دور الدليل العلمي في تحقيق عدالة جنائية “معزز باجتهادات قضائية”

المعلومة القانونية – ذ. عبد السلام زكاري

  • باحث في العلوم القانونية
  • خريج ماستر المنظومة الجنائية والحكامة الأمنية، بجامعة ابن زهر – أكادير
  • حاصل على الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة

مقدمة

ارتبطت الجریمة كظاهرة اجتماعیة ارتباطا وثیقا بالمجتمعات وعاداتهم وتقالیدهم ومتغيرات الحیاة السیاسیة والاقتصادیة التي یمر بها المجتمع، فالجریمة إذن تتطور وفقا للظروف المتغیرة في المجتمع.

وهذا التطور جاء مسایرا لتطور طرق الحصول على الدلیل الذي مر بعدة مراحل تتفق وكل عصر من العصور التي ظهرت فیها وطبیعة نظم الحكم القائمة، بدایة بالمرحلة البدائیة وتتضمن الانتقام والاحتكام بالقوة، ثم جاءت المرحلة الدینیة التي كانت الوسائل المعروفة تنحصر في تحكیم الآلهة والمعتقدات الدینیة وتزايد نفوذ الكهنة ورجال الدین، ثم تلیها المرحلة القانونیة التي قید فیها دور القاضي، وبعد ذلك جاءت مرحلة الاقتناع الشخصي نظرا للانتقادات الموجهة لنظام الأدلة القانونیة الذي یكمن في حریة المحقق وانفراده  في البحث عن الدلیل وتقدیر قیمته ومنح سلطة تقدیریة واسعة للقاضي[1].

أخيرا جاءت المرحلة العلمیة المرتكزة على وسائل البحث الحدیثة وجاءت نظرا لعجز الدلیل الكلاسیكي الذي یعتمد على أسالیب بسیطة في الكشف عن الجریمة كالشهادة والاعتراف نظرا لبساطة تنفیذ السلوك الإجرامي، وتتمثل معالم هذا النظام في استخدام وسائل علمیة حدیثة تسایر وتیرة مواجهة الجریمة المتصاعدة والمتشابكة في العصر الحدیث والتغلب على كل محاولات المتهم في تضلیل العدالة فالمجرم الیوم لایترك أي وسیلة إلا ویستعین بها من أجل الوصول إلى هدفه الإجرامي، مما جعل الوصول للجاني أمر عسیر على السلطات المختصة .

هذا وقد أكد فقهاء العدالة الجنائية وعلماء القانون الجنائي أن الدليل بالنسبة للحق العام أو الخاص هو بمثابة الركيزة الأساسية لتحقيق العدالة الجنائية وهو بمثابة الروح للجسد، به تثبت الحقوق وفصل المنازعات بين الأفراد والجماعات، وبه يتحقق العدل والأمن وتعم الطمأنينة.

وبدون الأدلة تصبح إجراءات العدالة الجنائية ضربا من ضروب التخمين والدجل الذي كان سائدا في قضاء العصور القديمة. لذا أصبحت وظيفة جمع الأدلة وتأمينها وتسخيرها لاكتشاف الجرائم و تحقیق العدالة علما وفنا و مسئولية جسيمة تتحملها الأجهزة المعنية كالشرطة القضائية، النيابة العامة ، القضاء، المحامين وخبراء الطب الشرعي[2].

هذا وتعتبر الأدلة الجنائية[3] هي كل ما يقود إلى برهان صحة الواقعة أو الوقائع موضوع التحقيق ويتم تصنيف الأدلة الجنائية إلى أربعة أنواع رئيسة هي : الأدلة القانونية، الأدلة الفنية، الأدلة المادية والأدلة القولية. وللأدلة الجنائية قواعدها وموجهاتها وتشريعاتها المتطورة مع تطور الإنسان ومستجدات أساليب ارتكاب الجريمة وأدواتها.

باعتبار أن وسائل البحث التقلیدیة لم تستطع التصدي لمواجهة مرتكبي الجرائم، من هنا تبرر حتمیة الاستعانة بالأسالیب العلمیة، ولكن الإشكال الجوهري الذي نطرحه هو:

ما مدى مشروعیة الأدلة العلمیة في إثبات الجریمة و ما تأثیرها على إقتناع القاضي الزجري؟

هذا وسيتم الإجابة عن هذه الإشكالية في محورين:

  • المحور الأول: حجية الدليل العلمي في تحقيق العدالة الجنائية .
  • المحور الثاني: أثر الدليل الجنائي في تحقيق العدالة الجنائية .

المحور الأول: حجية الدليل العملي في تحقيق العدالة الجنائية

جاء تطور الجريمة مواكبا لتطور طرق الحصول على الدليل المادي لذلك كان لزاما على مصالح الأمن والقانون أن تواكب التطور، وتلجأ بدورها إلى استغلال واستخدام الأدلة العلمية التي تعرف على أنها تلك الإجراءات العلمية التي تساعد في إثبات الحقيقة عن الأفعال والكشف عن الجريمة ومعرفة مرتكبها والوصول إلى اقتناع القاضي على إدانة هذا الفاعل بطرق مختلفة سواء تعلق بجسم الإنسان أو حیاته الخاصة أو معرفة سلوكه وقت ارتكاب الجريمة دون علمه[4]“.

تختلف وسيلة إسخلاص الدليل الجنائي عن وسيلة استخلاص الدليل العلمي فالدليل الجنائي معروف وثابت ومستقر في معناه مند القدم، أما الدليل العلمي[5] فإنه يواكب التطورات الكيميائية والتكنولوجية الحديثة، مثل الإلكترونيات والتخدير وغير ذلك من الوسائل العلمية الحديثة التي لم تكن موجودة في الماضي ، وتـرجـع نشأة الدليل العلمي إلى–شيزاري لمبروزو- مؤسس المدرسة الوضعية الإيطالية، وقد جمع نتائجه وأبحاثه في مؤلف باسم (الإنسان المجرم) واستخلص لمبروزو أوصافا عضوية – من خلال أبحاثه على فحص جثت المئات من  المجرمين والمئات من الأحياء – في المجرم تختلف عن غير المجرم، وذلك بالنسبة لأعضاء الجسم وأيضا وظائف الأعضاء والصفات النفسية.

فالاستعانة بالتطور العلمي أضحى مطلوبا وملزما لتحقيق الأمن القضائي وبالتالي العدالة، ومن هنا أصبح القائمون على البحث وضبط الجرم والمجرم يتهافتون بتتبع التطورات العلمية وإضفائها بالطابع القانوني تحت ظل الشرعية والمشروعة وبالتالي استحداث قواعد جديدة عن طريق مد التطور العلمي إلى القانون بشكل عام والإجرائي بشكل خاص حين يكون ملائما ومنتجا للعصر وهذا ما يمكن أن نسميه بفجر جديد يطفو من خلال استعمال الأدلة العلمية بشكل مستمر ويومي[6].

وسنتطرق في هذا المحور لدور الدليل العلمي وحجيته في الإثبات الجنائي، ثم حدود سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة العلمية.

أولا: دور الدليل العلمي وحجيته في الاثبات الجنائي

للدليل العلمي دور مهم في عملية الإثبات الجنائي[7]، حيث ساعد في إثبات العديد من الجرائم سواء التقليدية كالسرقة، أو التزوير، أو القتل، أو الاغتصاب…، أو الجرائم الحديثة كجرائم المس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات[8]، غير أن هذا الدليل العلمي لم يسلم من التشكيك في قدرته على التعبير عن الحقيقة دون تحريف فيه أو تغيير أو حذف، لذلك وضع الفقه الجنائي مجموعة من الشروط الواجب توفرها في الدليل العلمي، حتى يصبح عنوانا للحقيقة ويمكن للقاضي الجنائي من خلاله تكوين قناعته دون تخوف أو توجس منه.

حجية الدليل العلمي على المستوى التشريعي

يعد الدليل العلمي، ثمرة عمل خبراء وفنيين متخصصين اعتمدوا على النظريات العلمية والوسائل التقنية، عنصرا هاما في البحث والتحقيق الجنائيين، ويساهم في تحديد شخصية مرتكبي الجرائم والانتهاء بتقرير إدانته أو براءته أثناء المحاكمة[9].

بدايتا لابد من الإشارة إلى أن التشريع المغربي ينتمي إلى القوانين ذات الصيغة اللاتينية، لاعتبار أن القانون الفرنسي هو المرجع التاريخي للقانون المغربي، وبالتالي فإن المشرع المغربي شأنه شأن المشرع الفرنسي فقد أخذ بمبدأ حرية الإثبات ماعدا في الأحوال التي ينص فيها القانون على خلاف ذلك[10]، حيث يمكن للقاضي الجنائي الاعتماد على وسيلة من وسائل الإثبات سواء كانت أدلة علمية أو تقليدية ما دامت قد نوقشت أمامه وكون قناعته منها، وذلك بناء على المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية[11].

باعتبار الدليل العلمي ذو طبيعة تقنية يحتاج إلى المعرفة والخبرة في التعامل معه والإحاطة بكل جوانبه، الأمر الذي لا يتوفر لدى أجهزة العدالة والبحث والتحقيق، لذلك خول لهم المشرع المغربي إمكانية الاستعانة بذوي الاختصاص أو الخبرة لما لهذه الأخيرة من أهمية بارزة في تكوين الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي، وذلك انطلاقا من مجموعة من النصوص من قانون المسطرة الجنائية كالمادة 57 الفقرة الرابعة[12]، والمادة 64[13]، وكذلك المادة 47 الفقرة الأخيرة[14]، وكذلك المادة 77 الفقرة الأخيرة[15]، وما جاء في المادة 194 فقرة الأولى[16].

حجية الدليل العلمي على المستوى القضائي

انطلاقا من دراسة مجموعة من الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاء المغربي يمكن استخلاص نتيجتين أساسيتين أولهما أن القضاء الجنائي المغربي يأخذ بالدليل العلمي في الإثبات الجنائي بطريقة مباشرة ضمن حيثياته ويعتمد عليه في الإدانة أو البراءة، وثانيهما أنه يأخذ به كذلك بشكل غير مباشر –وهو المظهر الغالب في الأحكام والقرارات المطلع عليها-استنادا إلى الاعترافات التمهيدية للمتهمين الصادرة أمام الضابطة القضائية عند مواجهتهم بالأدلة العلمية المستخلصة من مسرح الجريمة وبالتالي إدانتهم أو تبرئتهم على أساسها.

  • الأخذ بالدليل العلمي بشكل مباشر في الأحكام والقرارات القضائية

ويقصد بذلك أن القضاء الجنائي المغربي يأخذ بالدليل العلمي بجميع صوره ويدرجه في أحكامه ضمن حيثياته باعتباره قرينة معززة لباقي وسائل الإثبات، ونستدل على ذلك بمجموعة من الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم المغربية:

حيث جاء في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بمراكش “وحيث إن المحاضر المنجزة من طرف ضابط الشرطة القضائية (…)، فضلا عن اقتناع المحكمة من خلال مناقشة القضية ودراسة ظروفها وملابستها والأدلة الإلكترونية من صور وقرص مدمج[17].

وجاء في حكم آخر صادر عن ابتدائية قلعة السراغنة “(…) وحيث ثبت للمحكمة من خلال وقائع الملف وخاصة القرص المدمج موضوع الشكاية بأنه يحتوي على اللقطات المصورة للمشتكية(…)”[18].

وجاء في قرار آخر صادر عن استئنافية ورززات “وحيث إن الخبرة فصلت من البعث بالوشاية إلى الضابطة القضائية إذ أن محلول الحمض الجيني أوضح أن اللعاب الذي تم به إغلاق الأظرفة هو للضنين”[19].

وجاء في قرار آخر صادر عن استئنافية الجديدة “وحيث أمر السيد قاضي التحقيق بإجراء خبرة للتأكد مما إذا كان المولود الذي تزعم الضحية من صلب المتهم وابن له وأسندت مهمة القيام بها للمختبر العلمي للدرك الملكي بالرباط، وحيث خلص المختبر المذكور إلى أن الابن (ج) هو من صلب المتهم وابن له وابن الضحية، وحيث تكون الممارسة الجنسية على الضحية من قبل المتهم تبعا لتقرير المختبر المذكور بواسطة التحليل الحمضي ثابتة في حق المتهم”[20].

وجاء في قرار آخر صادر عن استئنافية مراكش “وحيث إن هذه الخبرة المنجزة من طرف مصلحة الدرك الملكي شعبة التخصص الجيني أسفرت بتاريخ (…) على أن المتهم هو الولد البيولوجي للطفل عمر ابن الضحية بنسبة %99.999، وحيث إننا في إطار تحولات علمية مثيرة ودقيقة ولا يمكن للقضاء أن يكون بعيدا عنها وبذلك تكون هناك علاقة ثابتة بين المتهم والضحية”[21].

وجاء في قرار آخر صادر عن نفس المحكمة “(…) وحيث إن ما يؤكد صدق هذه الحقيقة هو ما ورد بتقرير الخبرة الجينية المأمور بها من طرف المحكمة (…) مما يثبت أن المشتكية مارست الفساد مع شخص آخر مما تكون معه تصريحاته غير صادقة(…)”[22].

وجاء في قرار آخر صادر عن نفس المحكمة “وحيث إن المحكمة ومن خلال دراستها لنتيجة الخبرة الجينية وتصريحات الأطراف فقد ثبت لها أن عناصر جناية الاغتصاب غير قائمة(…)”[23].

  • الأخذ بالدليل العلمي بشكل غير مباشر في الأحكام والقرارات القضائية

يقصد بذلك أن القضاء المغربي غالبا ما يأخذ بالدليل العلمي بشكل غير مباشر في تعليله للأحكام القضائية أي استنادا إلى التصريحات التمهيدية للمتهم المضمنة في محاضر الضابطة القضائية عند مجابهته بالأدلة العلمية المستخلصة من مسرح الجريمة والتي إما أن يؤكدها قضائيا أو ينكرها للتملص من المسؤولية الجنائية.

نستدل على ذلك بمجموعة من الأحكام والقرارات الصادرة عن قضاءنا المغربي.

جاء في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء “حيث استمع للضنين تمهيديا أمام الضابطة القضائية فصرح أنه يقيم بالمغرب بطريقة غير شرعية وأن الصور الخليعة التي التقطت بهاتفه النقال فهي مأخوذة من الأنترنت معترفا بالمنسوب إليه، وحيث إن محاضر الضابطة القضائية يوثق بمضمنها ما لم يثبت ما يخالفها(…)”[24].

حيث جاء في حكم آخر صادر عن نفس المحكمة “وحيث إنه فيما يخص جنحة تقديم بشكل غير علني صور خليعة منافية للآداب والأخلاق فإنه بالرجوع إلى محضر الضابطة القضائية فإنه لا يوجد بالموقع الإلكتروني الخاص بالضنين صور خليعة أو فيديو يخص المشتكية التي ادعت أنه قام بتسجيلها أثناء إزالتها لملابسها مما اقتنعت معه المحكمة بعدم مؤاخذة الضنين من أجلها وبالتالي التصريح ببراءته منها”[25].

هذا وقد جاء في قرار آخر صادر عن استئنافية مراكش بخصوص عمليات النصب والسلب وتخريب محلات تجارية مختلفة وتعيب أشياء مخصصة للمنفعة العامة في إطار جماعات باستعمال القوة، حيث تم إلقاء القبض عليهم بناء على الصور الفتوغرافية التي التقطت لهم بواسطة كاميرات المراقبة الخاصة بهذه المحلات “وحيث إن إنكارهم للمنسوب إليهم خلال المرحلة القضائية تفنده اعترافاتهم التمهيدية المفصلة والمعززة بحالة التلبس (…)”[26].

في حين جاء في قرار صادر عن نفس المحكمة “وحيث إن اعترافه هذا يؤكد كونه على علم بالرقم السري للعلبة الإلكترونية للضحية مما أتاح له فرصة فتح حسابها الخاص بصفحة الفيس بوك(…) وحيث إن الأفعال التي قام بها المتهم (…) تشكل لا محالة جريمة معلوماتية (…)”[27].

بينما جاء في قرار أخر صادر عن نفس المحكمة “(…) وحيث أنه عند استنطاقه قضائيا تراجع عن اعترافه، غير أن تراجعه لا يجديه في شيء أمام اعتراف تمهيدي مفصل ومعزز باعتراف صادر أمام جهة قضائية ألا وهي النيابة العامة، فضلا عن معاينة الضابطة القضائية للقرص المدمج الذي يظهر فيه جليا المتهم وهو يلج الغرفة ويبحث عن أغراضه لمدة تزيد عن 10 دقائق ويظهر فيه المتهم وهو يدس ظرفا أبيض اللون بجيب سرواله الأيمن وعند عرض ذلك عليه أقر به واعترف بالمنسوب إليه”[28] .

ثانيا: حدود سلطة القاضي الزجري في تقدير الأدلة

يعتبر الإثبات في المادة  الجنائية من أهم الأعمدة التي يقوم عليها صرح العدالة الجنائية برمتها، إذ بواسطة الإثبات تتحصل القناعة لدى المحكمة ”من خلا الأدلة التي تتوفر عليها المحكمة من جراء الدعوى العمومية” على حصول واقعة مجرمة، ومن هذه الزاوية تبتدئ أهمية نظام الإثبات بل خطورته البالغة، على المتابع بخرق القانون الجنائي أمام القضاء، والذي يعتبر هذا الأخير بمجرد وضع القضية بين يديه عليه العمل بكل نزاهة وحياد وتجرد على الوصول إلى الحقيقة فيقرر بعدها بأن الواقعة المتابع من أجلها قد حصلت بالفعل وأن التهمة ثبتت في حقه أو العكس من ذلك ليأتي للمحكمة تبعا لما اقتنعت به، إصدار حكمها في موضوع الدعوى، إما بالإدانة أو البراءة أو الإعفاء، هذا ويقوم الإثبات الجنائي على مبدأين أساسيين: أولهما حرية الإثبات وثانيهما حرية الاقتناع، ويترتب على ذلك، أن القاضي الجنائي يعتمد على ما يشاء من الأدلة في إصدار حكمه، ويتخذ قراره بناء على الدليل الذي يعتبره منتجا.

تعتبر سلطة القاضي الجنائي الدعامة الأساسية في تقدير الأدلة العلمية، إلا أنه كما سبقت الإشارة إلى ذلك ليست مطلقة[29]، إذ تحكمها ضوابط وقواعد، وعليه فالحد من السلطة التقديرية يشكل استثناءات من مبدأ حرية الاقتناع وفق ما نصت عليه مقتضيات المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية[30].

رقابة محكمة النقض على تقدير الدليل العلمي

تتطلب السلطة التقديرية للقاضي الجنائي بشكل عام والدليل العلمي بشكل خاص، بيان الأسباب التي اعتمد عليها في إصدار الحكم، وتبيان لماذا قدّر الوقائع وأدلة الإثبات وفق منطوق الحكم الصادر عنه[31].

فعندما يفصل القاضي في نزاع معين، يكون ملزما بتبيان طبيعة الأدلة التي اعتمد عليها في إصدار الحكم، وتجتمع الآراء الفقهية على أنه كلما فصلت المحكمة في موضوع الدعوى الجنائية إلا ويتعين عليها أن تستعرض وتبين أدلة الإثبات التي استمدت منها عقيدتها سواء حكمت بالبراءة أو الإدانة، وفي هذا النطاق يرى بعض الفقه أن “صدور الحكم يقتضي بيان المبررات التي استند عليها القاضي في بناء حكمه، وضرورة أن تكون هذه المبررات سليمة ومقنعة، إذ عن طريق سلامة التعليل يستطيع قاضي النقض أن يراقب مدى احترام قاضي الموضوع للضوابط المسطرية”[32].

وتخول كذلك لمحكمة النقض عن طريق الرقابة القضائية، صلاحية التدخل في أمور موضوعية يستقل تقديرها في الأصل لقاضي الموضوع، فإذا كان هذا الأخير ملزما ببيان مضمون الأدلة التي اعتمد عليها في إصدار حكمه، فإن هذا لا يعني إعطاء لمحكمة النقض حق مناقشة ومحاسبة قاضي الموضوع بشأن النهج الذي اعتمد عليه في تكوين قناعته، وإنما حتى يكون الحكم قائما على أساس قانوني ومعللا تعليلا سليما وكافيا، يجب أن يبين القاضي وقائع موضوع الدعوى العمومية مع توضيح الأدلة المعتمدة عليها لتكوين عقيدته _وعليه فإن سلطة المجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا باعتبارها جهة الطعن بالنقض تنصرف إلى مراقبة صحة تطبيق القانون وسلامة الأدلة المعتمد عليها[33]_.

رقابة جهة الطعن بالنقض ليست رقابة على رأي القاضي وإنما هي رقابة على طريقة تكوين الرأي، وفي هذا الإطار فإن أحكام محكمة النقض غير مستقرة على مبدأ واضح بشأن الرقابة على تقدير الأدلة، وهنا يطرح تساؤل عن الوسائل التي تراقب بها محكمة النقض هذه السلطة التقديرية؟

تعليل الأحكام

يتمتع القاضي الجنائي بسلطة واسعة في تقدير الأدلة العلمية تتجلى في الصلاحية الممنوحة له في وزن كل دليل على حدة، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فله أن يقبل جميع الأدلة المقدمة من قبل أطراف الدعوى كما تخول له صلاحية استبعاد أي دليل لا يرتاح إليه ضميره في تكوين قناعته الوجدانية.

القانون لم يقيد القاضي الجنائي بأدلة معينة أو محددة، بقدرما خوّل له وفق مبدأ حرية الإثبات صلاحية اعتماد أي دليل يرتاح إليه في تكوين قناعته الشخصية، ووزن الأدلة حسب ظروف وملابسات ارتكاب الفعل الجرمي، لكن بالمقابل يكون القاضي الجنائي ملزما بتعليل الأحكام والقرارات الصادرة عنه حتى تتمكن محكمة النقض من بسط رقابتها على تقدير الدليل العلمي.

يقصد بتعليل الأحكام الوسيلة التي تمكن القاضي الجنائي في حدود اختصاصه من ممارسة الرقابة على حسن تطبيق القانون، ومدى احترام المنطق القضائي السليم[34].

فالأسباب القانونية التي تدعو القاضي الجنائي إلى تعليل الأحكام متعددة، فالقاضي الجنائي يكون ملزما بالفصل في النزاع المعروض عليه، كما نصت عليه المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية، كما ثمة الإشارة إليها سلفا.

وفي هذا الإطار نشاطر رأي أحمد فتحي سرور، الذي اعتبر تسبيب الأحكام المدخل الأساسي لمعرفة مدى احترام هيئة المحكمة لكافة ضمانات المحاكمة العادلة، باعتباره يعكس مدى إتباع القواعد والإجراءات المنصوص عليها قانونا[35].

وعليه إذا كانت المحكمة قد طبقت القانون واتبعت المنطق القانوني السليم، فهذا الإجراء يفرض عليها تعليل القرار الذي اتخذته، فمن خلال تسبيب الحكم تتضح معالم العيوب التي استندت عليها المحكمة في تقدير حكمها.

يجب على القاضي أن يستمد في بناء قناعته على دليل قضائي، يتفق مع منطق العقل والتقارير العلمية الصادرة عن مراكز الشرطة العلمية والخبراء القضائيين، ويكون على عاتقه سرد الأدلة التي اعتمد عليها وبيان التعليل الذي وصل إليه، وألا يكون هناك تناقض في تقدير الدليل العلمي، ومن قبيل ذلك أن ترد في حيثيات الحكم مثلا العبارات التالي: “… أن التهمة ثابتة في حق المتهم ” أو “إن المحكمة اقتنعت بثبوت التهمة في حق المتهم انطلاقا من تقرير مختبر الشرطة العلمية أو الخبرة الطبية” دون بيان مضمون هذه الأدلة وعلاقتها بالفعل الجرمي.

أكدت محكمة النقض على هذا المعنى في أكثر من مناسبة حيث ورد في أحد قراراتها ما يلي: “التناقض الموجب للنقض هو الذي يرد في تعليلات الحكم أو بين هذه التعليلات ومنطوق القرار”[36].

وعليه فتسبيب الأحكام يكتسي أهمية كبرى في بيان الأساس القانوني والواقعي الذي اعتمد عليه القاضي في بيان حكمه، وفي هذا الصدد جاء في أحد الأحكام الصادرة عن محكمة النقض المصرية ما يلي: “إن تسبيب الأحكام من أعظم الضمانات التي فرضها القانون على القضاة، إذ هو مظهر قيامهم بما عليهم من واجب تدقيق البحث”[37].

يلعب التعليل دورا مهما في مجال الرقابة التي تمارسها محكمة النقض، من أجل تدعيم الحكم ومنحه قوة ثبوتية، والمتمثلة في حجية الشيء المقضي به[38]، كما يعتبر وسيلة فعالة لرقابة أعمال محاكم الموضوع في تقديرها للأدلة العلمية، ومعرفة الحيثيات التي اعتمدت عليها في قبول أو استبعاد دليل علمي ما.

هذا دون إغفال الدور الكبير الذي يلعبه التعليل في تحقيق التوازن القانوني والأخلاقي في المجتمع، باعتبار الحكم وسيلة فعالة لإقناع أطراف الدعوى، وبالتالي تحقيق العدالة الجنائية المنشودة.

المحور الثاني: أثر الدليل الجنائي في تحقيق العدالة الجنائية

إذا كان للأدلة العلمية دور فعال في الكشف عن الحقيقة، وكانت هذه الأخيرة شرطا أساسيا لقيام العدالة الجنائية، فإن البحث عنها يجب أن يحاط بسياج من قيود الشرعية الإجرائية التي تشكل خطوة هامة نحو حماية حقوق الإنسان وحرياته، بعبارة أخرى يجب أن يكون القانون هو المصدر الوحيد لهذه الحقيقة.

يعتبر الدليل العلمي ثمرة استعمال الوسائل العلمية، وإذا كانت هذه الأخيرة لا تثير إشكالا فيما يتعلق بقيمتها العلمية وصدق نتائجها، إلا أن الإشكال تثيره بشأن مشروعية استخدامها في حق أشخاص يفترض في الأصل براءتهم، لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته[39] بحكم قضائي وعليه فإن هذه الأدلة قد تشكل مساسا بخصوصية وأسرار الأفراد وكذا بسلامة جسمهم إذا تمت في غير إطارها الشرعي.

وعليه سنتطرق من خلال هذا المحور لأثار الدليل العلمي في تحقيق العدالة الجنائية، للحديث عن الدليل العلمي وعلاقته بحقوق دفاع المتهم، ثمالحديث عن الدليل العلمي وحق المجتمع في العقاب .

أولا: الدليل العلمي وحقوق دفاع المتهم

سنتولى في هذه الفقرة دراسة بعض أهم حقوق دفاع المتهم التي يواجه بها أجهزة البحث والتحقيق عند استخلاص الدليل العلمي وهم الحق في السلامة الجسدية (أولا)، والحق في حرمة الحياة الخاصة (ثانيا).

الحق في السلامة الجسدية

الدليل العلمي قد يمس أحيانا بالسلامة الجسدية للمشتبه فيه أو للمتهم، وذلك عن طريق أخذ عينة من جسده كما هو الحال بالنسبة للبصمة الوراثية وذلك قصد مقارنتها بعينات أخرى سبق استخلاصها من مسرح الجريمة، وذلك بغية الوقوف على مدى نسبة الجريمة للمتهم من عدمه[40].

غير أن اللجوء إلى هذه التقنية العلمية تقتضي تحليل الحامض النووي للمشتبه فيه والموجود في خلية من خلايا جسده سواء أكان دما أو سائلا منويا أو شعرا أو عظاما، وهو ما يشكل اعتداء على حق الإنسان في السلامة الجسدية والذي يجد له أساس في الاتفاقيات الدولية وكذا القوانين الوضعية.

نصت الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان على وجوب احترام هذا الحق، كالمادة الثالثة[41] من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر يوم 10 دجنبر 1948 والمادة التاسعة[42] من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر يوم 16 دجنير 1966، اللتان جاءتا بنفس الصياغة.

كذلك القوانين الوضعية التي أكدت على احترام هذا الحق نجد القانون الجنائي المغربي والذي جرم الاعتداء على السلامة الجسدية للأشخاص بمقتضى العديد من الفصول، كالفصل 400 و401 و402 من قانون الجنائي[43].

وأمام تزايد العمل بالأدلة العلمية وخاصة دليل البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي باعتباره دليل مصدره الجسم البشري، يثار إشكال التعارض بين الموازنة بين مصلحة المجتمع في الوصول إلى الحقيقة وحق الشخص في ضمان سلامته الجسدية.

الحق في حرمة الحياة الخاصة

يعد هذا الحق في الخصوصية من الحقوق العريقة والتي حظيت بتنظيم تشريعي على مستوى الاتفاقيات الدولية وكذا القوانين الوضعية.

بالنسبة للاتفاقيات الدولية فقد كرست هي الأخرى حرمة الحياة الخاصة من خلال المادة 12[44] من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 والمادة 17[45] من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 واللتان جاءتا بنفس الصياغة.

كذلك الشأن بالنسبة للقوانين الوضعية والتي أكدت هي الأخرى على احترام هذا الحق من خلال مجموعة من النصوص كالفقرة الأولى من المادة 108 من قانون المسطرة الجنائية[46]. أيضا بمقتضى قانون رقم 08-09 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي[47] والذي جرم مظاهر الاعتداء على الحياة الخاصة للمواطنين وعلى معلوماتهم المخزنة إلكترونيا وعلى مراسلاتهم الشخصية من الاعتداءات غير المشروعة، والتي قد يؤدي إعادة استعمالها وتداولها بشكل غير مشروع إلى الإضرار بأصحابها[48].

أمام تزايد العمل بالأدلة الإلكترونية في الإثبات الجنائي باعتبارها أدلة مصدرها الحاسب الآلي والأجهزة الإلكترونية عموما، طرح إشكال التعارض بين الموازنة بين مصلحة المجتمع في الوصول إلى الحقيقة، وحق البحث والتحقيق في إجراء التفتيشات والتحريات اللازمة، وبين حق المعني بالأمر في عدم إنتهاك حرمة حياته الخاصة، وذلك بعدم إطلاع الغير على المعلومات الخاصة به المخزنة إلكترونيا في حاسبه الآلي الشخصي، والتي لا يرغب في الكشف عنها، ويطالب بحمايتها من العبث وإساءة استعمالها من طرف الغير.

ثانيا: الدليل العلمي وحق المجتمع في العقاب

من خلال هذه الفقرة سنتولى دراسة بعض الإشكالات المثارة أمام أجهزة البحث والتحقيق في استخلاص الدليل العلمي (أولا) وتلك المثارة أمام القضاء في الاستناد إليه (ثانيا).

جدلية استخلاص الدليل العلمي قبل المحاكمة

خول المشرع المغربي لأجهزة البحث والتحقيق إمكانية استخلاص الأدلة العلمية من مسرح الجريمة عن طريق الاستعانة بذوي الخبرة في هذا المجال، وذلك بمقتضى مجموعة من النصوص القانونية –والتي سبق التطرق إليها عند دراسة حجية الدليل العلمي في الإثبات الجنائي المغربي على المستوى التشريعي-كالمادة 57 و47 و64 و77 و194 من قانون المسطرة الجنائية.

غير أن الإشكال الذي يثار هنا يتمثل في الحالة التي يمتنع فيها المشتبه فيه أو المتهم عن تقديم المساعدة لأجهزة البحث والتحقيق لاستخلاص الدليل العلمي، ولئن كان هذا الإشكال غير مطروح بحدة ويمكن تجاوزه بالنسبة لاستخلاص الأدلة الإلكترونية، لكون المشرع المغربي قد خول للضابطة القضائية أخذ الإذن من النيابة العامة للتفتيش وحجز ما يفيد العدالة وذلك عند رفض المعني بالأمر السماح لهم بذلك وفقا للمادة 79 من قانون المسطرة الجن%

قد يعجبك ايضا