علاقة الدين بقانون الشغل بين المقتضيات القانونية والممارسة القضائية

المعلومة القانونية – سعيد شرو

مقدمة

مما لاشك فيه أن مؤسسة الشغل في تأصيلها التاريخي سابقة في وجودها على وجود الدين فالعمل نشاط طالما ارتبط بالوجود الإنساني في كل العصور وبمعنى أدق تتلاقى فيه جل الشرائع السماوية وإذ ما انطلقنا منذ اضطلاع الدولة بمسؤولية التنظيم والإشراف والرقابة داخل الإطار المجتمعي نجد أن العالم انقسم إلى قسمين، فريق نادى بالتشبث بقيم ومبادئ الدين السمح وهو القيام المحافظ ويعرف في الأنظمة السياسية عادة باليمين، وفريق أخر أخذ على عاتقه الدفاع عن التحولات والتغيرات بما يلاءم التطور التكنولوجي والصحوة الحقوقية الغير مسبوقة دوليا تحت شعار احترام حقوق الإنسان سبيل لتحقيق التنمية ورفاهية المجتمعات ولاشك أننا نتحدث عن التيار التجديدي أو الإصلاحي كما يمكن أن يعرف في الميدان السياسي باليسار أو العلمانية فالعمل هو حق من حقوق الإنسان الأساسية وأداة لتحقيق المساواة والتنمية الشاملة والسلم الاجتماعي كما يساهم في توطيد العلاقة المؤسسة على المساواة بين الرجل والمرأة، وفق ما أقرته الشريعة الإسلامية قبل أكثر من 14 سنة مضت، كما لا ننسى أنه من بين الحقوق التي أقرها الإسلام حق العمل لجمع الناس ذكورا أم إناثا، حيث أمر جل في علاه في آيات عديدة على العمل ويذكر على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين” وقد جاءت الآية بصيغة الجمع بين الذكر والأنثى بضرورة العمل.

ولعل إقرار الإسلام لحق المرأة في العمل يراعي إسهامها في نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية بما يحقق الخير لمجتمعها كما أن الإسلام لم يكتف بتقرير هذا الحق وإنما قيده بأن يكون عملا مناسبا لطبيعتها وملائما لفطرتها كما يجب أن لا يخل بمسؤوليتها اتجاه بيتها وزوجها وأولادها في إطار من الموازنة بين دورها كعنصر مفيد ومنتج في المجتمع وواجباتها الأسرية.

ولعل المتتبع الحقوقي بشكل خاص كان شاهدا في العقود الأخيرة للصحوة الحقوقية في المجتمع الدولي والرافعة للشعارات كان الدين سباقا لها في مبادئه وقيمة وروح نصوصه، وتتكلم عن التمييز خاصة وأنه كان موضوع اتفاقيات دولية لا سيما الاتفاقية رقم 100 المتعلقة بتساوي الأجور عند تساوي قيمة العمل واتفاقية 111 لسنة 1958 بشأن حظر التمييز في الاستخدام والمهنة وبعدها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأةCEDAW لسنة 1979.

من هذا المنطلق فالقضاء على التميز في سوق العمل من خلال قوانين الدول لم يعد اليوم يروم إلى ضمان حق كوني واقتصادي كما لا يمكن القول يهدف إلى المساواة في سوق الشغل بل آثاره تمتد إلى مفاصل الاقتصاد وشريان المجتمع.

وقد عمل المشرع المغربي في مدونة الشغل إلى ضمان عدم التمييز في الحق في العمل والانضمام إلى أية نقابة مهنية وفق المؤهلات والكفاءات المهنية وتقلد جميع المناصب والميادين لأجل المساهمة في الدفع بعجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

وبالرجوع إلى مدونة المغربية على سبيل المثال، نجد أنها ضمنت طياتها حظر الفصل عن العمل لأسباب محصورة في ست حالات، والحالة الحاسمة تتكلم عن الدين وتحظر أي تميز قد يطرأ بسبب المرجعية الدينية سواء وقت إبرام عقد الشغل واثناء سريانه إلى حين انتهائه، وقد توفق هذا الوجه التشريعي نوعا ما كما لقي وسطا رحبا في أوساط القضاء المغربي الذي ما فتئ ينتصر للأجراء كلما تعلق الأمر بالتمييز الممارس أساسه اللون أو الجنس أو الحالة الزوجية أو الوضعية الاجتماعية المرحلية (أمومة، حمل) لاشك إذن أن الموضوع الذي نحن بصدد معالجته الذين والشغل داخل العلاقات الفردية أو الجماعية في سوق الشغل من خلال مبادئ الدين والقانون الوطني وإعمالا لمبدأ الملائمة الاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقيات منظمة العمل الدولية يكتسي أهمية بالغة تسند راهنيتها من مدى ضمان حرية المبادئ الدينية دون الإخلال بالتشريع الوطني والدولي ومسايرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بضمان حرية واسعة ومعقولة بحصر نطاقها عند الوطء على الصالح العام أو الخاص.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المغرب انخرط بشكل مسؤول في المجتمع الدولي والتزم بملائمة التشريع الوطني للمواثيق الدولية ومعايير العمل الدولية ليس طبعا على حساب الخصوصية والمرجعية الدينية وإنما يهدف ضمان حماية أشمل للطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية وخاصة في مجال الشغل.

وتتمثل إشكالية الموضوع في مدى إدماج المشرع المغربي للمبادئ الدينية في مدونة الشغل وتجانسها مع الاتفاقيات الدولية؟ إلى أي حد استطاع القضاء المغربي فض النزاعات الخاصة بالشغل والأخذ بمقاصد الشريعة والتشريع؟

وبناء على ما تقدم ووفقا للمراد من هذه الدراسة سنحاول رصد أبرز أوجه الحماية القانونية التي خولتها مدونة الشغل والمواثيق الدينية للحفاظ على مبادئ الدين والتسامح وكيفية تطبيقها وتنزيلها في الحكام القضائية، وسيتم ذلك وفق تقسيم الموضوع منهجيا إلى مبحثين وفق التصميم الآتي:

المبحث الأول: مظاهرالتقائية مؤسسة الشغل والدين على ضوء مدونة الشغل والاتفاقيات الدولية

المبحث الثاني: تكريس مبادئ الدين وقانون الشغل في الممارسة القضائية

المبحث الأول: مظاهر التقائية مؤسسة الدين والشغل على ضوء مدونة الشغل والاتفاقيات الدولية

لعل العمل لغة تقاسمتها جل التشريعات السماوية فكما حث الإسلام عن العمل في آيات عديدة وربطه بالجزاء وعادة ما يكون دنيويا وله آثار بعد الموت فالعمل هو إشباع رغبة معينة لدى إنسان من خلال القيام بجهد عضلي أو بدني على حد سواء لتحقيق النفع على الصعيدين المجتمعي والفردي بما يضمن ازدهار المجتمع ورغبة، وهذا ما جاءت به الشرائع السماوية الأخرى كالنصرانية واليهودية عبر أنه من عظمة الشريعة الإسلامية أنها بينت أن هذا السعي والحركة يشكلان ما يعرف بطاقة العمل وبدل جهد في تحصيل الخير للإنسان، كما ينتفع المرء ف دنياه بعمارتها وممتلكاتها وفي أخراه بوجود أجره وثمرته الأبدية ولما كان الأصل في الدين هو السعي في الأرض وإدراك قيمة العمل وبناء حضارة ومجتمع أسسه معرفة فقه الحياة، في البناء لا الهدم والتعمير لا التدمير والتوافق لا التصادم بل الغاية الأسمى من العمل هو جلب المنفعة للناس كافة والتعايش مع الآخر.

لكن ومع تطور الحياة وأيضا جل الانتهاكات الجسيمة للحقوق باسم الدين وبعد اضطلاع الدولة بسلطة مدونة الشغل بنصوصها الطامحة لإعادة تنظيم علاقات الشغل وفق قانون وضعي يراعي المرجعية الدينية والهوية الثقافية كما يتجانس مع الاتفاقيات الدولية المنظمة لمجال الشغل.

المطلب الأول: الحقوق العامة للأجير بين مبادئ الدين ومدجونة الشغل

لعل العلاقة بين الدين والشغل أصبحت تطرح نفسها بشدة في سوق الشغل خاصة في المجتمعات الإسلامية والراغبة في مسايرة المعاصرة والصحوة الحقوقية في جل الميادين دون طمس الخصوصية، على تأثر القوانين الوضعية بالبلدان الإسلامية بالدين السائد فيها…

ولعل البلدان الغربية لا تثير هذا النقاش وذلك لبعد الدين عن الدولة إلا في حالات يكون فيها الجانب من ديانة مسلمة.

ولعل أهم الشروط التي يمكن للمشغل بواسطتها الإجهاز على حقوق الأجير تلك الشروط المتعلقة بأساس العرق اللون لجنس، الحالة الزوجية الأصل الوطني أو الاجتماعي ثم العقيدة وهي موضوع تحليلنا في علاقتها مع مدونة الشغل والصكوك الدولية وخاصة منظمة العمل الدولية، كما أنه هناك مبادئ ونصوص عامة تهم جميع الأجراء كما أولى المشرع الوطني حماية خاصة لبعض الفئات المعينة.

الفقرة الأولى: الحقوق العامة للأجراء

إن دراسة الحقوق العامة للأجير وفق مبادئ الدين ومدونة الشغل تقودنا إلى الإشارة للحقوق ذات  البعد الاقتصادي والاجتماعي وسنقتصر في هذه الفقرة الحديث عن بعض الحقوق نظرا لأهميتها والتي غالبا ما تكون موضوع نزاع أمام محاكم لموضوع.

سنتحدث عن الحقوق الشخصية للأجير من قبيل الزواج، وحق الأجير في حماية كرامته واختيار مظهره أثناء مزاولة شغله.

فيما يخص الزواج فهو سنة نبوية من الدين الإسلامي وتجد اساسها الشرعي في النصوص القرآنية ولا ريب أن للزواج أهمية واضحة من الناحية الدينية والاجتماعية مما جعل المشرع المغربي ينظم أحكامه في الكتاب الأول لمدونة الأسرة ونظرا لأهميته وميزته فقد عملت كلب الدول على حمايته عبر إبرام اتفاقيات دولية تهتم بحماية الحق في الزواج وضمانة الولوج إليه دون قيد يحول دون ذلك.

يتبين إذن الحق في الزواج داخل المجتمع الإنساني يكتسي اهمية بالغة خاصة وأنه حق شخصي للأجير ولا يجب أن يصطدم بشروط تقيده أو تتجاوزه من قبل المشغل أثناء إبرامه عقد الشغل، وذلك من أجل تحقيق توازن السلط بين أطراف عقد الشغل، وقد تأثر القضاء المغربي المحافظ بهذه المبادئ وتجرد أو مجرد نعت القضاء المحافظ، وعامة بجرأة بتفعيل مبدأ الحق ثمرة القانون من أجل حماية الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية قد وضح هذا التوجه في قضية “مضيفة الطيران هيلينا باتيستا” عندما أقر ببطلان شروط العروبة والحكم بتعويض الأجيرة المفصولة ويكون بذلك قد ساير روح المادة 9 و36 من مدونة الشغل، كما راعت السلطة القضائية مقتضيات الفصل 109 من قانون الالتزامات والعقود، كما نص الفصل 11 من نفس القانون ينص على أنه يبطل ويعتبر كأن لم يكن الشرط الذي تنعقد فيه كل فائدة ذات”

وقد اعتمدت المحكمة في هذا الحكم مقاصد ومبادئ الشرع كما اعتبرت بعض التوجهات أن أساسه مقبول ومنطقي ولا يثير أي جدال، فيما توجه التيار الأخر ليس هناك ما يحيل على الاعتقاد إلى الشرع لأن المدعية ومن أسسها ليست من اصل عربي مما يفيد استبعاد الشريعة الإسلامية من جهة أخرى هناك الحق في حماية كرامة الأجير واختيار مظهره وفي كثير من الحالات قد يحدث نزاع بين حق المشغل في تسيير مقاولته وفق الطريقة التي يراها ستحقق أهدافه وبين من يشتغلون لديهم بخصوص حقهم في اختيار المظهر الذي يرونه مناسبا لأجل القيام بمهامهم.

ولا يخفى على المتتبع للدينامية والتطور المهول في جل الميلادين بما يناسب الدولة والحضارة أن يخص المشغلين يلزمون الأجيرات أثناء عملهم بالتخلي عن الحجاب أو فرض لباس فاضح ينافي الحياء العام خاصة في المحلات التي يتوافد عليها الزبناء، بل الأكثر غرابة بغض الشركات العالمية “EURODISNY” تشترط على أجرائها في العمل المحافظة على الوزن والطول، كما تفرض على الذكور منهم عدم جعل الشارب أو اللحي كما يجب على الأجيرات على حمل خاتم واحد وحلقة واحدة في أذنهن.

والعجيب في المر أنه ومع تنامي الفكر الحقوقي وبالرجوع إلى مدونة الشغل والتي نجدها لم تحمل نفسها أي عناء في التنصيص بنص صريح يحمي حق الأجير في اختيار مظهره على عكس القانون الفرنسي الذي ضمن في قانون الشغل نص عام يحمي جميع الحقوق والحريات الشخصية طبقا للفصل 1121.1 الذي منع من خلاله تقييد الحقوق والحريات دون أن تكون القيود مبررة بطبيعة العمل المراد إنجازه ومناسبة للهدف المراد تحقيقه، ونذكر في نفس السياق قضية “مارسك  أبر” مشغلة في شركة طيران دنماركية فرضت على أجيرات ضرورة استعمال مساحيق التجميل أثناء الشغل الشيء الذي اعتبره غير قانوني يتوجب البند 4 من قانون المساواة الذي يفرض على أصحاب الشغل معاملة النساء والرجال بشكل متساوي، ليعتبر مجلس المساواة بين الجنسين فيكوبنهاكن بالدانمارك بعدم مشروعية الشرط واعتباره مسا بحقوق الجير الشخصية.

الفقرة الثانية: الحقوق الخاصة بفئة معينة من الأجراء

بعد أن تطرقنا لبعض الحقوق العامة للأجراء سنخص بالذكر فئة معينة منهم ولا يخفى عليكم كيف هو حال سوق الشغل خاصة ببلادنا مما يستدعي حماية الأطراف في وضعية هشة أو حماية الطرف الضعيف في علاقة الشغل وسنتحدث عن وضعية المرأة والطفل بين الشرع ومدونة الشغل والاتفاقيات الدولية.

كما سلف الذكر نعتبر الحياة الخاصة للإنسان وحمايتها من أهم الموضوعات التي ارتبطت بالإنسان وبحقوقه الأساسية واساسا حمايته كرامته واحترام آدمية وعدم التطفل عليه وانهاك أسراره وخصوصيته، وقد ينصرف الشخص في عدة أحيان وإلى توطيب ظروف حياته دون حاجة لمشاركة غيره فهو إذن بحاجة إلى الاختلاف بنفسه.

هذا الاختلاء يمثل حاجة اجتماعية يتم تنظيمها دون تجاهل للتركيب النفسي والفسيولوجي للفرد، وبالتالي أصبح الإعتراف بالحق في الخصوصية ضرورة إنسانية على جانب كبير من الأهمية لإصلاح الحياة الإجتماعية ذاتها ورغم أن التشريعات في معظم الدول، والتي من بينها المغرب، تعترف بالحق في الحياة الخاصة إلا أنها لم تضع تعريفا جامعا مانعا لها، الأمر الذي يبقى متروكا لإجتهاد الفقه والقضاء، واللذان واجها بدورهما صعوبة في ذلك بسبب الطبيعة النفسية والمرنة للفكرة.

أولا: الحماية القانونية للأجيرات:

لقد كانت القوانين الدولية هي السباقة لتكريس حماية قانونية وشاملة للمرأة بصفة عامة وللمرأة الأجيرة بصفة خاصة، وقد ظهرت معالم هذه الحماية إبان صدور ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945، وقد ساير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا التوجه القاضي بحظر التمييز عن المرأة في مختلف مناحي الحياة وحقها في الشغل والأجر المتساوي عند تساوي قيمة العمل.

وقد أرخى هذا التوجه بظلاله على منظمة العمل الدولية باعتبارها مؤسسة عريقة مصنفة بتوجيه التشريعات الوطنية في ميدان الشغل والإستخدام، لتظهر لنا اتفاقية 100 سنة 1951 وأيضا الاتفاقية 111 التي بموجبها تم حظر التمييز في الإستخدام والمهنة، غير أن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979 تبقى بدون شك أكبر ثورة حقوقية نسائية في العالم المعاصر.

بحيث جاءت هذه الاتفاقية بمقتضيات نظرية وتطبيقية غير مسبوقة تستهدف إرساء المساواة الشاملة والتامة بين الجنسين، وإلغاء مختلف القيود القانونية الوطنية التي تشكل تمييزا ضد المرأة العاملة بسبب جنسها.

أما فيما يخص التشريعات الوطنية التي تعرضت لموضوع حظر التمييز ضد المرأة في سوق الشغل، فقد اختلفت في طريقة تناولها للموضوع حسب طبيعة التشريع، وطبيعة الموضوع الذي ينظمه هذا التشريع، فالقانون الدستوري اكتفى بإرساء مبادئ عامة تؤكد التزام المملكة لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه دوليا أو عالميا.

ولا جدال في أن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من الأصول الدستورية المستقرة التي شقت طريقها إلى عالم الشغل، ووضعت لنفسها مكانا داخل المقاولة اعتمادا على قانون الشغل والاتفاقيات الجماعية وأحيانا من خلال الشروط التعاقدية.

لقد أصبح الدين في قلب المقاولة وحرية الأجير في ممارسة عقيدته رهانا حقيقي لتفعيل باقي الحقوق الشخصية، على الرغم من أن هذا الحق كان مجالا دائما للإعتداءات صارخة أكثر من الإعتداءات على باقي الحقوق الشخصية الأخرى.

غير أن المشرع المغربي وترسيخا منه للموقف الدستوري القاضي بسمو تنزيل كل ما تقتضيه بنود المواثيق وبملائمة تشريعه الوطني معها، انتهج سياسة حمائية خاصة للمرأة العاملة متوافقة مع مقتضيات الشريعة الدولية لحقوق الإنسان ولمعايير العمل الدولية، بحيث تم إلغاء ظهير 1947 بشأن حماية المرأة الحامل، وتعويضه بمجموعة من المواد المهمة في مدونة الشغل كالمادة 9 التي حظرت جميع أشكال التمييز بين الأجراء والأجيرات وفي الإستخدام والعمل، والمادة 346 التي منعت التمييز في الأجر بين الجنسين.

إذ تساوت قيمة الشغل الذي يؤديانه، كما تظهر ملامح الحماية الخاصة التي وفرها المشرع للأجيرة من خلال انتهاجه في الباب الثاني من القسم الأول للكتاب الثاني من المدونة، قواعد حمائية خاصة للمرأة الحامل، في إطار نظرة حقوقية تزاوج بين حق المرأة العاملة وحق الجنين والطفل، والأسرة عموما، وذلك حين فرض على إدراج الموضوع تحت عنوان له أكثر من دلالة “حماسة الأمومة” وخص الموضوع بالمواد من 152 إلى 165، ضمنها قواعد ومبادئ جوهرية لحماية الأجيرة الحامل، وصيانة حقوقها الأساسية مع تحميله على عاتق المشغل بعض الإلتزامات القانونية التي يتعين عليه التقيد بها واحترامها تحت طائلة العقوبة.

وعليه يمكن القول أن صدور المدونة يشكل مناسبة للحد من الشوائب والثغرات التي كانت تسود النصوص القانونية المتفرقة المنظمة لعلاقات الشغل سابقا، بدءا بجعل نصوص هذه المدونة مواكبة لما هو منصوص عليه في الإتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بعلاقة الشغل، من خلال احترام مبادئ حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا، واحترام الإتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية، ومنظمة العمل العربية، وتعزيز شروط النهوض بظروف وتوفير الصحة والسلامة في أماكن العمل.

كما عملت مدونة الشغل على إعادة تنظيم العلاقة الرابطة بين الأجير والمشغل من خلال تحديد حقوق والتزامات الطرفين وإعادة التوازن بين أطراف العلاقة الشغلية، فشكلت بذلك مدونة الشغل، إطارا تشريعيا مهما يسعى إلى تحفيز المقاولات على الاستثمار، واستقرار الشغل والعلاقات المهنية على أساس الثقة المتبادلة بين أطراف عملية الإنتاج.

كما أن حرية المعتقد الديني كانت فيما مضى مقتصرة على القانون العام ولم تظهر في مجال الشغل منذ سنة 1950 وطرحت العديد من الإشكالات، ليتدخل القضاء باجتهاده لرسم معالم واضحة بين حرية المعتقد باعتبارها من أولويات حقوق الإنسان وبين متطلبات النظام العام ومصالح المقاولة، حيث أصبح مجال العمل مرتعا خصبا لتفاعل هذه المعطيات الثلاث وأصبحت حرية الأجير في ممارسة عقيدته أثناء مزاولته لعمله تحديا بارزا لتفعيل باقي الحقوق الشخصية.

وسيرا في نفس التوجه فقد تم حظر جميع أنواع التمييز بين الأجراء والأجيرات في الإستخدام والعمل على مستوى مدونة الشغل ولأول مرة في تاريخ القانون الإجتماعي المغربي، ليثور على التمييز التي كانت تعاني منه النساء العاملات فيما قبل ولعل المادة 7 من مدونة الشغل كانت صريحة في مقتضياتها، زد على ذلك منع فصل المرأة العاملة بسبب الجنس أو الحالة الزوجية أو المسؤوليات العائلية.

وقد تفرعت النصوص القانونية على مستوى المدونة، فالمادة 36 نصت على عدم اعتبار المسؤوليات العائلية سببا مقبولا للفصل من العمل، أيضا المادة 159 التي وفرت حماية قانونية للأجيرة لعدم فصلها من العمل على حملها وارتباطا بقدرة إنتاجها في العمل.

ثانيا: الحماية القانونية للأحداث:

لابد أن المتتبع في المجال الحقوقي بشكل خاص قد لاحظ تفاقم ظاهرة تشغيل الأحداث في الدول النامية بشكل مهول ويرجع ذلك لأسباب يداخل فيها الأسري والإجتماعي والإقتصادي، ولعل هذا الوضع يشكل عائقا أمام النمو الطبيعي للطفولة سواء من الناحية النفسية أو الجسمانية طبقا للمعايير التي تتحدث عنها المنظمات الدولية ذات الصلة.

وقد عملت مختلف الفعاليات الحقوقية موازاة مع السلطات العمومية والمنظمات الدولية من أجل احتواء الظاهرة التي تحولت لواقع يومي اختلط فيه ما هو تشريعي بين ما هو اقتصادي واجتماعي، كما تجدر الإشارة إلى أن تطبيق التشريعات المتعلقة بتشغيل الأحداث تبقى من الصعوبة بمكان نظرا لما سبق ذكره.

والواقع أن تحديد مفهوم شامل للحدث يطرح بعض الإلتباس بين التشريع الوطني والدولي، فالإتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل لسنة 1989 والتي صادق عليها المغرب باستثناء التحفظ المقدم بخصوص عدم إمكانية تغيير الطفل لدينه، كما تم تعريف الطفل على أنه كل إنسان لم يبلغ الثامنة عشر، كما علقت المعاهدات الدولية بإلغاء جميع أنواع الاستغلال التي يمكن أن يتعرض لها الطفل في مادتها 182 بتاريخ 1999 أن المقصود بالطفل جميع الأشخاص الذين لن يبلغوا سن الثامنة عشر.

ولقد اهتمت منظمة العمل الدولية بمحاربة تشغيل الأطفال عند البدايات الأولى لتأسيسها فالجمعية العمومية لهذه المنظمة صادقت على العديد من التوصيات ذات العلاقة حيث تم الرفع التدريجي لسن القبول في العمل إلى 14 سنة في الأشغال الصناعية وفي سنة 1973 عاودت المنظمة دراسة المشكل بعمق حيث تمت المصادقة على العديد من القوانين التفصيلية والمطبقة حاليا والتي تضمنتها الاتفاقية الدولية رقم 138 المتعلقة بتحديد سن القبول في العمل.

وألزمت الدول المصادقة على الاتفاقية بضرورة رفع سن القبول في العمل إلى السن التي تسمح للحدث الوصول إلى النمو الجسماني والعقلي الكامل كما أكدت على ضرورة مدة الدراسة الإجبارية وفي جميع الأحوال يجب ألا يقل عن 15 سنة.

هكذا يظهر أن الاتفاقية رقم 138 وضعت إطارا عاما للدول التي صادقت عليها في تحديد سن القبول في العمل بغية الحفاظ على النمو النفسي والجسماني للطفل بقوانينها الداخلية، ويجرنا الحديث عن مؤسسة أو نظام السخرة الذي حاربه الإسلام لما فيه من عبودية للغير باسم العمل.

ولعل الفئة الأكبر استهدافا كانت المرأة والطفل في عهد الجاهلية ولعل دخول الدين في حياة الناس ساهم بشكل كبير في توضيح المباح والمحضور بقدر كبير مقارنة مع التشريعات الوضعية.

غير أن المشرع المغربي في تحديده لمفهومه الطفل يعطيه نوع من الغموض خاصة وأن هناك تنازع بين المادة الاجتماعية والمادة المدنية والمادة الجنائية، وما يهمنا هو الطفل من منظور المادة الإجتماعية فإن مدونة الشغل نصت في فصلها 143 على أنه لا يمكن تشغيل الأحداث ولا قبولهم في المقاولات أو لدى المشغلين قبل بلوغهم سن 15 سنة كاملة.

وتعتبر قاعدة أساسية، ما أكدت المادة 145 من نفس القانون أنه يمنع تشغيل أي حدث دون الثامنة عشر ممثلا أو مشخصا في العروض العمومية المقدمة من قبل المقاولات، بل ذهب المشرع المغربي بعيدا وهو يمنع تشغيل الأحداث دون السادسة عشر في أي شغل ليلي طبقا لمنطوق المادة 172 من مدونة الشغل وهنا تظهر التقائية الدين بالشغل والآداب العامة.

المطلب الثاني: مبادئ الدين والشغل في ظل الإتفاقيات الدولية.

من المتفق عليه أن المواثيق الصادرة عن الأمم المتحدة كان لها قصب السبق في دعوة المجتمع المدني الدولي إلى تعزيز حقوق الطفل بصفة عامة والمرأة العاملة بصفة خاصة، وقد اتضح بجلاء هذا التوجه عند صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1978، وبما أننا نناقش إشكالية الدين والشغل، تجدر الإشارة إلى أن المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قدمت ضمانة لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين…

كما تعززت هذه الحماية بصدور العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية سنة 1966، وبعدها عمدت منظمة العمل الدولية إلى إصدار اتفاقيات مهمة تتضمن توجيهات استهدفت رأس القائمة صيانة حقوق المرأة وحماية القاصرين أو الأحداث وإرساء دعائم المساواة في الحقوق والواجبات بين الأجراء بغض النظر عن جنسهم ودينهم وأصلهم الإجتماعي.

وتبقى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979 بدون شك أكبر وأشمل ثورة حقوقية نسائية في العالم المعاصر، بحيث جاءت هذه الاتفاقية بمقتضيات نظرية وتطبيقية غير مسبوقة تستهدف إرساء المساواة الشاملة والتامة بين الجنسين، وإلغاء مختلف القيود القانونية الوطنية التي تشكل تمييزا ضد المرأة العاملة بسبب جنسها 

الفقرة الأولى: أسس حرية العقيدة في علاقة الشغل:

تعد ممارسة الحقوق والحريات بمكان العمل من أهم النقاط التي يحاول المشرع الإجتماعي الدولي أن يؤمن مصداقيتها، وذلك من خلال تحديد الهامش المفتاح لكل من البعدين الإقتصادي والإنساني.

فالحرية ضرورة لنمو الفكر الإنساني نموا طبيعيا، إلا أنها بحاجة إلى ضوابط توجيهية وإرشادية لضمان ممارستها في إطارها الصحيح والإيجابي البناء بعيد عن التطرف والتشدد.

وأمام اعتراف المواثيق الدولية، بالمطالب التي لها علاقة بحرية التعبير وممارسة المعتقدات الدينية بدأت المطالبة بممارسة هذا الحق بالمقاولة وهو ما يعكس رغبة الأجراء في لإثبات ذاتهم في عالم متغير وفي بيئة قد يطبعها التنوع الثقافي والعقائدي وربما قد تضيع في حدودها هويتهم، ويبرز بشكل جلي أيضا هاجس أرباب العمل في الحفاظ على النظام بالمقاولة وفي تفادي توفيق العمل من أجل ممارسة الشعائر الدينية.

إن تلمس خصوصية هذا الحق الشخصي في تشريع العمل الفرنسي تطوره القضائي، إنما الغرض منه الإستفادة من الحلول التي أوجدها لحل قضايا وإشكالات ممارسة هذا الحق بالمقاولة، وكذلك من أجل إسقاط التجربة الفرنسية على الواقع التشريعي المغربي بغية الإرتقاء بالقانون الوطني ليواكب مقاربة المغرب الجديدة في جذب الاستثمار الأجنبي، ويحافظ على اتجاهه التصاعدي وتموقعه كقوة اقتصادية ناشئة ويعزز ثقة المستثمرين الأجانب الذي اختاروا محطة لمقولاتهم فحملوا رؤوس أموالهم وخبراتهم وحملوا معهم معتقداتهم.

ولا نعتقد بأن المغرب سينجو من المطالب المتعلقة بحرية ممارسة الدين والعمل، إذ ستغزو ولا محالة المقاولة المغربية والأجنبية في مختلف أحجامها بل إن القضاء سيكون على موعد مع قضايا أعقد ذات الصلة بحرية ممارسة هذا الحق في المقاولة.

الفقرة الثانية: حماية الأجراء الأجانب في علاقات الشغل:

إن كان الإعتيادي بالنسبة للمغربي المسلم أن يمارس شعائره الدينية خارج موطنه وفي مقر العمل الذي يعمل به، فمن الضروري حفظ حرية العقيدة بالنسبة للأجنبي الكتابي المقيم بالمغرب وضمان ممارسة شعائره داخل عمله، والحقيقة أن النزاعات المتعلقة بالشغل على أساس عقائدي تبقى صعبة التحديد على المستوى العملي، خاصة وأن القضاء أصبح يواجه بحرية أخرى ذات أساس شرعي وهي حرية المشغل في تدبير العمل وفق ما تقتضيه مصلحة مقاولته وقد يتم على حساب الشعائر الدينية بالعمل.

لكن إذا كانت الشروط التعاقدية الماسة بحقوق الشخصية عامة، وحق الأجير في ممارسة عقيدته قد انتشرت بشكل مفرط وعلني فإن وضعا كهذا يفرض علينا البحث على مدى الحماية التي وفرتها التشريعات للأجراء عند فرض المشغل لشروط تمس بحقوقهم الشخصية وبحقهم في ممارسة عقيدتهم داخل الإطار المهني.

الواقع أن هذه الحماية نجدها في القوانين المقارنة بشكل أكثر فعالية، فقانون الشغل الفرنسي أرسى مبدأ عاما من خلال المادة L 1121 يقضي بحماية الحقوق والحريات، حيث نصت على عدم جواز تقييد حقوق الشخصية والحريات الفردية والجماعية دون أن تكون هذه القيود مبررة بطبيعة العمل المطلوب إنجازه وأن تكون متناسقة مع الهدف المنشود الذي يصب في مصلحة المقاولة.

ومعنى ذلك أنه بقدر ما كانت ممارسة الأجير لعقيدته بمكان العمل لا تؤثر على عمله، وجب الحفاظ على حقه في ممارستها، لكن إذا كان لهذه الممارسة ضرر على المقاولة، في هذه الحالة يجوز فرض حدود على هذا الحق، وهو ما افترضته المادة السابقة.

وأضاف مجلس الدولة الفرنسي بأن تضمين النظام الداخلي للمقاولة ما يمنع الأجراء من التعبير عن أفكارهم أو التطرق لمواضيع تهم العقيدة يعد مساسا بحريتهم وبحقهم في التعبير والإعتقاد، وأن إخضاع الأجير لأية وسيلة عن وسائل الإكراه وتعطيل حريته في الإنتماء إلى دين معين أو تعرضه للتمييز أو الفصل بسببه هو اعتداء على هذا الحق.

وبالمقابل وفي تشريعنا الوطني لا يوجد نص مماثل رغم أن مدونة الشغل كانت لاحقة في وجودها على التشريع الفرنسي، غير أنها لم تنصص على حرية التدين وإنما على عدم التمييز بين الأجراء بسبب العقيدة، ولربما يرجع أمر ذلك كون المغرب يعتمد نظاما دينيا يقتضي بأن الإسلام دين الدولة الرسمي، وأن الدولة تضمن للأفراد حرية ممارسة شعائرهم الدينية.

والظاهر أن موضوع حرية الدين بالمغرب ما زال موضوع سجال فكري كبير، فإذا كان المجلس العلمي الأعلى سنة 2013 قد أصدر في إطار تحضير التقرير الدوري السادس لتطبيق توصيات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقع عليه المغرب وينص على حرية المعتقد، رأيا فقهيا يحدد بطريقة صارمة توجه هذه المؤسسة الدينية في موضوع حرية الاعتماد وسقفها.

ويعتبر أي خروج عن الإسلام ارتدادا تترتب عليه أحكام الفقهية والعقوبات المتعلقة بالردة، فإن تصويت المغرب على قرار أممي تقدمت به ستون دولة في مجلس حقوق الإنسان حول حرية التدين خلال اختتام الدورة الخامسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المنعقدة في مارس 2004 قد قلب الكفة لصالحه، خاصة وأن القرار ينص على ضرورة حماية حق كل فرد في اختيار معتقداته وإظهار ممارستها بالتعلم والممارسة والتعبد وإقامة الشعائر الدينية.

كما أن هذا الموضوع يرجع الفضل للإعلام العمومي كفاعل لعب دورا مهما ومحوريا في تشجيع الإنفتاح النسبي والتعايش بين الديانات بالمغرب الشيء الذي أثر إيجابا على علاقة الأجراء ببعضهم وبالمشغلين وإن تباينت ديانتهم، فمواكبة الأنشطة الثقافية والدينية للمغاربة من ديانات أخرى ساعد على نشر ثقافة التعايش، والتسامح، وبالتالي ساهم في تحسين الصورة التي كان يحملها اليهودي والمسيحي في المخيال الشعبي للمجتمع المغربي.

وقد كان ذلك انعكاس إيجابي على علاقات الشغل، وهو ما قد يساعد على خلق توليفة مثمرة بين الأجراء من مختلف الديانات وبين المقاولات بمختلف أطيافها، لكن يبقى احتمال نشوء نزاعات داخل علاقات العمل واردا بفعل الحاجة النفسية الفردية إلى ممارسة هذا الحق من قبل الأجراء واصطدامها بظروف العمل أو توجه المقاولة، وهنا تبرز دور القضاء في حماية الحقوق والحريات الشخصية.

المبحث الثاني: تكريس مبادئ الدين وقانون الشغل على مستوى الممارسة القضائية.

إن الحماية المرجوة للحق في حرية ممارسة الشعائر الدينية بمجال العمل تتوقف على دعم القضاة لها، ليس فقط باعتباره المنفذ الفعلي للنصوص القانونية، وإنما أيضا لدور القاضي الإجتماعي الأزلي في حماية الحقوق المرتبطة بشخصية الأجير، وسعيه الدائم إلى إنصاف الطرف الضعيف.

لكن هذه الحماية التي يرغب القاضي اليوم في إقامتها تحتم عليه النظر بمنظور اجتماعي واقتصادي يحفظ للأجير كرامته وحقوقه وللمشغل حقوقه الإقتصادية.

المطلب الأول: دور القضاء في حماية الحق في ممارسة الشعائر الدينية.

واضح أن المقاولات تتنوع في حجمها وطبيعة نشاطها، كما تختلف على مستوى التدبير بقدر حنكة مسيريها وتطلعاتهم ومعتقداتهم، لذلك فإن كان البعض لا يعير اهتماما للمعتقد الديني باعتباره من الأمور النفسية التي تقوم بين الإنسان وربه، وأنه لا ينبغي للأجير بسبب ديانته رفض تطبيق الأوامر، فعلى النقيض هناك مقاولات يسيطر عليها التعصب لديانة أو عقيدة معينة تجعل الدين جزءا من نشاطها أو تفضل تكريس الحياة الديني La ventralité religieuse .

حيث تضع قيودا تلتزم أجراءها بموجب عقد الشغل أو بنودا بنظامها الداخلي بتنظيم اللباس، وتمنع حمل الشارات الدينية أو ترويج تعاليم عقائدية، بغية ضمان افترار معتقدات أطراف العلاقة الشغلية وصفات عدم اصطدامها بمصالح المقاولة أو بمعتقدات الزبناء أو المناضلات بين الديانات التي ينتمي لها الأجراء.

الفقرة الأولى: موقف القضاء الفرنسي:

لقد أخذ القضاء الإجتماعي الفرنسي في معالجته لهذا الحق بالمبدأ الفلسفي الثابت الذي يعتبر أن الحرية هي الأصل، وأن حرية الأشخاص تنتهي عند المساس بحرية الآخرين، وبكون الحرية بطبيعتها ليست مطلقة بل لها حدود يتعين احترامها، وأن الحقوق وإن تكرست فإنه يمكن تقليصها عند الإقتضاء.

غير أن حق الأجير في الإنتهاء إلى العقيدة التي يقتنع بها، وحريته في ممارستها، يجب أن يكون ضمن حدود احترام حريات الآخرين في ممارسة عقائدهم، وفي إطار المحافظة على النظام العام والآداب والأخلاق بالمقاولة وعلى حقوق الغير دون أن يكون له الحق في فرض معتقده على محيطه بالعمل أو يمنع زملائه من ممارسة ما يؤمنون به.

وأن المشغل لا يمكنه أن يضع قيودا مطلقة على هذا الحق، في المقابل وضع بعض القيود التي تبررها طبيعة المهام المطلوب من الأجير إنجازها بحيث تكون مناسبة وتستجيب لضرورة قضية أساسية تفرضها مصلحة المقاولة لكن من خلال تتبع مواقف المشرع الفرنسي نجد أنه لم يؤيد بشكل مطلق الحق في ممارسة الشعائر الدينية بمكان العمل، وإن كان قد اضطر على العموم بعض المواقف المشرفة التي أنصف فيها الأجراء.

بالمقابل فهو لا يتردد في ترجيح مصلحة المقاولة على حساب حق الأجير في إظهار معقده متى وجد سندا قانونيا أو واقعيا يمكن الإستناد إليه، خاصة حينما يتعلق الأمر بمقاولات صغرى أو متوسطة والتي قد تنأى عن تحمل التعويضات التي تفرض عليها إذا ما أدينت بالطرد التعسفي، غير أن تقدير كل حالة على حدة وتباين الأحكام بشأنها جعل من الصعب تحديد مسار واضح ونهائي.

الفقرة الثانية: التقييدات الواردة على حرية ممارسة الشعائر الدينية:

لقد أوضح القضاء الفرنسي الأسباب التي يمكن الإعتداد بها من طرف المشغل لتقييد حرية العقيدة بمكان العدل وهي ذات القيود التي حددتها مدونة الشغل الفرنسية وتبعتها تحديدا في المادة (L 1121).

فرب العمل يمكنه أن يقيد الحق في ممارسة الشعائر الدينية خلال الأوقات المخصصة للعمل، فقد نتج عن ذلك توقف يومي للعمل من أجل الذهاب لأداء الصلاة، وتعارض ذلك مع سير العمل. فالأجير المكلف بمراقبة الآلات وتشغيلها أو استقبال الزبناء لا يمكنه أن يوقف سير العمل من أجل ممارسة ديانته.

مقابل هذا التوجه تعتبر بعض المحاكم أن منع الأجير من أداء الصلاة يعد تقييدا لحرية ممارسة عقيدته وأن مغادرته العمل لبعض الوقت من أجل أداء شعائره الدينية حالته يحدث خلالا بسير العمل، فإنه لا يمكن اعتباره خطأ جسيما يقتضي فصله، وأن القرار يكون مبررا ولو أن الأجير رفض الجدولة الزمنية التي اقترحها المشغل.

واعتبر القضاء بأن طلبات الحصول على رخص التغيب بمناسبة الاحتفال بالأعياد الدينية بالنسبة للمسلمين وعيد الغفران بالنسبة لليهود Youm Kippour هي طلبات نجد سندها ومشروعيتها بالنسبة للأجير في حقه ممارسة شعائره الدينية.

المطلب الثاني: موقف القضاء المغربي في الحق في ممارسة الشعائر الدينية بالمقاولة.

إن إشكالية حماية حقوق الشخصية والحريات الأساسية ليست جديدة على القضاء المغربي إذ سبق للغرفة الاجتماعية بالمجلس الأعلى –سابقا- أن فصلت في أحقية الأجيرة في الزواج وأبطلت شرط العزوبة بالنسبة لمضيفة الطيران هيلينا في نزاعاتها مع شركة الخطوط الملكية المغربية وقضت بكون الشرط يخالف النظام العام ويتنافى مع حق أساسي من الحقوق اللازمة لشخصية الإنسان.

وإذا كان القضاء الاجتماعي قد استطاع بمناسبة هذه النازلة أن يقدم اجتهادا قضائيا ومبدأ قانونيا يقاس عليه مدى حماية الحقوق الشخصية من الشروط التعاقدية، فإنه قد تعاقبت عليه حالات أخرى لا تتضمن شروط تعاقدية، لكنها تمس حق الأجير في التمتع بهذه الحقوق والحرية في ممارستها، فما كان عنه إلا أن تدخل مرة واحدة من أجل صيانتها.

حيث نصت الغرفة الاجتماعية على صعيد محكمة الدار البيضاء الأجير الذي طالب بحقه في أداء الصلاة بعقر عمله وقت الاستراحة وعارضه مشغله بدعوى أنه لا يتوفر على ترخيص بذلك، فاعتبر أن غياب الأجير لأداء الصلاة لا يمكن أن يعتبر خطأ جسيما، واحتجاج المشغل بانعدام الإذن مردود خاصة أن المتعارف عليه تسهيل الصلاة يوم الجمعة في بلد مسلم.

كما فصل المجلس الأعلى في قضية ارتداء الحجاب وإلى جانب قبعة العمل التي تقضيها ظروف الاشتغال بمختبرات الصيدلة بأنه لا يعد إخلالا من الأجيرة بنظام العمل، وأن طالبة المشغل لها بغزالة الحجاب يعد مساسا بحق شخصي.

وهكذا ولأول مرة في تاريخ القضاء الاجتماعي المغربي يتم الإعتراف بأن حق الأجيرة في استعمال الحجاب هو “حق شخصي” وأعقبته حكم صدر عن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة تمكن من إنصاف الأجيرة التي تعمل معلمة بالمدرسة الكاتوليكية “دون بوسكو” التابعة لمؤسسات الكاتوليكي بالمغرب، عندما تم طردها من المدرسة التي اشتغلت بها منذ 1986، بعد رفضها نزع غطاء الرأس الإسلامي.

الفهرس

مقدمة 1

المبحث الأول: مظاهر التقائية مؤسسة الدين والشغل على ضوء مدونة الشغل والاتفاقيات الدولية 4

المطلب الأول: الحقوق العامة للأجير بين مبادئ الدين ومدجونة الشغل 4

الفقرة الأولى: الحقوق العامة للأجراء 5

الفقرة الثانية: الحقوق الخاصة بفئة معينة من الأجراء 7

أولا: الحماية القانونية للأجيرات: 8

ثانيا: الحماية القانونية للأحداث: 11

المطلب الثاني: مبادئ الدين والشغل في ظل الإتفاقيات الدولية. 13

الفقرة الأولى: أسس حرية العقيدة في علاقة الشغل: 13

الفقرة الثانية: حماية الأجراء الأجانب في علاقات الشغل: 14

المبحث الثاني: تكريس مبادئ الدين وقانون الشغل على مستوى الممارسة القضائية. 18

المطلب الأول: دور القضاء في حماية الحق في ممارسة الشعائر الدينية. 18

الفقرة الأولى: موقف القضاء الفرنسي: 19

الفقرة الثانية: التقييدات الواردة على حرية ممارسة الشعائر الدينية: 20

المطلب الثاني: موقف القضاء المغربي في الحق في ممارسة الشعائر الدينية بالمقاولة. 20

الفهرس 22

قد يعجبك ايضا