الديموقراطية في المجتمع اليوناني القديم

المعلومة القانونية – د. نبيل عكيد محمود المظفري

       كانت المدن اليونانية قديماً مستقلة بعضها عن البعض الآخر ، وتعود إدارة المدن الإغريقية القديمة إلى حدود الألف الثالث قبل الميلاد ، إذ كانت الإدارة وقتئذ تتركز في يد رئيس القبيلة ، إذ يقوم الأخير بإدارة المدينة دون الرجوع إلى القبيلة أو أبناء المدينة إلا في الحالات التي تستوجب الاجتماع ، إذ كان عندئذ يدعو الذكور من الأحرار فقط إلى اجتماع عام في ساحة المدينة أو وسطها ، ويعرض عليهم مقترحاته وآرائه بشأن المسألة التي اجتمعوا لأجلها ، ويعلن المجتمعون عن قبولهم أو رفضهم للآراء المطروحة .

       عرفت المدن اليونانية القديمة نوع من الديمقراطية التي لم تخلو من عيوب ، فقد تجاهلت الديمقراطية حقوق طبقة كبيرة من سكان المدن ، وهي طبقة العبيد ، إذ أنهم كانوا خارج مقياس المواطنة لدى اليونانيين بما فيهم الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو الذين أقروا بمبدأ الديمقراطية على الرغم من أن الديمقراطية عندهما وعند الآخرين من الفلاسفة اليونانيين لم تكن ديمقراطية بالمعنى الصحيح ، فقد أكدوا على وجوب بقاء السلطة في يد الحاكم ، ويجب أن لا تتجاوز السلطة النخبة من أبناء البلاد ، إذ انه غالباً ما وصفت الديمقراطية من قبل بعض الفلاسفة بـ (حكم الرعاع) ، مع إيمانهم بان السلطة من إرادة الشعب ، فقد قال أفلاطون “إن الإرادة المتحدة للمدنية هي مصدر السيادة ، كما أكد أرسطو على إن “السلطة تنبع من الجماعة وليس من شخص الحاكم ، وان خير الحكومات هي الحكومة التي يسود فيها القانون” .

       كانت أثينا من أشهر المدن اليونانية وأقدمها معرفة بالنظام الديمقراطي ، وكانت الديمقراطية المباشرة هي السائدة وقتئذ ، كانت الاجتماعات الدورية تعقد في ساحة عامة وسط مدينة أثينا ، ينظر المجتمعون خلالها في شؤونهم السياسية والدينية بصورة مباشرة ، وكان الاجتماعات من هذا النوع تعرف بـ أكليزيا (Ecclesia) ، وقد أتاحت تلك الاجتماعات فرصة كبيرة أمام المواطنين للمساهمة في إبداء آرائهم والتصويت على القرارات التي تصدرها الحكومة بالقبول أو الرفض .

       لقد تجلت مظاهر الديمقراطية في أثينا بشكل واضح على يد كليشنيس(Cleishenes) في حدود سنة (508 ق.م) ، فقد أرسى هذا الحاكم أسس الديمقراطية فيها ، إذ أقدم على تقسيم المواطنين إلى عشرة قبائل ، وأوجد نظاماً للحكم أتاح من خلاله المساهمة الفعالة للمواطنين في السلطة ، وفضلاً عن ذلك فقد عرفت أثينا نظاماً دقيقاً لرقابة السياسية مثل إشراف المحاكم على أعمال الموظفين بعد انتهاء خدمتهم ، كما أن لها الصلاحية في مراقبة التشريعات وقبولها أو رفضها ، مما جعل سلطتها تشبه في بعض الحالات السلطة التشريعية لمجلس النواب في الوقت الحاضر .

       على الرغم من ازدهار الديمقراطية المباشرة في أثينا وبعض المدن اليونانية الأخرى ، إلا أنها غابت بعد انهيار سلطة تلك المدن ، ولاسيما أثينا ، إذ أنها كانت في صراع مع المدن الأخرى ، وبعضها تمارس حكما استبدادياً بعيداً كل البعد عن الديمقراطية مثل إسبارطة ، وبدأ يحل محل النظام الديمقراطي حكم الارستقراطية أو النخبة ، ويبدو أن المثقفين من اليونانيين ولاسيما الفلاسفة كانوا يفضلون حكم النخبة ، وقد وصف سقراط الديمقراطية بحكم الرعاع وكذلك أكد بان الديمقراطية استبداد الفقراء للأغنياء ، وأيده تلميذه أفلاطون الذي رأى ضرورة حكم النخبة لأن العامة كانوا عاجزين عن المشاركة في الحكم وإدارة البلاد .

       لقد ظهرت شخصيات بين الحين والآخر آمنت بحرية الرأي والتعبير والمشاركة في الميدان السياسي ، وعملت على تأسيس نظام للحكم يكون للأغلبية في المجتمع دور في إدارة دفة البلاد بالشكل الذي يلائم واقع المجتمع ، والمجتمع اليوناني أ كان من المجتمعات الحضارية البارزة التي أنجبت من تلك الشخصيات الكثير ، ولاسيما إن الإرث الديمقراطي اليوناني كان لا يزال نافذ المفعول في البلاد . وقد كان سولون (560-460ق.م) أحد تلك الشخصيات المهمة التي قدمت للحضارة المدنية اليونانية الكثير ، إذ كان سولون يمتلك شعبية واسعة بين المواطنين الأثينيين ، فقد كان أديباً شاعراً مسموع الكلمة لدى عامة السكان ، وقد استطاع سولون عن طريق أشعاره أن يوصل أفكاره إلى الجماهير ، فضلاً عن كونه رجل نبيل ويتملك صفات قيادية ، مما أسهم في انتخابه حاكماً من قبل أهل أثينا ، وتم منحه سلطات خاصة تمثلت بإعداد التشريعات وسن القوانين .

       باشر سولون إصلاحاته الدستورية في أثينا سنة 494ق.م ، وتم بموجبها الاعتراف بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجميع الأحرار من أبناء المدينة بما فيهم الفقراء الذين كانوا محرومين من ذلك الحق سابقاً . وقد منحت إصلاحاته الحق للفرد في الوصول إلى مجلس المدينة والمشاركة في الحكومة ، وعدم استثناء أي شخص من أبناء البلاد الأحرار من ذلك الحق . كما عزز إرادة الشعب وسلطته عن طريق تأسيس محكمة عرفت بـ (محكمة هيليه) وهي محكمة شعبية تتألف من ستة آلاف عضو يتم اختيارهم بالقرعة من بين المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم سن الثلاثين وقبلوا العمل فيها بشكل متطوعين ، وقسمت المحكمة فيما بعد إلى عشرة أقسام ، يتكون كل قسم منا من (501) عضو ، أما الباقون يشكلون الأعضاء الاحتياط ، وكانت أعدادهم تخضع لنوع وحجم القضية التي ينظرون فيها وأهميتها ، وقد أخذت المحكمة شيئاً فشيئاً تختص بقضايا الجرائم المدنية والسياسية التي لا يتعرض لها القانون . وكانت المحكمة تعقد جلساتها بطلب من أحد المواطنين أو مجموعة للنظر في قضية ما أو شكوى ، وكانت أحكامها غير قابلة للنقض .

       ومن الشخصيات التاريخية الأخرى التي ارتبطت الديمقراطية باسمه هو بركليس (490-429ق.م) ، فقد كرس بركليس جهوده لترسيخ النظم الديمقراطي في أثينا ، فقد كان بركليس يمقت القوانين التي تحد من الحريات ، وأكد على حرية الفرد وضرورة مراعاتها لكي يكون الفرد قادراً على أداء مهامه وواجباته تجاه المجتمع ، وفي الحقيقة ان الحريات في عهده كانت مصونة إلى حد بعيد ، فقد كانت حرية الرأي والنقد والنشر متوفرة ، وعدة كانت المسرحيات التي تنتقد السلطة تعرض ، دون أية مضايقات .

       كان بركليس يؤكد عل النظام الديمقراطي لا يتحقق الا بوجود الجماعة على رأس السلطة وليست القلة ، إذ قال في هذا الصدد في إحدى المناسبات“نحن نسمي نظام الحكم عندنا بالديمقراطية ، لأن الإدارة في أيدي جماعة من الناس ، لا في أيدي قلة منهم” ، كما أكد بركليس على أن الديمقراطية يجب أن تستند إلى أسس قانونية مبنية على الواقع ، وتعمد على نظام الثواب والعقاب ، فقد قال “… إن حرية الجميع هي أقوى روابط القلوب . ويشارك بعضهم البعض في الآمال والآلام ، ويحكمون أنفسهم بقلوب حرة يكرمون الخيريين ويعاقبون الآثمين وفق القانون … ويعد من الوحشية أن يكره الناس بعضهم بعضاً بالقوة ، وان مهمة الرجال تحديد العدالة بالقانون والاقتناع بالعقل وأن يلتزموا بها في العمل متخذين من القانون سلطاناً ومن العقل معلماً” .

       إن ديمقراطية اليونان في العصور الغابرة ، لا يمكن عدها ديمقراطية حقيقية وفق المعيار المعتمد للديمقراطية في أيامنا هذه ، فقد شابتها عيوب كثيرة ، كانت بعضها جوهرية ، لاسيما ما يتعلق بالمواطنة . إذ كان المجتمع اليوناني ينقسم إلى طبقات وفئات ، نبلاء ورجال دين وعامة من مزارعين وعمال ومهنيين ، فيما كانت طبقة العبيد خارج قاموس المواطنة في الحضارة اليونانية حتى في أكثر العهود ديمقراطية ، وهو عهد بركليس . وفضلاً عن ذلك فان المواطنة اليونانية تقاس بالثروة ، لذا أصبحت امتيازاً لقلة من الناس تؤهلهم ثروتهم وأوقات فراغهم للتمتع بالوظائف السياسية وامتيازاتها ، والأمر الذي جعل المواطنة ميزة لا تنسحب إلا على عدد قليل من اليونانيين ، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى عهد سولون الذي شرع للمساواة في الحقوق بما فيها الحقوق السياسية بين الأثينيين باستثناء طبقة العبيد .

قد يعجبك ايضا