كلمة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، خلال المؤتمر الوطني لحقوق الطفل 2019

كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض

الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية

خلال المؤتمر الوطني لحقوق الطفل في دورته 16

سلام تام بوجود مولانا الإمام دام له النصر والتمكين،

الحضور الكريم؛

بكل اعتزاز وتقدير أشارك معكم اليوم في أشغال المؤتمر الوطني لحقوق الطفل في دورته 16 الذي يتشرف بالرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله والرئاسة الفعلية لصاحبة السمو  الملكي الأميرة لالة مريم.

رعاية مولوية تؤكد حرص جلالته الدائم وعنايته الموصولة  بمستقبل هذا الوطن وبحقوق الأجيال الصاعدة في العيش بكرامة وأمن وسلام ضمن مشروع مجتمعي مقدام يروم النهوض بالرأسمال اللامادي البشري عبر التصدي المباشر وبطريقة استباقية للمعيقات الأساسية التي تواجه التنمية البشرية للفرد طيلة مراحل نموه وكذا دعم الفئات في وضعية صعبة وإطلاق جيل جديد من المبادرات التي تحقق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومندمجة.

عناية ملكية سامية تلزمنا جميعا بأن نكون أهلا لها وفي مستوى انتظاراتها، راجين من العلي القدير أن يحفظ ملكنا الهمام ويكلؤه بعينه التي لا تنام إنه ولي ذلك والقادر عليه.

السيدات والسادة الأفاضل؛

الاعتراف بالفضل لأهله ومبادئ العرفان تلزمنا بتوجيه عبارات الشكر والثناء للمرصد الوطني لحقوق الطفل والطفولة المغربية الذي ترأسه صاحبة السمو الملكــــــي الأميرة لالة مريم التي تبذل مجهودات كبرى هادفة من أجل ازدهار وضعية الطفل والطفولة ببلادنا.

والشكر موصول لكل النخب المشاركة في هذا الحدث الوطني الكبير، من أجل وضع خارطة مستقبلية نرتقي بها بالطفولة المغربية.

مع تحية اعتزاز وتقدير لكل الأطفال الحاضرين معنا اليوم جيل المغرب الجديد وعماده .

 

السيدات والسادة الأفاضل؛

تنعقد أشغال هذا المؤتمر الوطني والمغرب يعيش أجواء الاحتفاء بالذكرى الثلاثين لإصدار الاتفاقية الأممية لحقوق الطفل.

 

وثيقة إنسانية متميزة خلقت تضامنا دوليا غير مسبوق بشأن حقوق الطفل وتعد من أكثر الاتفاقيات التي تمت المصادقة عليها على نطاق واسع عبر التاريخ، وتسائلنا عن التقدم المحرز في مجال حماية حقوق الطفل والنهوض بها عبر العالم وتدعونا للتفكير في السبل والوسائل الكفيلة لضمان  مستقبل أفضل للأجيال القادمة .

تساؤلات يفرضها علينا عالم متغير.

العالم سنة 1989 ليس هو عالم 2019 .

نعيش اليوم مستقبلا تحت ضغط التغييرات البيئية والأزمات الإنسانية المرتبطة بالكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة والإرهاب والتشغيل القسري للأطفال والهجرة غير شرعية ومظاهر سوء المعاملة والاستغلال والعنف والتسلط الرقمي والإساءات عبر الانترنيت  وشبكات التواصل.

 

أرقام ودراسات متعددة تؤشر على استمرار المخاطر وعلى انعكاساتها الخطيرة على أوضاع طفولتنا تفرض علينا اليوم التكيف مع التحديات التي يواجهها أطفال وشباب العالم الجديد، أطفال لهم الحق في الصحة والتعليم والتربية والحماية والكرامة والأمن. جيل يجب تنمية شخصيته ومؤهلاته وتهيئته للاضطلاع بمسؤولياته المواطنة داخل مجتمع متسامح دون أي ميز أو تحيز أو تقدم غير متكافئ.

أطفالنا الذين ترتفع نسب ازديادهم يوما بعد يوم يريدون اليوم أفعالا لا أقوالا .

إن الطفولة تتغير ونحن علينا كذلك أن نتغير، والمستقبل يجب بناؤه معهم.

الحضور الكريم؛

يتزامن أيضا هذا الحدث الحقوقي الهام مع احتفاء أطفالنا المغاربة بالذكرى العشرين  لتأسيس برلمانهم .

وهي ذكرى تساءلنا عن المقاربة القانونية الوطنية لضمان حقوقهم والاستجابة لانتظاراتهم .

أكيد أن أي متتبع موضوعي للتجربة المغربية في مجال النهوض بعدالة الأطفال سيقف على حجم الإصلاحات الكبرى التي تعرفها بلادنا سواء على المستوى الدستوري أو التشريعي أو الهيكلي .

إصلاحات ذات بعد حقوقي كبير تعكس إيماننا بأن الطريقة التي نعامل بها أطفالنا كمجتمع هي مؤشر على مدى ترسخ  قيم حقوق الإنسان، وأن النهوض بهذه الأخيرة يرتكز على النهوض بحقوق الطفل .

وهنا اكتفي فقط بالتذكير بأن بلادنا صادقت على الاتفاقية المتعلقة بحقوق الطفل وبروتوكلاتها الاختيارية، كما شكلت الحماية الدستورية للأطفال منعطفا حاسما في مسلسل تعزيز المنظومة الوطنية للحماية القانونية  للطفل .

فضلا عن المقتضيات الجديدة سواء المتعلقة بمدونة الأسرة أو مدونة الشغل أو النصوص الجنائية المسطرية والموضوعية وقوانين الحالة المدنية والجنسية وغيرها من النصوص التي أفرزت تغييرات عملية ملموسة في الإجراءات والتدابير والهياكل سواء المتعلقة بالمحاكم أو المؤسسات ذات الارتباط بقضايا الطفولة.

وهي كلها ضمانات عمل المغرب من خلالها على ملائمة تشريعاته مع المعايير الدولية وتوفير مختلف آليات التنفيذ والمراقبة لأجرأتها وتفعيلها .

 

السيدات والسادة الأفاضل ؛

لاشك أن هذه الدينامية التشريعية سواء منها الدولية أو الوطنية تبقى لوحدها غير كافية إذا لم تواكبها السلطة القضائية بالتطبيق السليم الفعال.

السلطة القضائية التي عرفت بدورها إصلاحات تنظيمية وهيكلية كبرى لمواكبة هذه التحولات العالمية والوطنية، حيث أسندت لها مسؤولية ضمان حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم وأمنهم القانوني .

وهنا لابد أن نشيد بالعمل الكبير الذي يقوم به قضاتنا في مختلف محاكم المملكة من أجل تفعيل كافة الضمانات وملائمتها مع واقع متغير ومعقد يثير الكثير من الصعوبات في مجال حماية حقوق الأطفال.

مجهود يصعب بكل تأكيد الإحاطة بجميع جوانبه وحصر مظاهره المختلفة في هذه المداخلة سواء منها المتعلقة بقضاء الأسرة أو قضاء الأحداث بكل تشعباتها واختصاصاتها أو القضاء الإداري والتجاري والمدني لكن اكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة النقض والتي توضح بجلاء مدى انشغال السلطة القضائية بموضوع حماية حقوق الأطفال .

  • وهكذا وعلى سبيل المثال وتكريسا للمكانة الدستورية التي أصبحت للاتفاقيات الدولية في النسق التشريعي الوطني، فقد اعتبرت محكمة النقض، أن نقل الطفل من مكان إقامته الأصلية بالخارج إلى المغرب يعد مخالفة لاتفاقية لاهاي الخاصة بالجوانب المدنية للاختطاف الدولي للطفل.

 

  • كما اعتبرت محكمة النقض أن العقوبة الحبسية في حق الأحداث الجانحين تعتبر استثنائية، وأن اللجوء إلى هذه العقوبة في حق الحدث يستلزم تعليلا خاصا قصد إبراز الدواعي والأسباب التي جعلتها ضرورية لظروفه أو شخصيته، بدلا من التدابير المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية التي تعتبر مقتضياتها من النظام العام.

 

 

 

  • ورعيا منها للمصلحة الفضلى للطفل المحضون، قررت محكمة النقض عدم جواز تعديل نظام الزيارة والحضانة، ما دام أن ارتباط المحضون بالأم الحاضنة لازال قويا لدرجة لا يمكن فراقه عنها في البلد، فبالأحرى أن يتم السفر به خارجه.

 

  • وفي نفس الاتجاه، فقد رفضت محكمة النقض طلب إسقاط الحضانة الذي تم تبريره بعلة أن استقرار المحضون مع والدته ببلده الأصلي، وهي التي لم يسبق أن أقامت بالمغرب، لا يمكن اعتباره انتقال مع المحضون للإقامة بالخارج وأن مصلحة المحضون تكمن في البقاء مع أمه إلى أن يبلغ سن الاختيار.

 

  • وحماية للحق في النسب وضمانا لاستقرار الأسرة وصيانة أعراضها فقد قررت محكمة النقض عدم جواز الأمر بالخبرة الجينية لنفي النسب إلا إذا أدلى الزوج بدلائل قوية على إدعائه.

 

  • وفي مجال ضمان مسؤولية الدولة للحق في العلاج والعناية الصحية، فقد اعتبرت محكمة النقض أن تأخير عملية التوليد لأكثر من 24 ساعة، يعتبر خطأ مصلحيا يعزى إلى مرفق الصحة وليس خطأ شخصيا ينسب إلى الطاقم الطبي، ما دام لم يثبت في حقه تصرفات تنم عن الاستهتار والتهور في أداء المهمة المنوطة به.

 

  • وفي قضية أخرى تتعلق بإصابة أحد الأطفال بصمم بعد التلقيح، فقد اعتبرت محكمة النقض أن التلقيح الإجباري وإن كان يدخل ضمن الأعمال الطبية، إلا أن خصوصيته تتمثل في كون من تم تلقيحه لا يستشار في الخضوع له ولا يسأل عن قبوله الطوعي للمخاطر المترتبة عنه، ما دام أن الهدف الأساسي منه هو حماية الصحة العامة من مخاطر الأوبئة، مما يترتب عن كل هذا الحق في تعويض من تضرر منه على أساس مبدأ التضامن بين أفراد المجتمع في تحمل المخاطر الاجتماعية بصرف النظر عن قيام الخطأ من عدمه.

 

 

  • كما قررت محكمة النقض، مسؤولية وزارة الصحة عن تقصيرها بعدم إخضاع الطفل لفحص نفسي عصبي قبل العملية التي تسببت في إصابته باضطرابات عصبية وتخلف عصبي نفسي وشلل في الأعضاء السفلية.

 

  • وحماية لأموال المحجور فقد اعتبرت محكمة النقض قاعدة عدم خضوع الولي لمراقبة القضاء القبلية عند إدارته لأموال ابنه المحجور لا تطبق عندما يعمد الولي سواء كان أبا أو أما إلى تفويت هذا المال بدون مقابل إذ يجب عليه الحصول على إذن القاضي مسبقا.

 

 

  • كما أسست محكمة النقض لموقف قضائي هام بخصوص قضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال غير المميزين وانتهاك برائتهم والتي تتسم بصعوبة إثباتها وإثبات ظروفها المشددة حيث حسمت النقاش القضائي معتبرة هذا الفعل جناية وليس جنحة لأن ظرف العنف يكون مفترضا وثابتا مهما كانت الظروف في جرائم هتك عرض القاصرين غير المميزين الذين لا يمكن أن ننسب إليهم أي رضى أو قبول.

 

  • كما اعتبر قضاتنا أن الحدث التي لم تبلغ بعد سن الرشد الجنائي تكون غير مكتملة التمييز ولا يمكن اعتبارها مرتكبة لجنحة الفساد وإنما هي ضحية تدخل في إطار المقتضيات المتعلقة بهتك عرض قاصر يقل سنه عن 18 سنة بدون عنف.

 

 

  • وفي إطار تخليق مؤسسات ومراكز حماية الطفولة اعتبرت محكمة النقض الدولة مسؤولة عن تعويض الضرر اللاحق بالطفل الذي تعرض للاعتداء بالضرب من طرف أحد موظفي المركز نتج عنه فقدان بصره.

 

  • كما وضع قضاتنا حدودا فاصلة بين التربية والإيذاء بخصوص نازلة وجهت فيها الظنينة أعمال ضرب مبرح لأحد أبنائها.

الحضور الكريم؛

هذه بعض الاجتهادات القضائية التي تعبر عن الرؤيا المقاصدية لقضاتنا وإرادتهم الواضحة الجادة في توفير كل الضمانات لأطفالنا من أجل حياة كريمة متوازنة ينعمون فيها بكل الحقوق والحريات .

لكن الأكيد أن المسار يبقى طويلا وشاقا تتدخل فيه عدة عوامل ذات بعد ثقافي واجتماعي  واقتصادي وإعلامي يتعين أن نواجهها جميعا في إطار مقاربات تشاركية مندمجة جادة.

ومن جهتنا فإننا نعتقد بضرورة إعداد قاعدة بيانات تتضمن الاجتهاد القضائي الخاص بتكريس حقوق الطفل ، هذه القاعدة تكون أرضية لمرصد قضائي كما يجب السعي الى إعداد دلائل تعريفية مبسطة على دعامة ورقية والكترونية وكذا برامج ووصلات مرئية على الانترنيت لنشر المعلومة القانونية والقضائية المتعلقة بالطفل  .

فضلا عن ذلك، فإننا مطالبون اليوم بالتركيز في برامج التكوين الأساسي والمستمر للقضاة على قضايا حقوق الإنسان في شموليتها وبعدها الكوني وفتح أبواب المؤسسات القضائية للأطفال وأوليائهم من أجل المساهمة في الخطط والبرامج السنوية التي يشتغلون عليها.

السيدات والسادة الافاضل؛

قناعتنا راسخة بأن لقاءا من هذا المستوى المتميز للحضور سيكون فرصة لنا جميعا  لنساهم في مبادرات جادة مسؤولة فعالة تجعلنا جديرين  بأطفالنا.

متمنياتي أن يكون هذا  المؤتمر   محطة تاريخية في مسار تعزيز حقوق الطفل ببلادنا.

والسلام عليكم ورحمة اله تعالى وبركاته؛

قد يعجبك ايضا