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، عرض مقدم في إطار الندوة المنظمة من طرف الودادية الحسنية للقضاة بمناسبة المؤتمر الثالث عشر للمجموعة الإفريقية للاتحاد العالمي للقضاة، الدار البيضاء، 28 مارس2008.

[8] – مقتطف من الخطاب الملكي محمد السادس الذي ألقاه عشية يوم الجمعة بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان 10 – 10- 2003 بالرباط.

[9]– الفصل 27 من قانون المسطرة المدنية.

[10]– ضمانات إجراءات تقدير نفقة المتعة، سرعة البت والتنفيذ، مقال منشور بالموقع الإلكتروني. http://www.blog.saeeed.com

[11]– ولكن الواقع العملي بأقسام قضاء الأسرة يشهد على عكس هذا، لأن التقيد بأجل الشهر بالنسبة لقضايا النفقة يؤدي أحيانا إلى عدم احترام الآجال المحددة قانونا للاستدعاء حسب الفصلين 40و41 من ق.م.م. والتي قد يترتب عن مخالفتها البطلان عند التمسك بها من ذي مصلحة. ينظر في هذا الصدد، أحمد الأمراني، السلطة التقديرية للقاضي في تحديد نفقة الأبناء، مقال منشور بمجلة الأبحاث والدراسات القانونية العدد الأول ماي 2013. ص167و168.

[12]– محمد الشافعي، قانون الأسرة المغربي بين الثبات والتطور، الطبعة الأولى 2004 المطبعة والوراقة الوطنية مراكش ص 98.

[13]– حكم رقم 1020 صادر بتاريخ 25-06-07. غير منشور.

 [14]- قرار رقم 171 بتاريخ 17-07-1972 مجلة القضاء والقانون عدد124 ص640.

[15]– أحمد الخمليشي، التعليق على قانون الأحوال الشخصية، ج2 آثار الولادة والأهلية والنيابة القانونية، ط1 1995، دار النشر المعرفة: ص198.

[16]– عادل حاميدي، الدليل الفقهي والقضائي للقاضي والمحامي في المنازعات الأسرية. الطبعة الأولى 2016.ص525 وما بعدها.

[17]-جاء في الفصل الثاني من القانون المتعلق بالمصاريف القضائية ظهير شريف 54- 84- 1 بتاريخ 25 رجب 1404

27 أبريل 1984 بمتابة قانون المالية لسنة 1984″ استثناء من الأحكام الواردة في الفصل الأول أعلاه تتمتع بالإعفاء من الضراب والرسوم المقررة فيه ….

– الطلبات المتعلقة بالنفقة.

 [18]- أمر استعجالي رقم 05/400، صادر بتاريخ 28 دجنبر 2005. ملف عدد 369/05 أشار إليه عبد القادر قرموش، الدور القضائي الجديد، ص277.

 [19]- جنحة إهمال الاسرة المنصوص على عقوبتها في المواد 479 إلى 483 من القانون الجنائي وذلك دون حاجة إلى اتباع الإجراءات الخاصة بهذه الجنحة في الحالات الأخرى من إنذار أو صدور حكم بالنفقة. ينظر في هذا الصدد الدليل العملي لمدونة الاسرة، ص123.

قد يعجبك ايضا