الإدارة العمومية بين أزمة القانون وقانون الأزمة

 

إنجاز “عبد المجيد إدريسي منادي” طالب حاصل على إجازة أساسية في القانون الخاص، وأخرى مهنية كفاعل جمعوي، وتوضيب فريق عمل موقع “المعلومة القانونية“.

مقدمة :

إن الإدارة القومية لأي نشاط أو عمل مهما كان صغيرا أو كبيرا، تتطلب حكمة وتبصر، لكونها تتعامل مع بشر وليس مجموعة من الآلات والأدوات، ذلك أن “الإدارة” فن القيادة  يقتضي تبصر وحكمة والإحساس بروح المسؤولية، فرب كلمة صغيرة فعلت فعل السحر في نفس سامعها دفعت به إلى الأمام، وعلى العكس رب كلمة صغيرة فعلت في نفس سامعها فعل السحر فألقت به إلى الهاوية، ذلك أن الإدارة العمومية عصب التنمية بكل مشاربها، لأنه تعبر عن نجاعة التدبير والقدرة على مواكبة التغيير .

فالإدارة العمومية هي مجموعة من المؤسسات والمنظمات الموضوعة في خدمة المواطنين، والتي يشكل وجودها ضمانة لحقوق وحريات الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، كما تسهر على توفير الخدمات لكل من يطلبها حتى يلبي حاجته، ويساهم في تنمية مجتمعه.

ومن هذا المنطلق تبرز الأهمية النظرية للمرفق العام في علاقته بالمترفقين، حيث تعزز الإهتمام التشريعي والإصلاح الإداري في السنين الأخيرة، إيمانا بمكانة الحكامة الإدارية للمرافق العمومية في المسلسل التنموي في بلادنا، فأصبحت الدعوة نحو تقعيد واقعي للإدارة المواطنة ‘‘الخدومة‘‘ البعيدة عن المضايقات الحزبية والحسابات الشخصية، إدارة تجعل في مقدمة أولوياتها خدمة المواطن بغض النظر عن إنتمائه الحزبي، ومركزه الإجتماعي، فالمرفق العام حق دستوري مكفول للجميع بمنطوق الفصل 154 من دستور 2011، الذي كرس “المساواة” في الخدمات الإدارية على حد السواء، بعيدا عن التمييز بسب اللون أو الجنس أو العرق أو اللغة… إلخ

فالواقع يشهد أن الإدارة العمومية تلخص مستوى التقدم الديمقراطي لذا كل بلد، وكيف لا وأن علاقة الإدارة بالمواطن تظل هاجس كل الإصلاحات التي تباشرها الدولة عملا بالمقاربة التشاركية التي تجعل الساكنة في خدمة التنمية الشاملة والمستدامة والتي ينبغي ان تحضى بحماية قانونية لتفعيل هذه المقارب، وهو ما يحيل على عدة إشكاليات، من قبيل هل يعزى غياب الثقة في علاقة المرفق العمومي بالمرتفقين، إلى مدى خضوعها للفراغ التشريعي وغياب التأطير القانوني، حتى أضحت هاته العلاقة تعيش على وقع أزمة قانون؟ أم أن فساد الإدارة العمومية مرده غياب حكامة تدبير وسوء تسيير، حتى جاء الخطاب الملكي لذكرى 18  لعيد العرش المجيد ليشخص الوضع ويوبخ البعض؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقتضي أن تعالج وفق قالب جامع مانع وهو كالتالي:

المحور الأول: مركز المرفق العمومي في التشريع المغربي
المحور الثاني: المرفق العمومي بين الفعالية والمحدودية

.
المحور الأول: مركز المرفق العمومي في النص التشريعي

تشكل المرافق العمومية هوية المجتمع ومرآته ومعيار تقدمه أو تاخره، حتى باتت الفلسفة القانونية للدولة تروم نحو تخليق المرفق العام، وعيا منها بأن تخليق المرافق العمومية هو تخليق للمجتمع برمته، هذا التوجه عبر عنه المشرع المغربي في الدستور الجديد 2011، الذي كرس بموجب الفصل 27 منه، على “الحق في الحصول على المعلومة الموجودة في حوزة الإدارة“، وهو توجه توخاه المشرع بهدف إشراك المواطنين والمواطنات في صنع القرار، ولا يمكن أن يقيد الحق في الإستفادة من المعلومة، إلا وفق حدود مرسومة يقرها القانون، وهو إعتراف سابق من نوعه نحو بناء مغرب حداثي قائم على المشاركة الحقيقية في إتخاد القرار على صعيد كافة المستويات.

فوعيا بالمكانة المرموقة التي يحضى بها المرفق العام داخل النسيج الإجتماعي، نلاحظ أن الوثيقة الدستورية قد عززت من حق الإستفادة من الخدمات التي تقدمها الإدارة بمرونة غير مشروطة، وجودة غير مسبوقة، فأقرت في الفصل 1 “مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة” وهو من المبادئ المتفق عليها عالميا نحو تكريس النزاهة والشفافية، وإلى جانب هذا التنصيص كرس المشرع المغربي في الباب الثاني من الدستور الجديد الحكامة الجيدة، والتي لا يمكن أن تعطي أكلها إلا إذا كانت هناك أربعة شروط، يمكن إجمالها فيما يلي:

أولا: بناء دولة الحق التي تضمن أمن المواطنين وإحترام القانون ‘‘إحترام إستقلال القضاء‘‘

ثانيا: إدارة رشيدة تلتزم تدبيرا حقيقيا وعادلا للنفقات العمومية

ثالثا: المسؤولية والمحاسبة التي تفرض على المسؤولين تقديم الحساب على أعمالهم أمام السكان

ثالثا: وأخيرا الشفافية التي تسمح لكل مواطن بالتنظيم والتوافق لإثبات ذاته وتدعيم موقفه، وبالتالي إسماع صوته من طرف متخذي القرار.

هذه المبادئ التي يرتبط بعضها بما هو تنظيمي وسلوكي وحسابي، أطره المشرع المغربي في ست فصول من الفصل 154 إلى الفصل 160.

فالدستور الجديد أوجب على أعوان المرافق العمومية عند ممارسة مهامهم، الخضوع لمبادىء إحترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة، بموجب الفصل 155 حرصا على تكريس الحكامة المرفقية، وجعل الإدارة إدارة القرب.

وهكذا فإطلاق صفة المواطنة على الإدارة، من جهة هي تشريف وعرفان بإستحقاقها صفة المواطنة، باعتبارها مكون أساسي للوطن الذي ينصهر الكل في خدمته، ومن جهة اخرى إطلاق هذه الصفة كان بمثابة قفزة نوعية ومواكبة جدرية لكل التحولات المؤسساتية التي شهدتها بلادنا، والتي دفعت بالإدارة نحو الإنفتاح على الداخل والخارج وجعلها قاطرة التنمية، وردم كل هوة تبعد بينها وبين المنتفعين بخدماتها.

وفي هذا السياق لابد وأن نتساءل عن الآليات المؤسساتية التي جاء بها التشريع المغربي، بهدف إسماع صوت المرتفقين في علاقتهم بالادارة؟

لقد شكلت مؤسسة “الوسيط” إعتراف غير مسبوق نحو إصلاح المرفق العام وخلق جو يستشعر فيه الجميع أنه تحت القانون، حيث كرست الوثيقة الدستورية هاته المؤسسة، في الفصل 162 لتحل محل ديوان المظالم للإصلاح المؤسساتي العميق الذي يعرفه المغرب.

فمؤسسة الوسيط بمبادرة منها أو بناءا على شكايات أو تظلمات تتوصل بها، تنظر في جميع الحالات التي يتضرر فيها أشخاص ذاتيون أو إعتباريون مغاربة أو أجانب، من جراء أي تصرف صادر عن الإدارة سواء كان قرارا ضمنيا أو صريحا أو عملا أو إمتناع عن عمل يدخل في صميم أنشطتها، والجدير بالذكر أن مؤسسة الوسيط هي مؤسسة مستقلة تتولى في إطار العلاقة بين الإدارة والمرتفقين المهام التالية:

– الدفاع عن الحقوق

– الاسهام في ترسيخ سيادة القانون

– إشاعة مبادىء العدل والانصاف

– العمل على نشر قيم التخليق والشفافية في تدبير المرافق العمومية

– السهر على تنمية تواصل فعال بين الأشخاص، ذاتيون أو إعتباريين، مغاربة أو أجانب فرادى او جماعات، وبين الإدارة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية، وباقي المنشأت والهيئات الأخرى الخاضعة للمراقبة المالية للدولة.

– يطلع الوسيط بكيفية منتظمة رئيس الحكومة عن كل التوصيات التي إمتنعت الإدارة عن الإستجابة إليها، والإجراءات التي إقترح إتخادها، وذلك في إطار إختصاصه سعيا في ترسيخ قيم الشفافية والتخليق والحكامة في التدبير للمرافق العمومية.

وإلى جانب هذه المؤسسة المهمة، كرس المشرع الدستوري بموجب الفصل 167 من الدستور الجديد “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” والتي أحدثت بموجب الفصل 36 من الدستور، حيث أعطت حصانة مهمة للمرفق العام من كل سوء في التدبير، وإستغلال في النفود، وفي ظل ذلك أحدثت “الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ومحاربتها” بموجب مرسوم بتاريخ 13 مارس 2007 تجاوبا مع إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

ونظرا للأهمية التي تحضى بها هذه الهيئة ومدى رغبة المشرع المغربي في الإرتقاء بها، فقد جاء التصدير الجدير لدستور 2011 ببعض التحولات في هذا الصدد حيث تم تغيير إسم الهيئة من ”الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ” إلى تسميتها ب ”الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” راغبا من وراء ذلك الرقي بها لصلاحيات ووظائف أخرى، تتجلى في الوقاية والتتبع ومحاربة الرشوة، حيت تتولى مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان وتتبع تنفيد سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة الفعلية في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادىء الحكامة الجيدة وقيم المواطنة المسؤولة.

وأمام هذه المقاربات التشريعية الهامة والجادة، تظل القاعدة الدستورية حاظرة في تأطير مناخ العدالة المرفقية، بما يضمن المساواة أمام خدمات الإدارة، لكن في المقابل نحن نبحث في غمار الإكراهات التي تجابه المرتفقين في علاقتهم بالإدارة العمومية كان الإحتكام إلى الواقع الذي يشخص الوضع والحال، ليفاجئنا بغياب إرادة حقيقية لتفعيل آليات الحكامة الإدارية عامة والمرفقية خاصة، فغياب الرؤيا الواضحة نحو عمل مؤسسة الوسيط في مهمته التوفيقية بين الإدارة والمرتفقين، يحتاج إلى أكثر من اي وقت مضى، إلى إطار قانوني يوضح المهام ويعزز المقام، ليتسنى لهذه المؤسسة أن تشتغل وفق خطة واضحة مبنية على التدبير بالنتائج والعمل بالمردودية، ومادامت هذه المؤسسة تعمل وفق مقاربة مندمجة، بعيدة عن أهداف محورية تجعل في مقدمة أولوياتها السهر على تخليق المرفق العمومي، فإن الأمر يحيل على “أزمة قانون” تغيب معها نتائج مرجوة وتطلاعات كبرى، كما أن تعزيز صلاحيات مؤسسة الوسيط أضحت حاجة ماسة وضرورة ملحة، خصوصا وأن الوساطة والتوفيق تقنيات بديلة إستطاعت أن تفرض نفسها في الوقت الراهن، إيمانا بأن العدالة التصالحية التي توفرها البدائل القضائية أنجع من المحاكمة العادلة التي يوفرها القضاء الرسمي، فكما تقول الحكمة الفرنسية “تسوية سيئة أفضل بكثير من محاكمة غير جيدة“.

أظف إلى ذلك أن دور “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” يبقى إستشاري فقط، وهو ما يتنافى مع الحيوية التي يحضى بها لمحاربة الفساد الإداري، فتفعيل دور هذه الهيئة رهين بمراجعة الإطار القانوني المنظم لها، لأنه سيمكنها من الإضطلاع بمهامها الموضوعية، وذلك بكل الفعالية المطلوبة، في حين ينبغي أن تحرر هذه الهيئة من أزمة الإطار القانوني الكفيل بها، لكي تكون قادرة على التحري والإحالة على القضاء بدل الإكتفاء بإبداء الراي.

وإذا كانت مهمة النهوض بالمرفق العمومي وتحسين جودته تحتاج إلى تعبئة شاملة يكون المواطن قاعدتها وغايتها الأولى والأخيرة، فإن المقاربة التشاركية، باتت تفرض نفسها أكثر من أي وقت مضى درءا لكل ازمة مستقبلية وتجنيدا لفعالية نموذجية ومسايرة لكل التحولات العالمية.

المحور الثاني: الإدارة العمومية بين الفعالية والمحدودية

لا أحد يجادل في كون علاقة الإدارة بالمواطن هي علاقة تأثير وتأثر، وأن الحاجة إليها تفرضها المواطنة بكل تجلياتها، فالإدارة الخدومة قد تدفع بالتنمية نحو مراتب متقدمة تشجيعا للإستثمار وتعزيزا للثقة، فالمستثمر الداخلي أو الخارجي، لا يمكن أن يكسب إلا اذا إحتضنته إدراة تخدم مصالحه وتعزز تقته، ونفس الشيء بعلاقة المواطن العادي الذي ينبغي أن يستشعر الإنتماء ويفتخر به، كلما كانت الإدارة في صلب الحرص على مصالحه وخدماته.

والجدير بالذكر أن الإصلاحات الإدارية التي باشرتها بلادنا في السنين الأخيرة، فيما يتعلق بالمال والاعمال إستطاعت أن تغطي بعض العيوب التي كان تشوب الإدارة العمومية، بعدما تم وضع “رقم اخأضر للتبليغ عن الرشوة” من أجل البث في الوقائع المبلغ عنها، فتحسين مناخ الأعمال مثلا عرف إنتكاسة حقيقية من قبل بعض مراكز الجهوية للإستثمار، التي كانت تقف عائقا بتعقد مساطرها تجاه المستثمرين، وهو ما دفع المؤسسة الملكية في خطاب 18 لعيد العرش المجيد ان تكشف الستار عن واقع الإدارة العمومية في علاقتها بالمواطن، حيث خصص جلالته مضمون خطابه للأمة معبرا عن الوضعية الهزيلة التي تعرفها الإدارة العمومية، في خدماتها المقدمة ألى المواطنين، فأمام غياب التفعيل لمضامين الفصل الأول من الدستور الذي يربط “المسؤولية بالمحاسبة”. بات المرفق العمومي معقل الفساد وسوء التدبير.

وقد قارن جلالته بين التدبير المبني على النتائج الذي يشهده القطاع الخاص والتدبير غير الجيد الذي يسىء إلى الادارة في القطاع العام، وأمام التعثرات المتلاحقة التي تعرفها الإدارة العمومية في بلادنا تفاقم الوضع وتراجع المسلسل التنموي بحلاقات متوالية.

وقد جاء الخطاب الملكي للذكرى الثامنة عشر لعيد العرش ليلامس الوضع الراهن للإدارة العمومية، مستعرضا الخطوط العريضة لتجاوز أزمة الإدارة العمومية، والتي حصرها نصره الله في خطابه السامي، كما يلي:

– بدون تغيير العقليات

– وبدون توفر الإدارة على أفضل الأطر

– وبدون إختيار الأحزاب السياسية لأحسن النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام

– وفي غياب روح المسؤولية، والالتزام الوطني، فإننا لن نحقق لن نحقق ما ننشده لجميع المغاربة ،من عيش حر كريم .

وأمام هذه الخطوط العريضة يكون جلالته قدم حلولا ناجعة لحل أزمة الإدارة في علاقتها بالمواطن، رهانات تجعل المواطن في مقدمة غايتها ومحور إهتمامها.

.
خاتمة :

وختاما يمكن القول أن “إشكالية المرفق العمومي بين أزمة النص وقانون الأزمة” باتت محط إهتمام رجال القانون والإقتصاد والأعمال، الكل من موقعه نظرا لمكانة الموضوع، وإتباطه العميق بالمشهد التنموي، ولأن تقدم الدولة رهين بنجاعة التدبير الإداري للمرفق العام، بعيدا عن الخلافات الشخصية والمضايقات الحزبية، وإذا كان المشرع الدستوري كرس الحق في الولوج إلىى المرفق العام على قدر المساواة بين المواطنين والمواطنات، إلا أن هذا الحق جابهته جملة من الإكراهات يرجع البعض منها إلى أبعاد مختلفة منها ما يتصل بالفراغ التشريعي لتمكين المواطنين من الدفاع عن حق في المعلومة الإدارية مما ولد أزمة قانون في هذا الصدد، ومنها ما يرتبط بالمواطن نفسه الذي يبخص عمل أعوان الإدارة، ولا يقدره ويطالب بالحق دون الإلتزام بالواجب، الشيء الذي يفرض من أي وقت مضى، أن ينخرط الجميع في تعبئة شاملة للنهوض بالادارة العمومية، وفق مقاربة تشاركية بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني، وجعل الإدارة العمومية تحدي أمام الجميع، الكل يضحي من أجل تحسين آدائها والرفع من خدماتها، فتجربة القطاع الخاص غنية في التدبير والتسيير ولابد من الإستفادة منها في هذا المقام، عملا بالتدبير المبني على النتائج، والتقييم أو التتبع عن بعد، وهي تقنيات عززت من ثقة المواطن في القطاع الخاص لابد وأن ترى النور في القطاع العام من جهة، وفي الإصلاح الإداري من جهة أخرى، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن مركز القطاع الخاص في إصلاح المرفق العمومي.

 

قد يعجبك ايضا