واقع وآفاق السياسة العقابية بالمغرب

المعلومة القانونية – محماد الفرسيوي

  • خريج ماستر العلوم الجنائية والتعاون الجنائي الدولي جامعة الحسن الأول بسطات

تقديم:

تعتبر العقوبة من الأمور التي رافقت الإنسان منذ ولادته، إذ وجدت مع وجوده وتطورت مع تطوره[1]، وحيث إن الجريمة بدورها في استمرار متواصل ما يتطلب مواكبتها على مستوى العقوبة بما يستجيب لحاجيات المجتمع وبغية توفر ذلك الضبط الإجتماعي المنشود من جهة، وكذلك ملائمة ما جاء في العهود والمواثيق الدولية.

وحيث إن ضمان استقرار الحياة الاجتماعية وإحقاق الحقوق وترسيخ مبادئ العدالة والانصاف، في اتجاه بناء دولة ديمقراطية أساسها الحق والقانون، يستوجب إعادة الإعتبار للسياسة العقابية، بحيث إن الأوضاع الراهنة  أفرزت لنا حقيقة لا يمكن إخفائها وهي أن العقوبة لم تعد تجدي نفعا سواء فيما يتعلق بإعادة التأهيل أو الردع، بل أصبح دورها معكوسا فيما يخص الإصلاح الذي سار إفسادا، في ظل اكتظاظ السجون وغياب البرامج الإصلاحية أو صعوبة تنفيذها في حال وجودها وغيرها من الإكراهات التي لم يعد ينكرها أحد.

كما إن تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير الثقة للمتقاضين لا يتأتى إلا إذا توجت العقوبات بمختلف تصنيفاتها إلى واقع ملموس عن طريق  تحقيق الغاية المتوخاة من إصدارها إذ بدونها تبقى بدون جدوى، ومن أجل ذلك فقد عمل التشريع الوطني على وضع مجموعة من الآليات والتدابير التي يسعى من خلالها إلى إعادة الإعتبار للعقوبة والغرض التي سنت من أجله، وذلك من خلال مجموعة من الإصلاحات والأوراش الكبرى وعلى رأسها مشروعي القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، دون أن ننسى السياسات العمومية للدولة باعتبار السياسة الجنائية جزء لا يتجزأ منها. مما تقدم يمكننا طرح إشكالية رئيسية وتتمثل في مدى قدرة الإصلاحات الجديدة المتعلقة بالسياسة العقابية في تجاوز واقعها الراهن؟

وللإجابة عن الإشكالية وما يرتبط بها من تساؤولات ارتأينا تناول هذا المقال وفق التصميم التالي:

المحور الأول: واقع السياسة العقابية بالمغرب

المحور الثاني: آفاق السياسة الجنائية بالمغرب

المحور الأول: واقع السياسة العقابية بالمغرب

لقد أثبتت العقوبة فشلها الذريع في محاربة الجريمة، بل على العكس تحولت المؤسسات العقابية إلى مدارس إجرامية  ومراكز لتفريخ المجرمين، ويتضح لنا هذا الفشل من خلال بناء سجون جديدة أو إعادة توزيع السجناء على سجون المملكة أو تكديسهم في السجون الموجودة، دون أن ننسى الإحصائيات الرسمية المتعلقة بالساكنة السجنية مع استحضار الرقم الأسود[2] والرقم الرمادي للجريمة[3].

وهذا الوضع المقلق والذي يفرض العودة إلى السياسة العقابية، هو ناتج عن وجود خلل في تفعيل مجموعة من المؤسسات القانونية  أولى هذه المؤسسات الإعتقال الإحتياطي والذي أصبح يشكل موضوعا لللقاءات العلمية والندوات والبرامج التلفزية، حيث أصبحت نسبة تفوق نسبة   40%  من الساكنة السجنية،  وهو الإجراء الذي يتعارض والمبدأ الدستوري المتمثل في قرينة البراءة، ويقصد بالاعتقال الاحتياطي فترة الاعتقال التي يقضيها المتهم على ذمة التحقيق بسبب جناية أو جنحة منسوبة إليه، أو خلال فترة محاكمته قبل صدور حكم حائز لقوة الشيء المقضي به، أي قبل أن يصدر عليه حكم نهائي بات[4]. ويتناقض كذلك مع المادة 159 من ق م ج  الذي ينص على استثنائيته، وهو ما يمس بالأمن القانوني والقضائي.

وفي إطار ملائمة التشريع المغربي مع المواثيق والعهود الدولية، عرفت الترسانة القانونية المتعلقة بالمؤسسات السجنية تعديلات مهمة من خلال قانون تنظيم وتسيير المؤسسات السجنية 98/23 والمرسوم رقم 2.00.485 المطبق له، بالإضافة إلى إحداث المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج منفصلة ذاتيا وماليا عن وزارة العدل تهدف أساسا إلى تحقيق تأهيل وتهذيب السجناء وذلك من خلال الدور الإصلاحي والاجتماعي والتربوي أو حتى إلى ما بعد انتهاء مدة العقوبة المقررة في حقهم وذلك سيرا مع تطور الركب الحضاري الذي تعرفه مثيلاتها في سائر دول العالم المتقدم.

وما يمكن الجزم به هو أن أنسنة المؤسسات السجنية أمر مطلوب، إلا أن ارتفاع حالة العود ومواجهتها لا يجب أن يكون على حساب الأنسنة، بحيث إن ارتفاع حالة العود يربط أساسا بالسياسات العمومية أكثر من ارتباطها بالسياسة العقابية،  حيث أن الأنسنة يجب أن تنطلق من السياسات العمومية، عبر القضاء على كل الظواهر التي تساهم في استشراء الإجرام، حينها يمكننا القول أن الإشكال في السياسة العقابية وليس في السياسات العمومية.

ولما اعتبر إنزال الأذى والألم على المعتدي على مر العصور صفة لصيقة برد الفعل الاجتماعي على الفعل الجرمي، فقد عرف هذا الرد المتمثل في العقوبة تطور مستمر إذ انتقلت العقوبة من فكرة الانتقام والقصاص حيث تنتهي فيه غاية العقاب عند العقاب،  وهو الأمر الذي أبان على  العقوبة  يجب  تكون لها أغراض أعمق من ذلك تنبني على مفهوم “المنفعة” الذي يتأرجح بين مصلحة المجتمع ومصلحة الجاني، ويضع للعقوبة هدفا واحدا ووحيدا ألا وهو تحقيق نفع مستقبلي تنعكس آثاره  على المجرم والمجتمع وهو الهدف المفقود في العقوبة اليوم.

نستشف مما سبق أن العقوبة تهدف في مقام أول إلى تحقيق العدالة والحفاظ على ثبات القيم المجتمعية، وكذلك منع كافة أفراد المجتمع من انتهاك القانون، وهو ما يطلق عليه بالردع العام، وإلى منع المحكوم عليه من العودة إلى الإجرام أو الردع الخاص، إلا واقع السياسة الجنائية يشهد عكس ذلك، من خلال معدلات الإكتظاظ بالسجون وكذلك ارتفاع حالات العود يجعل فكرة الردع بشقيه أمر بعيد المنال في ظل الأوضاع الراهنة.

المحور الثاني: آفاق السياسة الجنائية بالمغرب

إن استمرار تعميق فجوة التشكيك في النظام الجنائي وفي قدرته على احتواء ظاهرة المد الإجرامي، دفع بالتشريعات الجنائية المعاصرة نحو تحولات عميقة، تؤشر على انطلاق مرحلة جديدة لاسيما على صعيد أنظمتها العقابية، والتي شرعت في الانتقال من نموذج النظام العقابي الكلاسيكي الذي تهيمن عليه العقوبات السالبة للحرية، إلى نظام عقابي منفتح على حلول عقابية متنوعة، تبرز ضمنها العقوبات البديلة كنمط في العقوبة يعرف تطبيقه توسعا غير مسبوق في التشريع المقارن.

ذلك أن هذه البدائل توفر للمحكوم عليه معاملة عقابية خارج أسوار السجن من شأنها تسهيل عملية إدماجه داخل النسيج الاجتماعي مع توفير  مقومات هذا الاندماج ليحتفظ المحكوم عليه بكل أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ومكتسباته وروابطه الأسرية والاجتماعية.

وتشمل العقوبات البديلة ثلاثة أصناف حددها مشروع القانون الجنائي في العمل من أجل المنفعة العامة والغرامة اليومية، تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية[5]. لكن  التجربة أبانت عن أن الواقع لم ينضج بعد لهذه الوسائل البديلة  وأن المجتمع مازال تحكمه تمثلات ذهنية تقليدية  تلخص عمل المحكمة في الزج بالمتهمين بالسجن، وما يدحض هذا  أن القانون الجنائي والمسطرة الجنائي الحاليين يتضمنان وسائل بديلة مختلفة لا يتم اللجوء إليها إلا نادرا وتعتبر  استثناء  فقط. مما يجعل من هذه الوسائل التي تضمنها مشروع القانون الجنائي رهان قد ينجح وقد يفشل لبقى معه مستقبل السياسة العقابية مجهولا.

ومسايرة من المشرع المغربي لهذا التوجه الحديث الداعي إلى ضرورة استمرار الرقابة القضائية إلى ما بعد إصدار الحكم نص في قانون المسطرة الجنائية الجديد[6] على مؤسسة جديدة تعتبر من المستجدات الهامة المتمثلة في إحداث قاضي تطبيق العقوبات الذي لم يكن معروفا فيما قبل في النظام القضائي المغربي والذي اقتبسها من نظيره الفرنسي.

وتمثل هذه المؤسسة مظهرا من مظاهر السياسة العقابية الحديثة بالمغرب من خلال تدعيمه لضمانات حقوق المحكوم عليه وصيانة كرامة المعتقل وتوسيع دور القضاء من إصدار الأحكام إلى تتبع ومراقبة كيفية تطبيقها وكذا قيامه بعملية أساسية تتمثل في إعادة إصلاح وتأهيل المحكوم عليه ليصبح فردا قابلا للاندماج في محيط الاجتماعي.

كما تتجه السياسة العقابية الحديثة إلى الإهتمام بالضحية وحقوق ضحايا الجريمة وحمايتها والذي يمثل أحدث حلقات ” العلوم الجنائية” وخاصة منها ” علم الضحية”، إلا أن هذه الحلقة من التطور مرتبطة ارتباطا وثيقا بتطور الأفكار الجنائية السابقة عليها.[7] حيث ازداد الإحساس بعدم عدالة ترك الضحية لمصيره المحزن وحيدا يتحمل عبء الجريمة وآثارها، وذلك في الوقت الذي يتم فيه التركيز على المجرم.[8] وذلك برد الاعتبار للضحية  وإشراكها بفعالية في العملية العقابية مما سيكون له بدون أدنى شك بالغ الأثر على نفسية الجاني وعلى القيمة الردعية الخاصة للتدبير العقابي المتبع.

وفي إطار المواكبة المؤسساتية للسياسة العقابية بالمغرب فقد تم إحداث مرصد وطني للإجرام يروم مواكبة التحولات وتطور المؤشرات المتعلقة بالجريمة واقتراح حلول للوقاية من الجريمة.

وذلك برصد ظاهرة الجريمة من خلال جمع المعطيات الإحصائية بتعاون وتنسيق مع باقي الجهات القضائية والأمنية والإدارية ووضع مؤشرات تتبع تطورها وإعداد قاعدة بيانات خاصة بالمعطيات الإحصائية.

علاوة على ذلك، أنيطت بالمركز القيام بأبحاث ودراسات علمية حول الجريمة والعقوبة، ودراسة حالة كل المظاهر التي تزيد من حدة أزمة السياسة العقابية  واقتراح الحلول الكفيلة لمعالجتها، والمساهمة في التخطيط الجنائي عن طريق اقتراح الحلول الكفيلة للوقاية من الجريمة ومكافحتها، وكذا تقديم مقترحات بشأن المنظومة القانونية الجنائية.

كما وجب إعادة النظر في السلطة التقديرية للقاضي، حيث إن  المشرع منح للقاضي عدة وسائل تمكنه من  تقدير العقوبة حسب ما يرتئه ملائما لطبيعة الجاني وخطورة الإجرامية، فقد يكتفي بتدريج العقوبة بين حديها الأدنى والأقصى كما قد ينزل بها عن حدها الأدنى بموجب ظروف التخفيف وقد يقوم بتشديد بموجب ظروف التشديد القضائية وقد يقتصر على تطبيق عقوبة واحدة بين عقوبتين أوعدة عقوبات، وقد يرى ضرورة تطبيقها كلها وله أيضا أن يوقف تنفيذها إذا ما اجتمعت أسباب هذا الإيقاف[9]. وهذه كلها وصفات بيد القاضي يتصرف فيها وفق كل حالة تعرض عليه، ويصدر من الأحكام ما يراه دواء للمتهم مما يعني أن هذه السلطة المخولة له في تفريد العقاب المناسب ليس من باب الترف القانوني، بل هو نتاج لما توصل إليه علم الإجرام من خلال المدرسة النيوكلاسيكية في إطار معالجتها لعيوب المدرسة التقليدية التي كانت فيها العقوبة واحدة.

فقد أصبح لزاما على القاضي اليوم أن يكون ذا اطلاع مستمر على آخر ما تجود به العلوم العقابية، وأن يحمل ثقافة قانونية موسعة تشمل المفهوم المتجدد للعقوبة الجنائية والغاية منها، وأن يساير الأهداف المستحدثة للعدالة الجنائية.

وأمام هذه الوضعية الخطيرة التي أصبحت عليها السياسة الجنائية بصفة عامة والسياسة العقابية بالخصوص أضحى الإهتمام والإنكباب على السياسات العمومية أمرا ملحا، كما أن الحديث عن السياسة العقابية لا يمكن الحديث عنها من منظور أحادي، باعتبار السياسة العقابية جزء لا يتجزأ من السياسة العامة للدولة، وذلك بإيجاد خطط وأساليب التعامل مع الجريمة، وخلق وسائل جديدة للتعامل مع الجريمة انطلاقا من الإحصائيات التي تنجزها السلطات الرسمية، واعتمادها في بلورة سياسات عقابية منسجمة تأخذ بعين الإعتبار إمكانيات الدولة.

وفي الأخير وجب الإشارة إلى أن  ازدياد حجم العلاقات الدولية على الصعيد العالمي، ساهم بشكل كبير في توحيد مجموعة من القوانين والمساطر، وهو ما يؤسس لتوجه جديد نحو رسم معالم سياسة جنائية موحدة، وذلك في إطار تعزيز التعاون الدولي في مواجهة المد المهول للجريمة عبر العالم.

الخاتمة:

وفي الختام وجب أن نؤكد على مسألة مهمة وهي أن الحديث عن أزمة السياسة العقابية هو حديث عن أزمة السياسة الجنائية برمتها، بمعنى أن الحديث في موضوع السياسة الجنائية يجب أن يكون على مستوى فروعها الثلاثة المتمثلة في التجريم والعقاب والمنع. وفي ظل هذا الواقع الذي تحدثنا عنه فالأمر يتطلب تكثيف الجهود  والعمل على مختلف المستويات، وإعادة النظر في السياسات العمومية  التي تساهم اليوم بشكل كبير في تفاقم الأزمة.

الإحالات:

[1] ـ فوزية عبد الستار، مبادئ علم العقاب وعلم الإجرام، الطبعة الرابعة، دار النهضة العربية، بيروت،1977، ص221 

[2]ـ ويعرف هذا المفهوم بأنه “عبارة عن الجرائم المستترة التي لم يبلغ عنها للشرطة لعدم اكتشافها أو لأن أصحابها أو ضحاياها لم يبلغوا عنها لظروف خاصة بهم”

[3] ـ هي تلك الجريمة التي تصدر في شأنها النيابة العامة قرار الحفظ.

[4] مجلة الشؤون الجنائية،عدد خاص بمناسبة الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة،”العدد الثاني” ،أكتوبر 2012، ص :117.

[5] – راجع المواد من 1-35 إلى 15-35 من مسودة القانون الجنائي.

[6] -ظهير شريف رقم1.02.255 صادر بتاريخ 3 أكتوبر 2002 بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1424 (30 يناير 2003)، ص 315 وما يليها.

[7]  أحمد  محمد عبد اللطيف الفقي، الحماية الجنائية لحقوق ضحايا الجريمة، رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق، دار النهضة العربية القاهرة، 2001، ص  .11

[8] حمدي عطية رجب، دور المجني عليه في إنهاء الدعوى الجنائية، رسالة دكتوراه في الحقوق القاهرة، 1991، ص87.

[9] –  لطيفة لمهداتي،” حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء”، مطبعة طوب بريس، الطبعة الأولى 2007 ، الرباط، ص: 50.

قد يعجبك ايضا