أثر “covid 19” على مهنة التوثيق العدلي رؤية اقتصادية واجتماعية – الجزء 1

ضَجَّ العالم في الأيام الأخيرة، بتحولات عميقة وتغييرات مفصلية، وعرف أحداث وتطورات متتالية، نتيجة إنفجار بركان فيروس” كورونا covid 19 “، من غرف الصهارة مدينة ووهان الصينية، غطت حممه السامة بسرعة فائقة جميع بقع العالم، فتحول إلى قرية صغيرة مهجورة بسبب الحجر الصحي، بدت فيه الإنسانية تتساقط رويدا رويدا كأوراق الخريف، وتهاوت النظم والأفكارعلى مرأى من بدايتها، وتقادمت الأشياء وهي في أوج جدتها، تغيرت كثيرا من الملامح  الإجتماعية و الثقافية و السياسية و الإقتصادية. وأضحت الأليات العلمية الحديثة عتيقة، متهالكة و منفسخة يوما تلو الاخر، أمام هذا الفيروس  القاتل، على الرغم من كل ما يزهو به عصرنا الحديث من ثراء معرفته؛ في مجالات الطب والبيولوجيا والكيمياء، لم يستطع أن يوقف أكبر تسونامي وبائي ضرب العصر الحديث، واكتشاف لقاح وعلاج له.

وعلى إثر هذه الجائحة العالمية سارعت الآلة التشريعية لجميع دول العالم الى إتخاذ حزمة من التدابير والإجراءات الإحترازية، لتحقيق أمنها الصحي والإقتصادي، وتموقع المغرب تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك حفظه الله، ضمن طليعة الدول التي اعتمدت إجراءات و تدابير حاسمة، من أجل التصدي لهذا الوباء المستجد،  فقد تقرر إغلاق الحدود، وتعليق جميع مظاهر الحياة الاجتماعية، وتشكيل لجنة اليقضة لتتبع التأثيرات المحتملة على الإقتصاد الوطني،  وإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني، وإحداث صندوق خاص بتدبير جائحة فيروس كرونا لدعم القطاع الصحي و الإقتصاد الوطني، والفئات المعوزة، واستنادا لمبدأ التضامن المنصوص عليه في الفصل 40 من دستور المملكة، وتلبية لروح المواطنة الحقة، سارعت الهيئة الوطنية للعدول بجميع أجهزتها، الى المساهمة في صندوق الجائحة؛ بمبلغ قدره: مليون ومائتان وأربعة وسبعون ألف درهم ( 00 ,1.274.000 درهم)([1]). كما تقرر إغلاق([2]) جميع مكاتب التوثيق العدلي، لمنع تفشي هذا الوباء، بين العدول الموثقين، والمتعاقدين وطالبي الشهادة والشهود، وجميع المرتفقين، مما أدى الى تعطيل هذه المؤسسة العريقة التي ظلت تمارس وظائفها كمهنة قانونية([3]) حرة في إطارمساعدي العدالة([4])، قريبة من المجتمع للإشهاد على الأحوال الشخصية، وتوثيق مختلف أنواع المعاملات والتصرفات، والإسهام في تحقيق التنمية الإقتصادية والمجالية للبلاد، وتشجيع الإستثمارات العقارية. غير أن فيروس” كورونا – covid 19 “.عطل هذه الوظائف وشل حركية مكاتب التوثيق العدلي التي ظلت عاجزة عن مواكبة تداعيات هذا الوباء ويعزى ذلك؛ الى عدم توفرها على تجهيزات وآليات وقائية حديثة تتلائم ومخاطر هذا النوع من الأوبئة، وغياب مقتضيات قانونية تنظم العقد العدلي التوثيقي الإلكتروني، وعدم التنصيص على رقمنة شاملة لتبادل المعطيات بشكل إلكتروني مع المؤسسات المرتبطة بمهنة التوثيق العدلي بإستثناء التسجيل الإلكتروني، بالإضافة الى الارتباط الوثيق بمؤسسة القاضي المكلف بالتوثيق الذي يكرس محدودية المهنة. وهذا سيرتب نتائج وخيمة على النمو الاقتصادي والوضعية الاجتماعية للعدول الموثقين ومستخدميهم، وسيمتد هذا الأثر الى وضعية العدول الذين قضوا فترة التمرين وأدوا الامتحان المهني بنجاح في إنتظار التعيين بشكل رسمي. ومن هنا تأتي مشروعية: “مكتب التوثيق العدلي و التنمية الاقتصادية، والحماية الاجتماعية للعدل الموثق”  لتسوقنا الى وضع الاشكالية الرئيسية:

  • الى أي حد يمكن أن يؤثر إغلاق مكاتب التوثيق العدلي على التنمية الاقتصادية للبلاد، والوضعية الاجتماعية للعدول الموثقين؟

ولمعالجة هذه الإشكالية الراهنة تسوقنا المقاربة الاقتصادية و الاجتماعية؛ الى الحديث عن: أثرإغلاق مكاتب التوثيق العدلي على التنمية الإقتصادية  (المحورالأول) وعلى الوضعية الإجتماعية للعدول الموثقين ( المحور الثاني).

المحور الاول: أثر إغلاق مكاتب التوثيق العدلي على التنمية الاقتصادية

لعبت مؤسسة التوثيق العدلي منذ القدم، دورا مهما في تحقيق التنمية الاقتصادية  والمجالية للبلاد، ومنع الركود، والمساهمة في إعادة توزيع الدخل، من أجل تحقيق التماسك الإجتماعي، عن طريق ضخ موارد جبائية مهمة في ميزانية الدولة، من خلال ” واجبات التسجيل ” ([5])، وواجبات التمبر([6]). التي  تخضع لها الوقائع المضمنة في محررات التوثيق العدلي. كما تسهم هذه الاخيرة في دعم الموارد الجبائية للدولة، بطريقة غير مباشرة عن طريق “الضريبة على الدخل صنف الارباح العقارية”([7])، كما ألزم المشرع الضريبي العدل الموثق بأداء الضرائب المفروضة عليه بقوة القانون؛ “الضريبة على الدخل صنف الدخول المهنية”([8]) و “الضريبة على القيمة المضافة”([9])، بالاضافة الى “الدعائر والغرامات والزيادات عن التأخير”. وتتصف هذه الموارد بالديمومة والاستقرار والثبات، بإعتبارها من الوسائل المهمة التي تساهم في تحقق أهداف الدولة، وإنعاش الحياة الاقتصادية  والاجتماعية بالبلاد، وضمان السير العادي للمرافق العمومية. ومن جهة أخرى تعد محرارت التوثيق العدلي لبنة أساسية للإستثمار العقاري إذ بواسطتها يتم منح للأوعية العقارية سندا قانونيا ويجعلها قابلة للتداول الإستثماري، ومحركا قويا لكل المعاملات العقارية الاستثمارية. وتشكل عائدات هذه الموارد جزء مهم ضمن نسيج الموارد الإجمالية؛ إذ حسب مشروع  قانون المالية لسنة 2020 ستبلغ حصيلة رسوم نقل الملكية ماقدره 7.547.635.000 درهم، مسجلة إنخفاض نسبته  15,74% عن سنة 2019. في حين ستناهز حصيلة رسوم التمبر والورق المقاس برسم سنة 2020 ما مجموعه 886.119.000 درهم، بإنخفاض قدره 4,78% عن سنة 2019. وستبلغ حصيلة الضريبة على الدخل  حسب مشروع قانون المالية لسنة 2020 ما قدره 46.181.117.000 درهم، بزيادة نسبتها 3,54% عن سنة 2019. أما الضريبة على القيمة المضافة المحصلة من طرف المديرية العامة للضرائب، فستبلغ حصيلتها ماقدره 23.008.136.000 درهم سنة 2020، بزيادة قدرها 14.85% عن سنة 2019. من مجموع  موارد ميزانية الدولة، إذ من المتوقع أن يبلغ مجموع  الموارد العادية للميزانية العامة  برسم سنة 2020 ما قدره 248.884.681.000 درهم، مقابل 242.889.345.000 سنة 2019، أي بزيادة قدرها 2,47%. و ذلك دون احتساب الموارد المتعلقة بالتسديدات و التخفيضات و الإرجاعات الضريبية([10]). وستتأثر هذه الموارد بعطالة مكاتب التوثيق العدلي بسبب توقف توثيق مجموعة من المعاملات و التصرفات العقارية  ( عقار محفظ أو في طور التحفيظ أو غير محفظ ).  والتجارية ( العقود التجارية ) والمالية ( العقود البنكية )؛ ونحو ذلك التفويتات بين الأحياء بعوض أو بغير عوض, الإيجار، إنشاء الرهون و افتكاكها، تأسيس و الزيادة في رأس مال و تمديد وحل الشركات أو المجموعات ذات النفع الاقتصادي، تفويت أسهم الشركات، قسمة الاموال المنقولة أو العقارية، الشركات المدنية العقارية، الضمانات المنقولة، التصرفات الواردة على الأصل التجاري، إحصاء التركة، إثبات الملكية…كذلك سيؤثر شلل المحررات العدلية على وقف تأسيس رسوم الملكيات التي تعتبر أساس الاستثمار العقاري. ومن جهة ثانية ستؤثر هذه العطالة  في إعفاء العدل من الضرائب الملزم بادائها خلال مدة الطوارئ _ الاقرار بالعطالة _ ، بالاضافة الى وقف ضخ موارد مهمة في صناديق المحافظات العقارية.

إن تأثير فيروس” كورونا – covid 19 على إغلاق مكاتب التوثيق العدلي يأتي من موقع هذه المؤسسة في النسيج الاقتصادي، التي تشكل جزءا لا يتجزء من القطاعات المتضررة من جراء هذا الوباء، حيث أشارت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن من بين القطاعات التي ستتأثر: قطاع السياحة و صناعة السيارات، وصادرات الفوسفاط، و تحويلات مغاربة الخارج، وأوضحت أيضا الى أن الجفاف المستمر في البلاد سيؤثر على الصادرات الزراعية([11]). وهذا ما أكده المندوب السامي للتخطيط، أن تداعيات الجفاف وفيروس كورونا سيكون لهما وقع جد سلبي على الاقتصاد الوطني، حيث في هذا الصدد يتوقع ألا تتعدى نسبة نمو هذه السنة  2%، وهي نسبة النمو الأقل خلال عشرين (20) سنة الماضية)[12](. مما سيكون له انعكاس على التنمية الاقتصادية، من خلال التأثير بشكل غير مباشر على مجموعة الفرضيات الاقتصادية و المالية التي بني عليها قانون المالية سنة 2020([13])، والتي لا محيد عنها لتحقيق أهداف البرمجة الميزانياتية لثلاث سنوات([14])، وتحديد الرصيد المتوقع للميزانية([15])، وهو ما سيؤثر على على التوجهات الماكرو اقتصادية الكبرى: كمواصلة دعم السياسات الاجتماعية و التقليص من الفوارق الاجتماعية و المجالية و إرساء آليات الحماية الاجتماعية، وكذلك على  التأثيرالاستثمار و دعم المقاولات و على فرص الشغل، ومواصلة دعم  الاصلاحات الكبرى.

يتضح لنا من خلال ماسبق، أن مهنة التوثيق العدلي تحتل مكانة قوية في المنظومة الاقتصادية، بيد أنها تؤثر و تتأثر بالمناخ الاقتصادي العام، إذ لامندوحة للتنمية الاقتصادية عن مؤسة التوثيق العدليي، رغم المثالب  القانونية التي تكرس الريع التشريعي.

بيبليوغرافي

[1] _ بلاغ صادر عن رئيس الهيئة الوطنية للعدول، مرجع عدد: 91/2020 بتاريخ 30/03/20020.

[2] _ بيان صادر عن رئيس الهيئة الوطنية للعدول مرجع عدد 90/2020 بتاريخ 20/03/2020.

[3] _ قانون خطة العدالة، ظهير شريف رقم 1.06.56 صادر في 15 من محرم 1427 ( 14 فبراير 2006) باتنفيذ القانون رقم 03.16 المتعلق بخطة العدالة، الجريدة الرسمية عدد 5400 بتاريخ صفر 1427 ( 2 مارس 2006) ص 556.

[4] _ تنص المادة الاولى من  قانون  رقم  16.03 المتعلق بخطة العدالة، على أنه: ” تمارس خطة العدالة بصفتها مهنة حرة حسب الاختصاصات و الشروط المقررة في هذا القانون و في النصوص الخاصة، و يعتبر العدول من مساعدي القضاء”.

[5] _ جاء في المادة 126- I   من المدونة العامة للضرائب التعريف بإجراء التسجيل ” يعتبر التسجيل إجراء تخضع له المحررات و الاتفاقات و تستوفي بموجبه ضريبة تسمى ” واجب التسجيل “.

[6] _  جاء في المادة 249 من المدونة العامة للضرائب.” تخضع لواجبات التمبر:

أ – العقود و الاتفاقات الخاضعة لإجراء التسجيل المشار إليها في المادة 127 أعلاه؛

ب- العقود و الوثائق و المحررات المشار إليها في المادة 252 أدناه…”

[7] _ طبقا للوقائع المنصوص عليها في البند الثاني من المادة 61 من المدونة العامة للضرائب.

[8] _ انظر المادة 30 من المدونة العامة للضرائب.

[9] _ أنظر المادة 89 من المدونة العامة للضرائب.

[10] _  للإستزادة أكثر الاضطلاع على المذكرة التقديمية لمشروع قانون المالية سنة 2020.

[11] _  فيتش تستعرض أبرز القطاعات التي ستتأثر بتداعيات فيروس “كورونا ” في المغرب، مقال منشور بالموقع الالكتروني https// aldar.ma  بتاريخ 29/03/2020 اضطلع عليه بتاريخه.

[12] _  khadija  masmoudi. séchersse.coronavirus.alerte.sur la coroissance.léconomiste.édition 5717 .12/03/2020.

[13] _  قانون المالية رقم 70.19 للسنة المالية 2020، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6838 مكرر، بتاريخ 17 ربيع الأخر 1441 ( 14 دجنبر 2019) ص 11087.

[14] _ جاء في الفقرة الثانية  من المادة الخامسة من القانون التنظيمي 130.13 مايلي: ” تهدف  هذه البرمجة على الخصوص الى تحديد تطور مجموع موارد و تكاليف الدولة على مدة ثلاث سنوات اعتمادا على فرضيات اقتصادية و مالية  واقعية و مبررة “.

[15] _ نصت المادة التاسعة من القانون التنظيمي 130.13  على مايلي: ” يحدد رصيد الميزانية المتوقع على الخصوص بناء على الفرضيات التي تم على أساسها إعداد مشروع قانون مالية السنة”.

المعلومة القانونية – أنوار جاحظ

الكاتب العام للمجلس الجهوي لعدول إستئنافية سطات

قد يعجبك ايضا