حرية الرأي والتعبير بين واقع الحدود وضرورة ضبط القيود

المعلومة القانونية – يونس مليح

  • باحث في العلوم القانونية.

لقد أكدت المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة (1948) الحق في حرية التعبير التي تشمل البحث واستقبال وإرسال معلومات وأفكار عبر أي وسيط وبغض النظر عن الحدود، وقد جاء في المادة (19) كذلك من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أنه لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة.

ولكل إنسان حق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها. وتتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة (2) من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محدودة بنص القانون أو تكون ضرورية. لذلك يجب احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، وحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة أو الآداب العامة.

وكررت المواثيق الإقليمية أو توسعت في ضمان وحماية حرية التعبير، فالمادة (10) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تحمي حرية التعبير على مستوى الدول الأعضاء، والمادة (9) من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب تضمن الحق نفسه. وكذلك المادة (13) من الاتفاقية الأمريكية لحماية حقوق الإنسان تنص على أن: لكل إنسان الحق في حرية الفكر والتعبير ويشمل هذا الحق حريته في البحث عن مختلف أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود سواء شفهية أو كتابة أو طباعة أو في قالب فني و بأي وسيلة يختارها.

وقد برزت فكرة حرية الرأي أو الحرية بشكل عام في أوربا بناءً على الخلفية التي نشأ من خلالها الصراع بين الكنيسة والمجتمع؛ حيث نشأت في ظل النظم الغربية الحديثة محاولات علمية وجهود واقعية لضبط حرية الرأي في هذه المجتمعات؛ ابتغاء قيام الإعلام بوظائفه المثلى لخدمة المواطن والمجتمع، إلا أن هذه المحاولات تعرَّضت لمعوقات جعلت من حرية الرأي في مختلف النطاقات أمرًا تصعب السيطرة عليه، والتي منها النزعة الربحية لاقتصاديات الوسيلة الإعلامية، وسيطرة جماعات الضغط والمصالح، والاهتمام بالوظيفة الترفيهية وسوء استخدامها.

لكن ما يهمنا في هذا الصدد وما يبعث على التساؤل هو مدى تطبيق هذه المواثيق الدولية الداعية لحرية التعبير دونما المساس بالثوابت الأساسية لأية ديانة. فإلى أي حد استطاعت المواثيق الدولية والقوانين الدولية لمختلف الدول إنشاء حاجز وقائي يحد من مساس الحرية المطلقة للتعبير بالركائز والثوابت الدينية لأي مجتمع كان؟ وكيف استطاعت هذه الدول حماية المعتقدات أو المدارس الفكرية أو الإيديولوجيات أو الديانات أو الرموز الدينية، وبالخصوص الرسوم الكاريكاتورية الأخيرة المسيئة لأطهر كائن على الوجود، رسول الله محمد (ص)؟ وكيف يمكن الحد من هذه الظاهرة التي باتت تأرق بال مليار ونصف المليار مسلم على وجه البسيطة؟

تكمن حرية التعبير عن الرأي في حرية التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو عمل فني بدون رقابة أو قيود حكومية، بشرط ألا تمس طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن اعتباره خرقا لقوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير، ومهما كانت حرية التعبير مقدسة، فلابد لها من ضوابط تنظم ممارستها، لحماية المجتمع من الفتن والصراعات، وتزداد الحاجة لتلك الضوابط عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الأديان والمقدسات، وخاصة عندما يكون المجتمع مكون من عدة ثقافات وأديان وقوميات، وحرية التعبير هذه حرية مسئولة، تراعي المصلحة العامة، وتعود بالنفع على المجتمع، وتكون حرية التعبير سلاح ذو حدين، عندما تنقلب المعادلة وتصبح حرية التعبير تعدي وعدوان، فهي بذلك تعد جريمة لابد من معاقبة مرتكبيها لأنهم يعبثون بأمن المجتمع والسلام العالمي.

وما يزكي طرح فرض قيود على حرية التعبير والرأي أكده القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 36/1981، والقائل: إن إهانة واحتقار الأديان يعد خرقا لميثاق الأمم المتحدة. ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 18 من وجوب احترام ومراعاة الأديان. وكذلك ما نص عليه الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة 18 فقرة 3 من أن حرية التعبير عن الأديان مقيدة بضوابط الأخلاق العامة، ولا تتعدى على حقوق الآخرين. وكذلك ما جاء في البند الثاني من الفقرة ب من إعلان فيينا في المؤتمر الذي عقد حول الأقليات خلال الفترة 14-25 يونيو لعام 1993، والذي نص على أنه لابد من القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين والمعتقدات.

وفي فرنسا يمنع ما يؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية ويمنع أيضا تكذيب جرائم الإبادة الجماعية ضد اليهود من قبل النازيين ويمنع أيضا نشر أفكار الكراهية بسبب الميول الجنسية لفرد، وقد اتهم القضاء الفرنسي المفكر الفرنسي رجاء جارودي وكذلك الكاتب الصحفي إبراهيم نافع بتهمة معاداة السامية حسب قانون جيسو.

وفي 10 مارس 2005 منع قاضي فرنسي لوحة دعائية مأخوذة من فكرة لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو دا فينشي . حيث تم تصميم اللوحات الدعائية لبيت” قيغباود” لتصميم الملابس وأمر بإزالة جميع اللوحات الإعلانية خلال 3 أيام. حيث أعلن القاضي بأن اللوحات الدعائية مسيئة للروم الكاثوليك. وعلى الرغم من تمسك محامي قيغبادو بأن منع الإعلانات هو نوع من الرقابة و قمع لحرية التعبير، إلا أن القاضي أقر بأن الإعلان كان تدخلا مشينا وعدوانيا بمعتقدات الناس الخاصة، وحكم بأن محتوى الإساءة إلى الكاثوليك أكثر من الهدف التجاريِ المقدم.

وفي ألمانيا ومن خلال البند الخامس من القانون الأساسي الألماني يرسم حدوداً لحرية الرأي والتعبير، حيث يمنع خطابات الكراهية ضد الدين والعرق والميول الجنسية، ويمنع استخدام الرموز النازية مثل الصليب المعكوف.

أما فيما يخص حرية الرأي والتعبير في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد وضعت لها ضوابط عن طريق المحكمة العليا، وهي ما باتت تعرف “باختبار ميلر”، الذي بدأ العمل به في العام 1973، ووضع ثلاث محددات لحرية الرأي والتعبير، وهي أن يرى غالبية الأشخاص في المجتمع طريقة التعبير مقبولة؛ أن لا تعارض طريقة إبداء الرأي القوانين الجنائية في الولايات الأمريكية؛ وأن تتحلى طريقة عرض الرأي بصفات أدبية جادة وفنية.

لكن ما يدعوا للقلق والريبة هو أنه إذا نظرنا بعين فاحصة ومتأملة لما يدور على الساحة، سنجد أن هذه القوانين سيف مسلط على رقاب المسلمين فقط، في حين أن الغرب يتملص منها عندما يتعلق الأمر بموقف إدانة للشرق الإسلامي، فيكفي أن يقوم شاب مسلم بالإساءة إلى المقدسات الغربية، حتى يتدخل مجلس الأمن مهددا ومتوعدا، أما أن يقوم أجنبي بالإهانة للدين الإسلامي فهو حرية رأي، ذلك هو الشعار الذي يدافع عنه الغرب، ويعتبره شيء مقدس لا يجوز المساس به، حتى لو كانت حرية التعبير هي السخرية والاستهزاء من المقدسات الدينية.

لا شك وأن الحرية أمر مهم، ولكن بمنأى عن مضايقة الآخرين وإثارة حفيظتهم، فالتطاول على مقدسات ورموز الآخرين من السفاهة لا من الحرية، والإسلام يرفض بشكل عام السفاهة، فالأدب والأخلاق مقدمان على أي شيء. فأي حوار في هذا المسار يجب أن يلتزم بأدبياته البشرية والدينية، ومن تلك الأدبيات عدم التهجم على رموز وديانات الآخرين، وعدم قذف أشخاص هم محل احترام عند الآخر، لذلك يجب احترام كل الأفكار الدينية لدى مختلف الديانات السماوية، خاصة فيما يتعلق بتراثنا الديني الإسلامي. فالإسلام يدعوا إلى احترام جميع الديانات، وهو ما يتضح وبشكل جلي من خلال عدم مساس المسلمين بالمقدسات الدينية للآخرين، لذلك فإصرار الصحيفة الفرنسية “Charlie Hebdo” على إعادة نشر رسوم مسيئة لرسولنا الكريم، يعد بلا شك عدوانًا صارخًا على معتقدات المسلمين الذين يؤمنون ويقدرون جميع الرسل، وكذلك يعد استفزازًا لمشاعر أكثر من مليار مسلم.

في الأخير نؤكد على أنه نحن نعتبر حرية التعبير أحد الأدوات الرئيسية والأساسية في تحقيق الديمقراطية في أي بلد كان، لكن هذه الحرية يجب أن لا تتجاوز الحدود المؤطرة لها والحدود التي تجعلها لا تتجاوز حقوق الآخرين، فنحن ندعم حرية التعبير المسؤولة ونندد بأي خرق لها أو بأي عمل إرهابي يمس بهذا الحق الذي ضمنته مختلف القوانين والمواثيق الدولية، لكن ما يجب التنديد به أيضا هو الخرق السافر والغير مسؤول من طرف الجريدة الفرنسية للديانات السماوية وبالخصوص الإسلام، لهذا يجب العمل على وضع القوانين الناظمة للعمل الصحفي بشكل خاص وحرية الرأي والتعبير بشكل عام التي تصب في اتجاه حماية الديانات السماوية من أي خرق أو مساس بشكل جدي دونما أي انحياز لأي طرف كان، لأن حرية الرأي والتعبير لها حدود عندما تمس عقائد الآخرين وعاداتهم وما يقتنعون به.

قد يعجبك ايضا