أسامة أوزيل: حدود مراقبة النيابة العامة للمهن القانونية والقضائية

المعلومة القانونية – أسامة أوزيل

  • خريج ماستر المنظومة الجنائية والحكامة الأمنية بكلية الحقوق “ابن زهر” أكادير، الفوج الثاني 2019

 اعتمدت الدول لإرساء أنظمتها و استتباب الأمن بشتى مظاهره داخل مجتمعاتها إلى وضع قوانين تحكم سلوك الأفراد و الجماعات، علاوة على إحداث مؤسسات تعمل على تأطير المواطنين و معه ضمان احترام القانون الموضوع من قبل المؤسسات الحاكمة، وذلك كله يبرز الاستراتيجية الوطنية للدولة المتجهة إلى وضع تصور للعلاقة التعاقدية بين الحاكم و المحكوم، و في هذا الصدد فإن تعدد المؤسسات القانونية المساهمة بدورها تروم ضمان حقوق الأفراد و حرياتهم و تحصين تعاملاتهم، و من بين هذه المؤسسات التي أرست دعائمها المملكة المغربية نجد السلطة القضائية، فإذا كان قضاة الأحكام همالمسئولون عن التطبيق العادل للقانون في مختلف القضايا المعروضة أمامهم، فإن الأمر لا يختلف مطلقا بالنسبة للنيابة العامة الحريصة على تطبيق القانون و إتباع التعليمات القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها كمبدأ دستوري، و هذه الأخيرة التي تستمد صلاحياتها بموجب قانوني المسطرة المدنية و المسطرة الجنائية و أيضا نصوص خاصة كما هو الحال بالنسبة قوانين المهن القانونية و القضائية.

فمن خلال دراستنا الرصينة تبين لنا أن تحديد مفهوم المهن القانونية و القضائية، يجد ارتباكا و تجاذبا في الآراء الفقهية و كذلك بعض التعريفات الموضوعة من القضاء المغربي، و على اعتبار أن كافة القوانين المهن التي سنها المشرع المغربي، اتفقت على اعتبارها مهنا حرة مستقلة، و هي بعيدة عن التنظيم الوظيفي و التبعية الإدارية للسلطة التنفيذية، لكن هذا الجدل راجع بالأساس إلى طبيعة المهام الموكولة لأشخاص المهن القانونية و القضائية، بين اعتبارها مهنا مساعدة للقضاء في صناعة العدل من جهة، كما هو الحال بالنسبة لكل من المحاماة و للعدول و المفوضين القضائيين والخبراء القضائيين والتراجمة و النساخة و التي هي كلها أحد أضلاع أسرة القضاء إضافة إلى كتابة الضبط التابعة لوزارة العدل، و بين اعتبارها مهنا حرة قانونية من جهة أخرى ذات طبيعة التوثيقية كمهنة التوثيق إضافة إلى خطة العدالة بالرغم من صراحة المادة الأولى المنظمة لهذه المهنة، فهذا الجدل المحسوم قانونا في غالية طبيعة هذه المهن المكونة لمنظومة العدالة ببلادنا، كرس تفاوتات تشريعية في تبعيتها الرقابية أو التأديبية لوزارة العدل، أو للهيئات و المجالس المهنية، و وحدة المراقبة التي يفرضها القضاء سواء من جهة النيابة العامة و كذلك قضاء الموضوع والقانون.

لنجد أيضا أن ممارسي هذه المهن و في ظل وحدة المهام و تقديم الخدمة القانونية والقضائية للمواطن، أصبح الاختلاف يبرز هو الآخر على الصفة المخولة قانونا، حيث سبق لوزارة العدل إصدار منشور عدد 96 س 2 المؤرخ في 2 نونبر 2015 باعتبارها المشرفة حاليا على كافة المهن كما يوضح ذلك منشور رئيس النيابة العامة الصادر سنة 2018، وذلك في موضوع احترام الموثقين و العدول للصفة القانونية المخولة لهم، حيث لوحظ استعمال صفتهم زيادة على اعتبارها توثيقا عدليا أو عصريا و هو ما يخالف القوانين المنظمة لهاتين المهنتين.

ومن جهة أخرى و في وقتنا الحاضر شهد المغرب إصلاحات تهم السلطة القضائية و بالأساس جهاز النيابة العامة، حيث عمل على فك ارتباطها بالسلطة التنفيذية بشكل مطلقأي عنوزير العدل، و ذلك بعد إصدار القانون 33.17 و المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، وبسن قواعد تنظيم رئاسة النيابة العامة، و ذلك إيمانا من المشرع المغربي من إزالة أي مداخل لشبهة تقاطع السياسي مع القضائي،إضافة إلى مرجعيات أخرى متعددة فرضتها الظرفية الحالية ببلادنا، و التي ارتقت بالمغرب إلى مصاف الدول الرائدة والداعمة للاستقلال التام للسلطة القضائية عن السلطتين التشريعية و القضائية وذلك بإرادة ملكية حكيمة لجلالة الملك محمد السادس.

و لعل إصلاح نظام القضاء بالمغرب و تطوير أساليب سيره لا يهتم فقط بالمحاكم والقضاة والموظفين الإداريين و التقنيين، و إنما أولى المشرع المغربي عناية مهمة لباقي مكونات أسرة العدالة من المهن القانونية والقضائية، والتيتساهم بدورها على كافةالمستويات في تصريف العدالة و مساعدة القضاء في تحقيق الأمن القانوني والقضائي وتكريس الحكامة القضائية، الأمر الذي يفسر اهتمامهالكبيربهذه المهن الحرة، وذلك من خلال مراجعة القوانين المنظمة لمهنهم في مسلسل تحديث المنظومة القانونية، ووعيا منه أن صناعة العدالة وجعل القضاء في خدمة المواطن و أداء الخدمة القضائية على الوجه الحسن، لا يتحمل مسؤوليتها القاضي لوحده، و إنما تساهم فيه مجموعة من المتدخلين المساعدين له، والذين يتفاوت دورهم في ذلك بحسب موقع كل واحد منهم.

ومن بين هذه نجد ممارسي المهن القانونية و القضائية التي عمل المشرع المغربي على تنظيمها تنظيما قانونيا،نجذ كل من المحاماة ومهنة المفوضين القضائيين والموثقين والعدول و التي اقتصرت دراستنا على الإحاطة بهم في علاقة بتدخل النيابة العامة، إلى جانب كلالتراجمة المحلفين و الخبراء القضائيين و مهنة النساخة.

وقد أكد التشريع المهني المغربي المنظم للمهن موضوع دراستنا، على تحديده لجملة من الضوابط و الأحكام الواجب إتباعها واستحضارها من قبل المهني، أثناء أدائه لمهمته المنوط القيام بها من قبل كل من المحامي و الموثق و العدل و المفوض القضائي، بمسؤولية و أمانة وكذلكفي احترام لأصول و أعراف و تقاليد هذه المهن الموضوعة من قبل الأجهزة المهنية المسيرة لها و الساهرة على حفظها، و تجنب كل ما من شأنه الإطاحة بعراقة و نبل رسالة هذه المهن المفوضة إليها من قبل الدولة، خدمة للمتقاضين بشكل خاص ولكافة المواطنين بشكل أعم، و كذلك إتقاءا لكل محاسبة أو إثارة للمسؤولية المهنية القانونية في أبعادها المدنية و التأديبية و الجنائية حسب خطورة الفعل الخارق للقانون المهني المغربي، و لعل مطلب التخليق يبقى أيضا مطلبا مهما يستدعي القطع مع كافة الممارسات اللامهنية التي قد يأتيها استثناءبعض الممارسين الذين لا يستحضرون الضمير المسئول و المهني، و أيضا الوازع الديني و القيم الأخلاقية، الأمر  الذي لم يفت على المغرب أن قطع فيه أشواطا كبيرة لمحاربة الفساد و تخليق منظومة العدالة ببلادنا، مما قد يشكل معه مستقبلا إلى زعزعة الثقة المشروعة في هذه الفئة القريبة إلى القضاء كمرفق عمومي له وظيفته العظيمة في صيانة الحقوق والحريات.

وتبعا لذلك فإن العنصر الذي يتحكم في الثقة التي يوليها المواطنون والشركاء الأجانب لنظام حكم معين، ويساهم بشكل فعلي في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعيةمن خلال الإحساس بالأمن والاعتقاد الراسخ بأن القانون يطبق على الجميع وبشكل عادل لا يعرف الإسثناء، و عليه فقد عمل المشرع المغربي على إنفاذ هذا الدور بواسطة تفعيل الرقابة القانونية الإدارية أو القضائية أو المهنية المفروضة على المهن وهيئاتها الخاصة بها،حيث جعلها متعددة، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات الرقابية الإدارية كوزارة العدل و وزارة المالية و غيرها، إضافة إلى مؤسسات قضائيةكالنيابة العامة التي مكنها المشرع المغربي من عديد الصلاحيات و المهام إلى جانب غرفة المشورة ذات الاختصاص التأديبي و أيضا القضاء الزجري و المدني وفقا لما سنأتي على دراسة غاياته و حدوده، كما لا يفوت التأكيد على دور الرقابة المهنية التي تفرضها الهيئات و المجالس المهنية، من خلال إحياء الضمير المهني لممارسيها باعتبارها المحرك الرئيسي في المجتمع والوطن، لما فيه من ضمان للأمن المهني للمهن و حفظ للنظام العام القانوني و القضائي بالمغرب.

وفي ظل تنامي أدوار النيابة العامة في شتى المجالات القضائية، و تعدد مهامها بين القضائية أو الشبه القضائية أو الإدارية، فإن المشرع المغربي استحضر من خلال فرض رقابة من نوع خاص على المهن القانونية و القضائية عن طريق القضاء الواقف، تراعي في ذلك المصلحة العليا للدولة التي فوضت اختصاصاتها و نقلته إلى هذا القطاع المهني الخاص، فهذه المراقبة في أبعادها تفرض نفسها أيضا صونا لحقوق المتقاضين والحد من تشكيل هذه المهن لأي ضغط على لسلطة القضائية نفسها.

أولا: بالنسبة لأهمية موضوع البحث

تتجلى أهمية موضوع بحثنا المتعلق بحدود رقابة النيابة العامة على المهن القانونية والقضائية من المنطلق المدني ذو الطبيعة الرقابية و كذلك من الجانب التكاملي بين النطاقين التأديبي والزجري،تكمن في اعتباره من أهم موضوعات القانون الخاص، وذلك راجع لكون الدراسة فيه تمزج بين عديد القوانين المؤطرة له في شقها الموضوعي وأيضا المسطري، إضافة إلىما يكتسيه الأمر من تلاقح مع جدل المنظور الفقهي و تطبيقات العمل القضائي.

ومن جهة أخرى فإن محاولة تسليط الضوء على الأدوار الموكولة لجهاز النيابة العامة بمقتضى قوانين هذه المهن ذات الطبيعة الحرة و مدى تمازجه مع الإطار العام للقواعد العامة من جهة الاختصاص لهذا الجهاز، الأمر الذييضفي أهمية خاصة من حيث التشريع المهني و ذلك فيما أحسن المشرع المغربي منحه لهذه الأخيرة منأدوار بارزة وعيا منه، لضمان تطبيق و احترام القواعد القانونية وتوفير الأمن المهني لممارسيها و أيضا الأمن القانوني و الاجتماعي للمتعاملين معها.

ثانيا:  بالنسبة لدوافع و أسباب اختيار موضوعنا

لا ريب أن رغبتنا الملحة في الاطلاع على أدوار النيابة العامة في القضايا المرتبطة بالمهن القانونية و القضائية، دفعتنا لمحاولة الوقوف على المكانة الهامة التي أولاها المشرع المغربيللنيابة العامة في جانب تدخلها و معه فرض رقابة وازنة لحسن إنفاذ القانون المهني كما أوجبه القانون، و أيضا فإن تعدد مجالات تدخل النيابات العامة بمحاكم مملكتنا تبقى متعددة و متشابكة المساطر و الأدوار، الأمر الذي طرح بذهننا وبقوة عن جدوى هذا التدخل لبيان نطاقه و حدوده القانونية و القضائية.

فموضوع مراقبة النيابة العامة على المهن الحرة ذات الطبيعة القانونية و القضائية، لم ينل مكانته في الدراسات القانونية الحديثة رغم أهميته الكبرى، فالميدان الإجرائي المهني يخلو من الكتابة في هذا الموضوع الشائك، عدا بعض الكتابات العامة بطبيعتها والشارحة لقانون المسطرة المدنية و الجنائية، فهذا النقص في الخزانة القانونية المغربية دفعنا إلى الخوض فيه لعلنا نهتدي فيه إلى إنارة البحوث و أيضا القراء لفتح مجالات البحث لباحثين آخرين.

ونظرا لصعوبة البحث في موضوع حدود تدخل النيابة العامة في قوانين المهن القانونية و القضائية و حصرها في أربع مهن مجتمعة و محاولة المقارنة التشريعية بين أنظمتها القانونية، و كذلك محاولة لربط جميع مناحي هذا التدخل المؤسساتي في أبعاده الرقابية و التأديبية و الزجرية، فكلها أمور دفعتنا إلى محاولة بسط توازن تدخل القضاء الواقف لحفظ النظام العام المهني، و حتى لا يبقى الاقتصار على النظريات الفقهية ومواقف كل جهة على حدى ذات نظرة خاصة، فإن أساس الدراسة القانونية تقتضي إيجاد العلاقة الترابطية بين كافة المتدخلين في منظومة العدالة، فيبقى تناول أحكامه التطبيقية أمرا ضروريا لقياس مدى تطبيق القواعد القانونية على أرض الواقع و مدى جودتها في ظل التطور السريع للمجتمع المغربي.

و لا يخفى علينا أيضا أنه نظرا للأدوار الكثيرة الملقاة على كاهل النيابة العامة التي تعنى بتطبيق القانون و الحفاظ على ضمان احترام إرادة التشريع، فإن الأمر قد يشهد بعض الاختلالات و الإشكالات العملية أثناء التنزيل قد ترجع إلى عدة مسببات حاولنا تسليط الضوء عليها من خلال هذا العمل العلمي الجاد.

و أخيرا يبقى أهم دافع لاختيار موضوعنا هو شغفنا و حبنا الكبير للمادة العلمية في شقها القانوني، و أيضا في الاطلاع على أكبر عدد ممكن من الكتابات القانونية في جميع مناحيها التنظيمية و من خلالها الشق المتعلق بالمهن القانونية و القضائية، فلم نتردد مطلقا في اختياره كمجال مستقبلي بإذن الله أولا و كذلك كموضوع للبحث، بالرغم من مزجنا بين تخصصنا في المادة الجنائية و كافة الجوانب الأخرى ذات الطبيعة المدنية التي لا يمكن الفصل بينهما، فالنظرة السليمة للقانون تقتضي الإلمام بجميع جوانبه و مناحيه حسب رأينا، و معه ففعلا نجذ أن موضوعنا يستحق أن يكون موضوعا للرسالة الجامعية المحترمة لضوابطها الأكاديمية.

ثالثا: بالسبة للإشكال الذي يثره الموضوع

فتكمن إشكالية البحث في الوقوف على حدود التدخل الرقابي و التأديبي و الزجري للنيابة العامة في ضوء التشريع المهني المغربي، لكل من مهن المحاماة؛ والتوثيق؛ وخطة العدالة؛ والمفوضين القضائيين،في ظل المتغيراتالراهنية التي تشهدها بلادنا وآفاقها المستقبلية.

رابعا: المنهج المعتمد في البحث

و قد ارتأينا في هذه الدراسة، اعتماد المنهج التحليلي و الوصفي من أجل الوقوف على كافة المقتضيات القانونية المنظمة لكل من مهن المحاماة و التوثيق و المفوضين القضائيين والمتعلق بخطة العدالة و استقرائها، ببعد نظر مستفيض مرتبط بالكتابات الفقهية الحديثة في هذا الجانب، و كذلك الأمر فيما اتصل بأحدث ما صدر عن محاكم الموضوع المغربية و من خلالها توجهات محكمة النقض، قصدتوضيح الغموض سواء على مستوى قانون الموضوع أو القانون الإجرائي.

و كذلك فقد انصب عملنا هذا على اعتماد منهج استقرائي استنباطي قصد الوقوف على جزئيات القراءة المتأنية و ربط امتداد الدور الهام للنيابة العامة بكافة مراقبة من مرحلة المراقبة مرورا بمرحلة التأديب و وصولا إلى الزجر و إيقاع الجزاء الجنائي ضد كل الخارجين عن قواعد الضبط المهني، و ما تثيره من إشكالات أو عملية.

خامسا: تقسيم البحث

و في ضوء كل هذه الاعتبارات فإن هذه الدراسة تقتضي أن نقسمها إلى فصلين كما الآتي:

·   الفصل الأول: حدود التدخل الرقابي و التأديبي للنيابة العامة على المهن القانونية والقضائية

  • المبحث الأول: دور النيابة العامة في مراقبة المهن القانونية والقضائية
  • المبحث الثاني: بروز دور النيابة العامة أثناء إثارة المسؤولية التأديبية للمهن القانونية والقضائية

·   الفصل الثاني: حدود التدخل الزجري للنيابة العامة ضد أشخاص المهن القانونية و القضائية

  • المبحث الأول: خصوصية الأساس القانوني لإثارة المسؤولية الجنائية للمهن القانونية والقضائية
  • المبحث الثاني: خصوصيات حضور النيابة العامة أثناء تفعيل القواعد المسطرية الجنائية

للتحميل يرجى الضغط هنا

تقرير موجز لرسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، لماستر المنظومة الجنائية و الحكامة الأمنية،كلية الحقوق ابن زهر أكادير
 تحت عنوان : حدود مراقبة النيابة العامة للمهن القانونية و القضائية، نوقشت بتاريخ 16.07.2019
قد يعجبك ايضا