محمد عياش: حق المتهم في التزام الصمت

على الرغم من ورود الحق في الصمت في العديد من الاتفاقيات الدولية و التشريعات المقارنة ،و بمصطلحات مختلفة ،فمن التشريعات من يستعمل مصطلح عدم الشهادة ضد النفس أو تجريم الذات ،و منها من عبر عن الحق في الصمت بحرية المتهم في عدم الإدلاء بأي تصريح ،فإنها مع ذلك لم تعرف الحق في الصمت انطلاقا من مدلوله القانوني و الفقهي .

إن احترام حرية الشخص و حقوقه الدستورية في الدعوى الجزائية يمثل حجر الزاوية لإقامة صرح عدالة جنائية فعالة ،تأخذ بعين الاعتبار المعاملة الإنسانية كصفة مميزة لها ،و توفير أكبر قدر من الضمانات التي يقرها القانون لتحقيق التوازن بين الفعالية الجنائية و الشرعية الإجرائية ، وهذا ما يبرره أن المتهم هو الطرف الضعيف في الدعوى الجزائية ،حيث يجد نفسه وحيدا في مواجهة احدى سلطات الدولة سواء الضابطة القضائية أو قاضي التحقيق أو قاضي الحكم ،و لأن كل سلطة لها إجراءات تختلف باختلاف المرحلة التي تكون عليها الدعوى و الهدف منها ،و ما تنطوي عليه من مساس بالحرية الفردية يكون قانون الإجراءات الجزائية المرآة العاكسة لأهمية وقيمة الحريات و الحقوق و الضمانات المكرسة للوصول إلى الحقيقة خدمة للمجتمع و توطيدا   و إرساء لدعائم دولة القانون ،و على هذا الأساس تم استبعاد الأساليب غير المشروعة لبناء الحقيقة ،مما أدى بالكثير من الفقهاء إلى اعتبار قانون الإجراءات الجزائية قانون الشرفاء ،لأن المتهم يبقى بريئا خلال مراحل الدعوى الجنائية حتى يصدر ضده حكما بالإدانة ،لذلك نجد أن أساس الشرعية الجنائية هو البراءة ذات الأهمية القصوى ،إن لم نقل المحور الأساسي الذي تدور حوله آليات الإثبات الجنائي .

أما بالنسبة  للمشرع المغربي فلم يكتفي بالتأطير و التنصيص على مبدأ الشرعية في القانون الجنائي الموضوعي بل شمله بعناية أيضا في الشق الإجرائي حيث كرس الشرعية الجنائية في قانون المسطرة الجنائية فنص على قرينة البراءة في المادة الأولى منها ،فالشخص المتهم بريء حتى تثبت إدانته ،فالأصل في المتهم البراءة ،فحسب المفهوم المكرس لهذا الحق ،نجد المتهم له الحرية الكاملة في الإدلاء بأقواله إن أراد ذلك ،و عليه فلا يجوز إكراهه على القول و التصريح بأي شيء مهما كانت جسامة الأفعال و خطورتها ،و له أن يستخدم جميع الوسائل الممكنة لدرء التهم عنه ، حتى و إن كان ذلك عن طريق توريط الغير في القضية ،لأن المتهم هو شخص محل تتبع من قبل القضاء ،و هذا ما قد يدفعه لإنكار الحقيقة و التزام موقف سلبي بالامتناع عن التصريح حماية له عند مباشرة الدعوى الجنائية .

يكتسي هذا الموضوع أهمية قصوى ،ويتجلى  ذلك عند ممارسة المتهم لحقوقه في الدفاع عن نفسه لاستناده على قرينة البراءة من جهة ،و مدى احترامها من طرف المحقق من جهة أخرى سواء على المستوى الإجرائي أو الموضوعي .

فأهمية هذه الدراسة تبدو واضحة أيضا من خلال انعكاسها على ترسيخ حماية حقوق الإنسان بالمغرب ،فحق الإنسان في محاكمة عادلة بات في عصرنا الحالي من الحقوق الأساسية و المسلم بها ،إن لم أقل أن هذا الحق أصبح مبدأ من المبادئ الواجبة التطبيق في شتى أنحاء العالم ،     و ذلك لما للمحاكمة العادلة من أهمية كبرى في التأثير على مصير المتهم .

و بناء عليه تطرح لنا مشروعية التساؤل حول:

حق المتهم في الامتناع عن التصريح ،كحق من حقوق الدفاع ،و الاتجاه إلى صياغة موقف نظري مؤسس يكون انطلاقة لصياغة قانونية سليمة و ممارسة قضائية صحيحة تقف على جدية و حيادية التأويل و التفسير الموضوعي لامتناع المتهم عن التصريح و كيفية التعاطي معه ،سواء في حالة الإدانة أو في حالة البراءة في ظل قلة الاجتهاد القضائي .

فهل يعتبر الامتناع عن التصريح من طرف المتهم دليل إدانة أم دليل براءة ؟ و ما هي الفائدة التي يحصل عليها المتهم إذا التزم الصمت ؟ و هل هناك ما يبرر هذا الامتناع استنادا على قرينة البراءة ؟

و عليه يمكن الإجابة على هذه التساؤلات من خلال محورين كالآتي :

المحور الأول : مضمون الحق في الصمت

شهد المغرب في السنوات الأخيرة تحولات كبيرة مست العديد من المجالات كان عنوانها الأكبر تطويع بنية المنظومة التشريعية بصفة عامة و التشريع الجنائي بصفة خاصة ،لملاءمتها مع التزامات المملكة اتجاه المنتظم الدولي ،همت مجموعة من الإصلاحات التشريعية في منحى مراجعة المنظومة الجنائية لتجاوز ثغرتها و مواكبة الأنظمة الجنائية الكونية و مكافحة الجريمة   و تكريس أبجديات العدالة الجنائية ،و تعزيز مبدأ شرعية التجريم و العقاب الذي يعد بحق العمود الفقري و النواة الصلبة في التشريع الجنائي ،و خاصة فيما يخص حقوق المتهم أثناء و بعد المحاكمة ،و من بين هذه الحقوق ،الحق في الصمت .

و المقصود بالحق في الصمت هو تنبيه المتهم بحقه في عدم الإدلاء ،بأي تصريح متسرع أو متهور من شأنه أن يورطه في الأفعال المنسوبة إليه .و السؤال الوحيد المجبر على الإجابة عليه و ليس له خيار التزام الصمت تجاهه هو ما تعلق بهويته الكاملة .أو ما تعلق بالإخبار عما يعرفه بخصوص جريمة منسوبة لغيره تحت طائلة العقوبة[1] .    حيث جاء في الفصل 378 من القانون الجنائي الذي ينص صراحة على أن ” من كان يعلم دليلا على براءة متهم محبوس احتياطيا ،أو مقدم للمحاكمة من أجل جناية أو جنحة ،وسكت عمدا عن الإدلاء بشهادته عنه فورا إلى السلطات القضائية و الشرطة ،يعاقب بما يلي:

– الحبس من سنتين إلى خمسة سنوات و الغرامة من مائتين و خمسين إلى ألف درهم ، إذا كان الأمر متعلقا بجناية .

– الحبس من شهر واحد إلى سنتين و الغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط ،إذا كان الأمر متعلقا بجنحة تأديبية أو ضبطية .

و لكن، لا يعاقب إذا أدى شهادته متأخرا ،متى تقدم بها من تلقاء نفسه . ولا تطبق أحكام هذا الفصل على المتهم في الجريمة موضوع المتابعة و لا على المساهمين أو المشاركين فيها ،و لا على أقاربهم أو أصهارهم إلى الدرجة الرابعة “.

و ينص الفصل 23 من الدستور الفقرة الثالثة :” يجب إخبار كل شخص تم اعتقاله ،على الفور و بكيفية يفهمها ،بدواعي اعتقاله و بحقوقه ،و من بينها حقه في التزام الصمت و يحق له الاستفادة في أقرب وقت ممكن ،من مساعدة قانونية ،و من إمكانيات الاتصال بأقربائه ،طبقا للقانون “.

أما الفقرة الثانية من المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية  فجاء فيها: ” يتعين على ضابط الشرطة القضائية إخبار كل شخص تم القبض عليه أو وضعه تحت الحراسة النظرية فورا و بكيفية يفهمها ،بدواعي اعتقاله و بحقوقه ،و من بينها حقه في التزام الصمت “.

و تجدر الإشارة إلى أن أي مجتمع منظم لا تكون فيه حرية الفرد بشكل مطلق دون ضوابط ، فلا بد أن تحكمها بعض القيود و أن يتم ذلك وفق إطار قانوني تشريعي ،و أن لا يكون الهدف الأسمى منها انتهاك حقوق الشخص الأساسية ،بل حماية جملة الحقوق التي تعترف بها المواثيق الدولية و القوانين الوطنية ،فمنذ أن منع المجني عليه من حقه في الانتقام الفردي ،أخذت الدولة على عاتقها الالتزام بإقامة العدالة في المجتمع .

و عليه يعتبر المتهم حرا في الكلام أو الامتناع عنه و عدم الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه من طرف أي سلطة .و في أي مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية ،دون أن يأخذ سكوته و امتناعه عن إبداء أقواله قرينة على ثبوت التهم الموجهة إليه .ما دام أن الحق في التزام الصمت هو حق دستوري .و مستمد من أصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته قانونا بحكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به ، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية ،و إلا كان في ذلك إطاحة بأصل البراءة و ما تولد عنها من حقوق الدفاع .     

المحور الثاني : الحق في الصمت بين التأييد و المعارضة

يرتكز معظم مؤيدي حق المتهم في الصمت على قرينة البراءة ،و الحقوق المنبثقة عنها و هي حقوق الدفاع كتجسيد للشرعية الإجرائية و منها حق المتهم في اللامتناع عن التصريح ، لأن قاعدة افتراض البراءة في المتهم لا تتطلب منه تقديم أو تحضير الدليل على براءته ،و من ثم اتخاذ موقف سلبي تجاه الدعوى المقامة ضده ،و على سلطة الاتهام تقديم الدليل على المنسوب إليه ،تطبيقا لمبدأ البحث عن الحقيقة ،لأن عبء الإثبات يفع على النيابة العامة .كما أن النيابة العامة كسلطة اتهام عليها أن تسعى إلى إثبات الحقيقة كما تسعى إلى إثبات أدلة الإدانة ،فيكون سعيها لإثبات أدلة النفي بنفس القدر ،هذا حتى تكون أعمال النيابة العامة و جميع السلطات القضائية  تتسم بالموضوعية إلى غاية صدور حكم حائز لقوة الشيء المقضي به كمظهر أساسي لليقين الذي يحصل من نسبة الفعل للمتهم الذي يتحول إلى محكوم عليه ،و بذلك تدحض قرينة البراءة ،بقرينة الحقيقة الواقعية .

و عارض جانب من الفقه حق المتهم في الصمت ،معتبرا أنه لا يجوز للمتهم أن يصمت حيال ما يوجه إليه من أسئلة ،مبررين ذلك بأن الصمت يساعد المذنب على عدم الاعتراف ، بينما البريء يستطيع نفي كل الشبهات عنه بكلمات قليلة ،لأن المتهم سيرتك خطأ كبير في حال عدم استعماله حقا منحه له القانون ،و هو الدفاع عن نفسه بالإفصاح عن حقيقة الأمر،  كذلك لم يعترف ” بيكاريا”[2] في كتابه ( الجرائم و العقوبات ) بهذا الحق ،و اعتبر صمت المتهم جريمة ،وجب معاقبته عليها .و هناك من اعتبر أن المتهم البريء لا يتحمل الصمت ، و يكون له ميل للإفصاح عما يكنه في صدره عن الواقعة الإجرامية .

أما ” جيرمي بينتهام ” فهو يقرر عدم إمكانية تأصيل هذا الحق بالنسبة للمتهم ذلك لأن المجتمع ينشد دائما حق التكلم كما يبحث المتهم على امتياز السكوت أو الصمت [3].

أما الأستاذ ” شارل “فإنه يناقش وجود حق المتهم الامتناع عن التصريح على مستويين ، الأول أخلاقي و هو أن القانون الذي يتحكم في الإنسان هو الحقيقة التي يسعى في البحث عنها طوال حياته ،و الثاني المستمد من القانون الطبيعي و هو سير العدالة الذي يجب على الإنسان أن يسانده ،فمن غير الممكن تمكين المتهم من الحق في عدم الكلام فليس هناك عذر إنساني يبرر ذلك [4].

و في هذا الصدد أوضح الجانب القضائي أن المتهم المحال على النيابة العامة في حالة سراح ثم يتخذ القرار باعتقاله فإنه لا يستفيد من الحق في التزام الصمت ،و نفس الشيء يمكن أن يقال عن الأمر بإلقاء القبض الصادر عن قاضي التحقيق و الموجه للقوة العمومية .

بخلاف المتهم الذي ضبط في حالة التلبس، يوضع تحت تدابير الحراسة النظرية ،فإن حق التزام الصمت لن يؤثر على مجريات البحث مادام المتهم قد ضبط و هو في حالة تلبس.

خاتمة :

إن ما تقوم عليه الدلائل و ما تشير إليه الشواهد أن الأصل في الإنسان البراءة ،و افتراض قيامها في القانون الجنائي أمر طبيعي يتفق مع العقل و المنطق ،لذلك فقد تم إقرارها كمبدأ عالمي ،أجمعت عليه البشرية ،قبل النص عليه دستوريا ،و أصبحت معظم الدول تسعى لتكريسه و حمايته ضمانا لحرية المتصف به و للمجتمع من الفوضى و الانحراف ،فهو أساس حقوق الإنسان على الإطلاق ،فقد اتفقت على قداسته الإعلانات العالمية و المواثيق الدولية و الدساتير الداخلية ،فهو مبدأ أساسي لحرية المتهم في الدفاع على نفسه ،فلا يزول بمجرد الاشتباه أو الاتهام ،و الشك يفسر لصالح المتهم ،فتستمر قرينة البراءة ملازمة له إلى أن يدحضها حكم قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به ، و من ثم يبرز حق المتهم في الصمت كأهم مظهر من مظاهر قرينة البراءة يعتصم به المتهم لتحضير دفاعه من جهة ،و منع سلطة الاتهام من تحصيل الدليل بطرق غير مشروعة لإشباع الرغبة في الوصول إلى الحقيقة بأي ثمن من جهة ثانية .و يبقى السؤال هل هذا الحق يحترم في مخافر الشرطة و الدرك ببلادنا ،أم أنه حبر على ورقة المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية و خاصة الفقرة الثانية منها ؟ .

الإحالات:

1- عبد العزيز البعلي :إجراءات الوضع تحت الحراسة النظرية على ضوء تعديلات المادة 66 من ق م ج ،المجلة المغربية لنادي قضاة الدار البيضاء  2014  العدد الثالث ص 34 .

2- سيزار دي بيكاريا (1738-1793) مؤسس المدرسة التقليدية ،كان نبيلا إيطاليا شابا متحمسا لفلسفة الحرية التي نادى بها مونتيسكيو و روسو وهاجم التحكم في قواعد العقوبات و قسوتها و المغالاة فيها .

[3] – Jerrmy BENTHAM :Traité des Peines  Judiciaires trad Pqris 1825 These Bordeaux 1971 p 66 .

[4] – Raymond CHARLES : Le Droit au Silence de L’inculpé – RIO Paris 1953 – pp 135-137

المعلومة القانونية

*محمد عياش

باحث في العلوم القانونية

قد يعجبك ايضا