” الشكاية الرسمية كآلية للتعاون القضائي الدولي”

المعلومة القانونية – محماد الفرسيوي

     أمام تنامي ظاهرة الجريمة المنظمة وعجز القوانين الجنائية الوطنية بمفهومها التقليدي المبني على مفهوم السيادة الإقليمية[1]، أصبح لزاما على المجتمع الدولي إيجاد طريقة لمحاربة هدا النوع من الاجرام وتكريسا لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، الذي يقضي بضرورة معاقبة كل شخص على ما ارتكبه من أفعال اجرامية[2].

    وأمام هده التحديات التي باتت تتجاوز قدرات وإمكانات الدولة الواحدة، كان لزاما على المنتظم الدولي بكافة مكوناته ومشاربه، الاصطفاف في خندق واحد لمواجهة هدا الواقع الجديد الذي فرضه تلون الاجرام بطابع العولمة وتصبغه بصبغة العالمية. ودلك من خلال خلق وارساء العديد من اليات التعاون القضائي الدولي[3] ان على صعيد ارساء اجهزة البحث والتحري الدولية[4]، أو على مستوى التعاون القضائي الدولي الاجرائي عبر الانخراط في معاهدات واتفاقيات ثنائية او متعددة الاطراف، او تبني تشريعات وطنية تحدد سبل واليات هدا التعاون الدولي الدي صار يتخذ عدة اوجه في الميدان الجنائي كما هو الشأن بالنسبة لتبليغ الطيات القضائية، وتنفيد الانابات القضائية، وتقديم شكايات رسمية، وسلوك مسطرة تسليم المجرمين[5].

   فاذا كانت مسطرة تسليم المجرمين تم اعتمادها لإرجاع المتهم إلى  الدولة التي ارتكب على إقليمها الفعل الجرمي[6] وفي حالة فراره  لدولة أخرى ، فإن من المستقر عليه عند تطبيق هذه المسطرة هو أن الدولة المطلوبة لا تسمح بتسليم مواطنيها الذين يرتكبون جريمة تدخل ضمن اختصاص قضاء الدولة طالبة التسليم ، وهذا ما يحول دون متابعتهم ومحاكمتهم على ما ارتكبوه من افعال اجرامية .

    ودفعا للتملص من المتابعة ولتحقيق التضامن الدولي لمكافحة الجريمة تم ايجاد الية الشكاية الرسمية التي بمقتضاها يمكن لسلطات الدولة التي ارتكبت الجريمة فوق اراضيها عند لجوء مرتكب هذه الجريمة إلى  وطنه ، إبلاغ دولته بما ارتكبه من أفعال لمتابعته وفق قانونها الداخلي .

  انطلاقا مما تقدم تثار إشكالية تتعلق بمدى مساهمة الشكاية الرسمية في تحقيق التعاون الجنائي الدولي.

     وللإجابة عن الإشكالية السالفة تقتضي الضرورة المنهجية تقسيم الموضوع إلى مطلبين قصد الإحاطة بالجوانب المختلفة للموضوع وذلك وفق التصميم الآتي:

المطلب الأول: الأحكام العامة للشكاية الرسمية

المطلب الثاني: الإجراءات المسطرية لشكاية الرسمية

المطلب الأول: الأحكام العامة للشكاية الرسمية

      قبل الخوض في الإجراءات المتعلقة بالشكاية الرسمية لابد أن نقف على الأحكام العامة لهذه الآلية القضائية التي تقوم على ربط جسور التعاون القضائي الدولي بين الدول، وهذا ما سنتولى التفصيل فيه من خلال التطرق لماهية الشكاية الرسمية ( الفقرة الأولى ) قبل التمييز بين هذه الآلية وما يشابهها من أنظمة ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: ماهية الشكاية الرسمية

   إن الحديث عن الشكاية الرسمية يستدعي منا التعريف بها ( اولا ) ثم تمييزها عن بعض الأنظمة الأخرى المشابهة ( ثانيا )

أولا: تعريف الشكاية الرسمية

     الشكاية الرسمية هي إجراء مسطري يخول لسلطات الدولة التي ترتكب الجريمة في أراضيها عند لجوء مرتكب الجريمة إلى وطنه، إبلاغ دولته بما ارتكبه من أفعال لمتابعته وفق قانونها الجنائي[7].

إذن فالشكاية الرسمية هي الشكاية المقدمة من دولة إلى دولة أخرى ليس لها اتفاقية تسليم المجرمين، وذلك كلما تعلق الأمر بجريمة ارتكبت داخل المغرب و فرار المجرم إلى تراب تلك الدولة.

ثانيا: الإطار القانوني للشكاية الرسمية

      نظم المشرع المغربي أحكام الشكاية الرسمية بمقتضى قانون المسطرة الجنائية في المواد 748 و749. فقد جاء في المادة 748 من قانون المسطرة الجنائية أنه: “إذا ارتكب أجنبي جريمة بأراضي المغرب وكان من مواطني دولة لا يسمح تشريعها بتسليم مواطنيها، فإنه يمكن للسلطات المغربية في حال لجوء مرتكب الجريمة إلى وطنه أن تقوم بإبلاغ دولته بما ارتكبه من أفعال للحصول على متابعته طبقا لتشريع الدولة المطلوبة.

يتم الإبلاغ عن الجرائم بالطريق الدبلوماسي.

     يتضمن الإبلاغ عرضا للوقائع، ويبين فيه بدقة مكان ووقت ارتكاب الجريمة والعناصر المكونة لها والنصوص المطبقة عليها بالمغرب وجميع العناصر الأخرى التي يمكن استعمالها كوسائل إثبات، ويرفق غلى الخصوص بنسخ مصادق على مطابقتها للأصل من المحاضر المعاينة والاستماع إلى الشهود أوالمشاركين في الجريمة الذين يوجدون بالمغرب.

تطبق مقتضيات الفقرات السابقة مع مراعاة الاتفاقيات المبرمة في هذا الصدد”.

    في حين نصت المادة 749 من نفس القانون على أنه: “يمكن في حالة التوصل بشكاية رسمية من دولة أجنبية، أن يتابع بالمغرب المواطن المغربي الذي يرتكب جريمة بالخارج أو داخل المحكمة، ولا يتم تسليمه للدولة الأجنبية اعتبارا لجنسيته المغربية. ويصدر الحكم عليه وفقا لمقتضيات القانون المغربي”.

      يتضح من خلال المادتين السابقتين أن المشرع المغربي ميز بين نوعين من الشكاية الرسمية، إذ تناول بالدراسة في المادة 748 حالة كون المغرب دولة طالبة، أي دولة مصدرة للشكاية الرسمية إلى دولة أجنبية لا يسمح تشريعها بتسليم رعاياها، في حالة ارتكاب أحد مواطنيها لفعل إجرامي داخل المغرب وفراره إليها، في حين تعرضت المادة 749 إلى حالة كون المغرب دولة مطلوبة، أي تكون الدولة المغربية هي التي تتوصل بالشكاية الرسمية من دولة أجنبية ليتابع بالمغرب المواطن المغربي الذي ارتكب جريمة بالخارج، أو داخل المملكة حتى يتابع ويحاكم طبقا لمقتضيات التشريع المغربي.

الفقرة الثانية: تمييز الشكاية الرسمية عن بعض الأنظمة المشابهة

    قد تختلط الشكاية الرسمية بأنواع أخرى من الشكايات لدى سنتطرق  لهذه المسألة من خلال تمييزها عن الشكاية العادية ( أولا ) ثم عن الشكاية المباشرة ( ثاني ).

أولا: تمييز الشكاية الرسمية عن الشكاية العادية

     الشكاية تصريح يعبر عنه شخص أمام ضباط الشرطة القضائية أو النيابة العامة أو قاضي التحقيق يبين بمقتضاه أنه تعرض لضرر أصابه بمناسبة ارتكاب جريمة، وقد عرفها البعض الآخر بكونها إجراء يتولاه المجني عليه ومن يقوم مقامه ويتقدم بواسطته إلى السلطات المختصة ليبلغها عن خبر وقوع جريمة  تعرض لها. فهي بذلك تكون شفوية يترتب عنها تحرير محضر من لدن الشرطة القضائية أو مكتوبة يتقدم بها الضحايا أمام النيابة العامة أو قضاة التحقيق وتكون مصحوبة بالإدعاء المدني. كما أن الشكاية قد تكون ضد شخص معلوم أو مجهول، وبالتالي فإنها تعتبر مصدرا ثمينا للمعلومات ومنطلقا لتحركات أبحاث الشركة القضائية حيث يمكن بواسطتها مساعدة العدالة على كشف كثير من الجرائم[8].

ثانيا: تمييز الشكاية الرسمية عن الشكاية المباشرة

      بتصفح نصوص المسطرة الجنائية يتضح بأن المشرع المغربي لم يقدم على إعطاء تعريف محدد للشكاية المباشرة، إلا أنه أشار إلى لفظ ” الشكاية” من خلال المادة 92 من ق م ج، الذي نص من خلاله على أنه:” يمكن لكل شخص ادعى أنه تضرر من جناية أو جنحة أن ينصب نفسه طرفا مدنيا عند تقديم شكايته أمام قاضي التحقيق المختص، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”.

     وتجد الشكاية المباشرة سندها القانوني في المادة 384 في فقرتها الثانية المحددة لإمكانية تحريك الدعوى العمومية عن طريق الاستدعاء المباشر الذي يسلمه الطرف المدني للمتهم أو عند الاقتضاء للمسؤولين عن الحقوق المدنية، إلى جانب المواد من 92 إلى 98 من ق م ج التي تنظم إجراءات التنصيب كطرف مدني أمام السيد قاضي التحقيق، والمواد من 348 إلى 356 من نفس القانون باعتبارها تنظم نفس الإجراءات أمام هيئة الحكم.

    وقد عرف الدكتور عبد الوهاب حومد الإدعاء المدني بأنه:” شكوى يقدمها المضرور إلى قاضي التحقيق أو إلى محاكم الحكم يشرح فيها كيفية وقوع الجرم عليه”، غير أن هذا لا يكفي لأن هذه تظل شكوى عادية، ولكن لا بد من أن يعلن عن رغبته بأنه ينوي أن يقيم نفسه مدعيا مدنيا، وأنه يطالب بمبلغ يقدره من المال تعويضا عن الضرر الذي ألحقه به الجرم[9].

     كما عرف الدكتور عادل محمد فريد قورة، الادعاء المباشر بأنه:” حق المضرور من الجريمة في تحريك الدعوى الجنائية بتكليف المتهم بالحضور مباشرة أمام المحكمة للمطالبة بالتعويض الناشئ عن تلك الجريمة. وبذلك تنظر الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية بالتبعية للدعوى الجنائية[10].

المطلب الثاني: إجراءات الشكاية الرسمية

    لتفعيل أي إجراء أوجد له المشرع شروط وجب احترامها ومسطرة لزم إتباعها، ولتطبيق مسطرة الشكاية الرسمية  لابد من شروط سنتناولها من خلال ( الفقرة الأولى ) قبل الإنتقال للمسطرة المتبعة في هذه الآلية ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى:  شروط الشكاية الرسمية

    يشترط لصحة تفعيل الشكاية الرسمية كآلية من آليات التعاون القضائي الدولي في الميدان الجنائي، توفر مجموعة من الشروط تتجلى بالأساس في ضرورة ارتكاب أجنبي لجريمة بأراضي المغرب (أولا)، وأن تكون هذه الجريمة خطيرة (ثانيا)، مع ضرورة ازدواجة الفعل المرتكب في كلا الدولتين الطالبة والمطلوب منها (ثالثا)، ثم عدم سقوط الدعوى العمومية (رابعا).

أولا: جنسية مرتكب الجريمة

    بالرجوع لنص المادتين 748 و749 من ق.م.ج، نستنتج أن جنسية مرتكب الفعل الإجرامي متطلبة لتفعيل آلية الشكاية الرسمية، بحيث يشترط أن يكون مرتكب الجريمة المقدمة ضده الشكاية الرسمية حاملا لجنسية الدولة المتواجد بها، غير جنسية الدولة التي ارتكب على أراضيها الفعل الإجرامي، أو جنسية دولة أخرى، أي أنه يجب أن يكون مرتكب الفعل الجرمي حاملا لجنسية أجنبية عن الدولة المرتكب فيها الفعل الإجرامي أو دولة أخرى غير الدولة الموجهة إليها الشكاية الرسمية.

      فلو افترضنا مثلا أن مغربيا ارتكب جريمة في اسبانيا ثم فر إلى المغرب، ففي هذه الحالة لا يمكن للسلطات الاسبانية أن تتقدم بطلب التسليم في حقه تطبيقا لمبدأ عدم إمكانية تسليم الدولة لرعاياها[11]. ليبقى الخيار الوحيد أمام السلطات أمام السلطات الاسبانية هو تقديم شكاية رسمية لمحاكمته أمام قضاء دولته تطبيقا لقاعدة التسليم أو المحاكمة[12].

     إلا أن الإشكال الذي يطرح في هذا الصدد يتعلق بالحالة التي يكون فيها مرتكب الفعل الجرمي حاملا لجنسية دولتين، ولنفترض هنا أن شخصا يحمل جنسية مغربية وجنسية فرنسية وارتكب جريمة في الأراضي المغربية ثم فر إلى فرنسا، فهنا لو تقدمت الدولة المغربية إلى السلطات الفرنسية       قصد تسليمها مرتكب الفعل الجرمي اعتبارا لأنه يحمل الجنسية المغربية في الأصل، لامتنعت الدولة المطلوب منها (فرنسا) عن تسليمه لكونه من رعاياها، ليبقى الخيار الوحيد هنا هو تقديم شكاية رسمية لمحاكمته في فرنسا باعتبار أن هذه الأخيرة (الشكاية الرسمية) هي الوسيلة الأفضل والأنجع لعدم إفلات الجاني من العقاب[13].

ثانيا: خطورة الجريمة  

    اتجهت مختلف القوانين الجنائية إلى تبني مبدأ التدرج في الخطورة الإجرامية، حيث صنفت الجرائم حسب جسامتها إلى جنايات وجنح ومخالفات، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن نوع الجرائم التي يمكن تقديم شكاية رسمية بخصوصها؟.

    بالرجوع للنص الفصلين 748 و749 من ق.م.ج نجد أن المشرع استعمل كلمة “جريمة” بمفهومها الواسع، والتي قد تفيد الجناية والجنحة أو حتى المخالفة. إلا أنه بالرغم من ذلك، فإن الفعل المنسوب إلى الشخص موضوع الشكاية الرسمية ينبغي أن يكون على قدر معين من الخطورة والجسامة، وعليه يتوجب أن يكون لهذا الفعل وصف جناية أو جنحة في نظر المشرع المغربي[14]، وهذا ما يمكن استخلاصه من مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 707 من قانون المسطرة الجنائية والتي تنص على أنه: “كل فعل له وصف جناية في نظر القانون المغربي ارتكب خارج المملكة المغربية من طرف مغربي، يمكن المتابعة من أجله والحكم فيه بالمغرب…”.

   كما جاء أيضا في الفقرة الأولى من الفصل 708 من نفس القانون أن كل فعل له وصف جنحة في نظر القانون المغربي ارتكب خارج المملكة المغربية من طرف مغربي يمكن المتابعة من أجله والحكم فيه بالمغرب”.

      انطلاقا من الفصلين السابقين يمكن القول أن المخالفات تخرج من دائرة الجرائم التي يمكن إعمال الشكاية الرسمية من أجلها، وأن هذا الإجراء يقتصر على الجنايات والجنح فقط، ويمكن القول أن المشرع أحسن صنعا في ذلك، ذلك أن المخالفات لا تشكل خطورة كبيرة من شأنها فرض اللجوء إلى الشكاية الرسمية، خاصة إذا ما نظرنا إلى تكلفة مسطرة هذه الأخيرة من جهة، ولكثرة عدد المخالفات التي من شأنها أن تثقل كاهل المصالح المختصة في إعمال مسطرة الشكاية الرسمية من جهة أخرى. 

ثالثا: ازدواجية التجريم

    من الشروط المقررة كذلك للإستجابة لطلب الشكاية الرسمية ، شرط ازدواجية التجريم، والذي يقصد به أن يكون الفعل موضوع الشكاية الرسمية يشكل جريمة في قانون كل من الدولة المصدرة لها وقانون الدولة الواردة إليها، أي أن الجريمة موضوع الطلب يجب أن تكون معاقبا عليها في القوانين الداخلية لكلا الدولتين.

       ويقتضي هذا الشرط من الدولة المطلوبة ألا تستجيب لطلب الشكاية الرسمية إلا إذا كان قانونها الوطني يجرم الأفعال موضوع الشكاية ، إذ أن أغلب الدولة تمتنع عن متابعة مواطنينها داخل ترابها عن أفعال لا تعتبر جريمة في نظر قانونها، استنادا إلى كون نظامها العام يعتبرها أفعالا مباحة ومشروعة ولا تحدث أي استنكار أو خدش للحياء في هذه الدولة، ومثال ذلك جريمة الفساد التي تعتبرها أغلب الدول الأوربية حق شخصي غير معاقب عليه متى كان برضى الطرفين وكاملي الأهلية.

      لكن وأمام تحقق فرضية أن الفعل المرتكب مجرم في تشريع الدولة المصدرة للشكاية الرسمية والحال أن نفس ذلك الفعل غير مجرم في دولة مرتكب الفعل الجرمي والمطلوب منها تطبيق الشكاية الرسمية؟ هل معنى هذا أن الفاعل سيبقى بمنأى عن العقاب؟

    يرى الأستاذ نور الدين الوناني أن مرتكب الجريمة في هذه الحالة تصدر في حقه مذكرة بحث، تبقى سارية في حقه يتم القبض عليه بموجبها متى دخل إلى أراضي الدولة الطالبة أو لجأ إلى أراضي دولة أخرى[15]، ما لم يسقط هذا الفعل بالتقادم ، لكن في هذه الحالة الأخيرة يتم اللجوء إلى مسطرة التسليم وليس إلى الشكاية الرسمية على اعتبار أن مرتكب الجريمة لجأ إلى دولة غير الدولة الحامل لجنسيتها.

رابعا: عدم سقوط الدعوى العمومية.

     إضافة إلى الشروط السابق ذكرها، لا بد لقبول الشكاية الرسمية من توافر شرط آخر يتمثل في عدم سقوط الدعوى العمومية بالتقادم أو بالعفو أو بسبقية البث أو بالصلح أو بسحب الشكاية في الحالات التي يتطلبها القانون لتحريك الدعوى العمومية[16].

       بالرجوع إلى المقتضيات القانونية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية والمتعلقة بالتعاون القضائي الدولي في الميدان الجنائي نجد نص الفقرة الثانية من المادة 707 تنص على أنه بالنسبة للأفعال التي لها وصف جناية:”… لا يمكن أن يتابع المتهم ويحاكم إلا إذا عاد إلى الأراضي المغربية، ولم يثبت أنه صدر في حقه في الخارج حكم اكتسب قوة الشيء المقضي به وأنه في حالة الحكم بإدانته، قضى العقوبة المحكوم بها عليه أو تقادمت أو حصل عفو بشأنها”، أما بالنسبة للأفعال التي لها وصف جنحة فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 708 من نفس القانون على أنه: “… لا يمكن أن يتابع المتهم أو يحاكم إلا مع مراعاة الحالات المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 707…”.

      ومادام المبدأ العام هو أن الدولة الطالبة لا يمكن أن تفرض قانونها على الدولة المطلوبة، أي أن هذه الأخيرة تطبق قانونها الداخلي[17]، وبالتالي فإن المقتضيات المتعلقة بسقوط الدعوى العمومية تخضع لقانون الدولة المطلوبة ما لم توجد اتفاقيات تنص على خلاف ذلك.

الفقرة الثانية: مسطرة تقديم الشكاية الرسمية.

     اعتمادا على مواد قانون المسطرة الجنائية المغربي المتعلقة بالشكاية الرسمية، ومقتضيات الاتفاقيات الدولية المبرمة في هذا الإطار ، يمكن القول أن هناك مجموعة من الإجراءات ينبغي مراعاتها بالضرورة عند اللجوء إلى تفعيل آلية الشكاية الرسمية ، ومن هذه المقتضيات ما يتعلق بتقديم الشكاية الرسمية (الفقرة الأولى)، ومنها ما يتعلق بمرفقاتها

( الفقرة الثانية).

أولا : طريقة تقديم الشكاية الرسمية.

     انطلاقا من مقتضيات المادة 748 من قانون المسطرة الجنائية  يتبين أنه لتقديم الشكاية الرسمية ينبغي سلوك الطريق الدبلوماسي ، أي بعد تحريك الدعوى العمومية في شكل شكاية رسمية من طرف النيابة العامة  تحيلها على وزارة العدل( مديرية الشؤون الجنائية والعفو)، والتي تحيلها بدورها  على وزارة الخارجية قصد تبليغها للسلطات الأجنبية المختصة.

      وهذا ما لم تنص الاتفاقيات الدولية في حالة وجودها على خلاف ذلك، كما هو الشأن لما جاء في الاتفاقية المبرمة بين المغرب واسبانيا[18] والاتفاقية المغربية البرتغالية[19]، اللتين جاء فيهما بأنه يمكن  توجيه الشكاية الرسمية عن طريق السلطة المركزية الممثلة في وزارة العدل بشكل مباشر بين البلدين دون إعمال  الطريق الدبلوماسي .

     ومن هنا يمكن القول أن النيابة العامة لا يمكن لها توجيه الشكاية الرسمية بشكل مباشر دون مرورها على وزارة العدل أو الخارجية، إذ أنه إذا ما تمت توجيه الشكاية الرسمية من طرف النيابة العامة مباشرة على السلطات الأجنبية المختصة، فإن مصيرها سيكون حتما عدم القبول لما فيها من مخالفة لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية والاتفاقيات الدولية.

 ثانيا: بيانات الشكاية الرسمية ومرفقاتها.

     بالرجوع للفقرة الثانية من المادة 748 من ق.م.ج التي جاء فيها:” يتضمن الإبلاغ عرضا للوقائع، ويتبين فيه بدقة مكان ووقت ارتكاب الجريمة والعناصر المكونة لها والنصوص المطبقة عليها بالمغرب وجميع العناصرالأخرى التي يمكن استعمالها كوسيلة إثبات…”

      باعتماد مقتضيات هذه الفقرة يتبين أنه لتفعيل آلية الشكاية الرسمية ينبغي تضمينها مجموعة من البيانات التي من خلالها يمكن للسلطات القضائية المطلوبة التأكد من ما إذا كان الفعل المنسوب لأحد مواطنيها من الأفعال التي تستحق  تحريك الدعوى العمومية ومدى جديتها، فقد يكون الفعل موضوع الشكاية الرسمية لا يشكل جريمة في تشريع الدولة المطلوبة فيختل بذلك شرط ازدواجية التجريم ، وقد يكون الفعل الإجرامي لا يكتسي  وصف جناية أو جنحة في نظر التشريع المغربي وإنما مجرد مخالفة فيختل بذلك شرط خطورة الجريمة.[20]

  كما أن الإشارة إلى زمن ارتكاب الجريمة يفيد في تحديد مدى تقادم الفعل الإجرامي من عدمه.

      ويضاف إلى ماسبق تحديد مكان ارتكاب الجريمة لما فيه فائدة في تحديد مدى انعقاد الاختصاص للدولة الطالبة، إذ أنه من غير الممكن أن تقدم إحدى الدول شكاية رسمية إلى دولة ثانية بناء على فعل اجرامي ارتكب في دولة ثالثة لا تمسها في شيء، هذا ما لم تكن الجريمة مرتبطة بفعل إجرامي ارتكب داخل الدولة الطالبة.

      وينبغي كذلك إعطاء تكييفا قانونيا للفعل أو الأفعال موضوع الشكاية الرسمية، مع تحديد النصوص القانونية المطبقة عليها، وذلك حتى يتسنى للدولة المطلوبة التأكد من مدى ازدواجية تجريم الفعل المرتكب.

     كما تجدر الإشارة في بيانات الشكاية الرسمية إلى هوية المتهم بشكل دقيق، من قبيل ذكر اسمه الشخصي والعائلي، وذكر اسم والديه، لقبه،أوصافه، العلامات المميزة له،جنسيته، محل إقامته،مهنته، صورته الشمسية ، وجميع المعلومات والوثائق التي من شأنها أن تساعد على التعريف بهويته، حتى يتسنى الوصول إليه بسهولة، وحتى لا تتم متابعة شخص آخر غير الشخص موضوع الشكاية الرسمية لوجود تشابه أو تقارب في الأسماء.

       وفيما يتعلق بمرفقات الشكاية فقد نصت المادة 748 من قانون المسطرة الجنائية على أنه: “… ويرفق على الخصوص بنسخ مصادق على مطابقتها للأصل من محاضر المعاينة والاستماع  إلى الشهود أو إلى المساهمين أو المشاركين في الجريمة الذين يوجدون بالمغرب.”

      باعتماد هذه الفقرة يتضح أن الشكاية الرسمية يجب أن ترفق بنسخ مصادق عليها  من المحاضر المنجزة في إطار التحقيق في الفعل الإجرامي موضوع الشكاية الرسمية ، سواء أكانت محاضر معاينة       أو محاضر الاستماع إلى الشهود أو الضحية، أو محاضر الاستماع إلى المساهمين أو المشاركين في الجريمة في حالة وجودهم.

      وفي هذا الإطار يمكن التساؤل حول مدى حجية المحاضر الواردة من الدولة الطالبة على الدولة المطلوبة؟

     يمكن القول أنه ليس هناك مانع من الأخذ بهذه المحاضر مادامت صادرة عن سلطة أجنبية مختصة وعن أجهزة رسمية في الدولة، وعلى اعتبار أن الفعل الإجرامي تم ارتكابه بأراضي الدولة الطالبة، والمحاضر المنجزة من طرفها تلامس فيها عن قرب ظروف ارتكاب الجريمة ، فإنه يبقى من الأجدر الأخذ بها، وهذا هو توجه القضاء المغربي إذ جاء في أحد القرارات الصادرة عن محكمة الإستئناف بالناظور[21] تفعيلا لشكاية رسمية واردة من الدولة الفرنسية :” وحيث أنكر المتهم في جميع مراحل البحث أن يكون قد اقترف أي جرم مما توبع به أعلاه أو أتى أي فعل مما زعمه في حقه كل من “ك.ش” و”خ.ف”، إلا أن بملف النازلة من الأدلة والقرائن القوية ما يدحض قول النفي، ومن ذلك تأكيد ذات الشخصين لدى استجواب الشرطة الفرنسية لهما واقعة تحوزهما  بمخدر الشيرا بكميات مختلفة من المتهم… كما أن ما ينهض دليلا قويا يعزز مصداقية أقوال المصرحين أعلاه تمكن الضابطة الأجنبية من الاهتداء إلى الاسم الكامل للظنينين وكذا عنوانه بأرض الوطن من خلال تنصتها على المكالمات التي كانت ترد على هواتف الشخصين المذكوريين من لدن فاعلين ومن لدن المتهم… وأن الشرطة الفرنسية أكدت بمعرض كتبها المرفقة أن الرقم ذاته تمت بهم هاتفة الموقوفين لمرات عدة ولأوقات طويلة خلال الفترة السنوية وأن كون المكالمات انصبت في جميعها على عمليات الترتيب وتهريب المخدرات نحو البلدان الأوربية…”.

   وفي الأخير يتم تحرير طلب التعاون القضائي والوثائق المرفقة به بلغة الدولة الطالبة مع إرفاقها بنسخة مترجمة بلغة الدولة المطلوبة أو باللغة الفرنسية[22] . مع التصديق عليها من طرف شخص مختص وفقا لقانون الدولة الطالبة.[23]

خاتمة:

     إن تطور الجريمة وخروجها عن رقع الدولة وامتدادها عبر العالم، بحيث لم تعد تعترف بالحدود الجغرافية وكذلك سهولة تنقل الأشخاص عبر مختلف الحدود الدولية جعل من توقيع العقاب على المجرمين تحديا كبيرا أمام العدالة الجنائية، وانطلاقا من عجز القواعد والمبادئ الوطنية على التصدي للجريمة والمجرم وكذلك تنامي الإفلات من العقاب حثم على التشريعات الدولية ومن بينها المغرب البحث عن سبل التصدي ومواجهة المجرمين.

   وتحقيقا لهذه الغاية عمل التشريع المغربي وفي إطار مقتضيات قانون المسطرة الجنائية على التنصيص على مجموعة من الآليات القضائية التي تهدف إلى تعزيز التعاون القضائي بين الدول في تتبع المجرمين وتوقيع العقاب عليهم، وتعد الشكاية الرسمية أهم هذه الآليات.

   إلا أن تفعيل وتنزيل هذه الآليات ليس بالأمر السهل في ظل وجود مجموعة من القواعد والمبادئ الدولية والتي تقف في وجه هذه الآليات حيث نجد السيادة الوطنية وعدم التدخل في شؤون الدول وكذلك مبدأ الإقليمية أبرز القواعد التي تحد من نجاعة التعاون القضائي الدولي.


[1]– ينص الفصل 10 من القانون الجنائي المغربي على ما يلي : “يسري التشريع الجنائي المغربي على كل من يوجد بإقليم المملكة من وطنيين وأجانب وعديمي الجنسية، مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي.”

[2] – نورالدين الوناني ومحفوض حجيو، الشكاية الرسمية بين مقتضيات قانون المسطرة الجنائية والاتفاقيات الدولية، مقال منشور بمجلة قراءات في المادة الجنائية الجزء الثاني، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الاولي، السنة 2014،ص174.

[3] – عبد الكافي ورياشي، أبحاث في الفقه الجنائي، الطبعة 2016،ص223.

[4] – ويندرج في هدا الاطار انشاء المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الانتربول) عام1923 تحت اسم اللجنة الدولية للشرطة الجنائية لتتخذ اسمها الحالي سنة1956 ويقع مقرها في مدينة ليون الفرنسية ويبلغ عدد اعضائها 177 دولة، انطر المزيد من التفصيل في موضوع الانتربول.

شريف سيد كامل، الجريمة المنظمة في القانون المقارن، دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة الاولى، ص262 وما بعدها.

[5] – المصطفى كاملي، التعاون القضائي في الميدان الجنائي، مقال منشور في مجلة منبر النيابة العامة، الصادرة عن جهاز النيابة العامة بمحكمة النقض، العدد الثاني سنة 2012،ص36.

[6] – يمكن للدولة في بعض الحالات ان تتابع الاشخاص حتى ولو لم  يرتكبوا الجريمة فوق اقليمها، كما هو الشأن في الحالات المشار اليها في المادة 711 من ق.م.ج التي جاء فيها ما يلي :” يحاكم حسب مقتضيات القانون المغربي كل اجنبي يرتكب خارج اراضي المملكة بصفته فاعلا اصليا او مساهما او مشاركا، جناية او جنحة ضد امن الدولة، او تزييفا لخاتم الدولة او تزيفا او تزوير النقود و لأوراق بنكية وطنية متداول بالمغرب بصفة قانونية ، أو جناية ضد أعوان أو مقار البعثات الدبلوماسية أو القنصلية أو المكاتب العمومية بالمغرب .

إذا ارتكب مغربي خارج أراضي المملكة بصفته فاعلا اصلبا أو مساهما أو مشاركا جريمة من الجرائم المشار اليه أعلاه ، يعاقب على هذه الجريمة كما لو ارتكبت داخل المغرب .

كل شخص شارك أو ساهم خارج المغرب في ارتكاب احدى الجرائم لمنصوص عليها  في الفقرة الأولى يتابع بصفته مشاركا عملا بالفقرة المذكورة .

غير أنه لايمكن أن تجري المتابعة أو يصدر الحكم إذا أثبت المتهم أنه حكم عليه بالخارج من أجل نفس الفعل بحكم مكتسب لقوة الشىء المقضي به ، وأدلى به في حالة إدانته بما يثبت أنه قضى العقوبة المحكوم بها أو تقادمت . “

[7] ـ  وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية ـ الجزء الثالث، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية سلسلة الشروح والدلائل، العدد 8 يونيو 2007، ص 197.

[8] ـ عصام المدني، مرشد الشرطة القضائية في أساليب البحث والتحري وطرق الإستدلال الجنائي،  مطبعة الكرامة، طبعة 2018، ص 42.

[9] ـ عبد الوهاب حومد: الموجز في المسطرة الجنائية المغربية، ص 56. نقلا عن ذ/ أحمد بنعجيبة: الشكاية المباشرة، مقال منشور بمجلة الإشعاع، العدد 29 غشت 2004 ص 127.

[10] ـ عادل محمد فريد قورة: الوجيز في شرح قانون الإجراءات الجنائية، الطبعة الأولى 1982، هامش ص 218.

[11] _ وذلك حسب المادة 721 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها: “لا يوافق على التسليم:

  1. إذا كان الشخص المطلوب مواطنا مغربيا، ويعتد بهذه الصفة وقت ارتكاب الجريمة المطلوب من أجلها التسليم”.

[12] _ نور الدين الوناني ومحفوض حجيو، مرجع سابق، ص 175.

11- في هذا الصدد نجد قضية سعيد شعو الذي تم توقيفه من طرف المصالح الأمنية الهولندية للنظر في الشكاية المغربية والأمر الدولي بإلقاء القبض الذي أصدره قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، إذ أنه لم يتم تسليم المواطن الهولندي ذو الجنسية المغربية للمغرب لأن القانون الهولندي وكذلك اتفاقية التعاون القضائي بين المغرب وهولندا بتاريخ 20 شتنبر 2010 لا تسمح بتسليم المجرمين، وبالتالي يحتكر القضاء الهولندي وحده حق متابعة المطلوب.

[14] _ نصر الدين مروك، التعاون القضائي الدولي في الميدان الجنائي والتحديات المطروحة، مقال منشور بأشغال ندوة “السياسة الجنائية في الوطن العربي”، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الأدوات والأيام الدراسية، عدد 5، سنة 2006، ص 223.

13-في حالة لجوء المتهم إلى دولة غير الدولة الحامل لجنسيتها فإنه يمكن تقديم طلب التسليم بشأنه حتى ولو لم يكن الفعل الإجرامي موضوع طلب التسليم مجرما في قانون الدولة المطلوب منها التسليم، طبقا لما جاء في المادة الثانية من الاتفاقية المغربية البرتغالية التي نصت على:” 1/ يقبل التعاون القضائي ولو كانت الجريمة غير معاقب عليها في قانون الدولة المطلوب منها…”

14– شرح قانون المسطرة الجنائية لوزارة العدل: منشورات جمعية نشر المعلومات القانونية والقضائية، سلسلة الشروح والدلائل، العدد 8 يونيو 2007، الجزء الثالث ص، 200.

15– تنص المادة 4 من الاتفاقية المغربية البرتغالية على أنه:” ينفذ طلب التعاون وفقا للإجراءات المنصوص عليها في تشريع الدولة المطلوب منها …”

– المادة 13 من الاتفاقية المغربية الاسبانية.[18]

– المادة 14 من الاتفاقية المغربية البرتغالية.[19]

– شرح قانون المسطرة الجنائية ، مرجع سابق ص 202.[20]

– قرار عدد 802 صادر بتاريخ 15 دجنبر 2009 عن غرفة الجنح الاستئنافية للرشداء بمحكمة الاستئناف بالناظور ، غير منشور[21]

– المادة 23 من الاتفاقية المغربية الاسبانية والمادة 17 من الاتفاقية المغربية البرتغالية[22]

– المادة 17 من الاتفاقية المغربية البلجيكية.[23]

قد يعجبك ايضا