الوسائل البديلة لفض النزاعات التجارية، الصلح نموذجا

 

من إعداد قديري المكي طالب جامعي متخصص في القانون الخاص.

سادت الصراعات بين البشر منذ القدم، فأينما وجد هذا الكائن ذوا النزعة التملكية وحب الجاه والميول نحو السيطرة، إلا ونشأت نزاعاته مع بني جلدته، موازاتا وذلك أيضا يلاحظ أن تطور المجتمع الإنساني هو ما أدى إلى تزايد إهتمام النظم الحديثة بأهمية العدالة وضرورتها في حل النزاعات يوما عن غيره، وخاصة في ظل نشأة الدول والوعي بدورها في السهر على حماية حقوق المواطنين، وحماية العلاقات الإجتماعية والقانونية القائمة وما يترتب عنها من آثار.

وبقدر ما يتطور المجتمع ويتقدم بقدر ما تزداد أيضا أهمية القاعدة القانونية وتتوسع لحماية الحقوق، الشئ الذي يؤدي إلى تكاثر القضايا التي ترفع أمام المحاكم، وما ينتج عن ذلك من تأخر في إصدار الأحكام، مما يعكس إنطباعا سلبيا لدى الأفراد من طول المدة التي يستغرقها النزاع، وكذى التعقيدات المسطرية التي لا تسعف المواطنين، هذا إلى جانب ارتفاع الصوائر القضائية، هذا ناهيك على أنه في كثير من الأحيان يلاحظ عمليا أن الاطراف المتنازعة لا تبدي رغبة في تنفيد الأحكام الصادرة عنها، نظرا لأن العدالة القضائية لما تصدر حكما فإنها لا تأخد بعين الإعتبار مصالح المتنازعين المتبادلة والتوفيقية، وإنما تحاول تطبيق قواعد قانونية مجردة، هذا خلافا للعدالة المبنية على أساس توافقي التي تكون أكثر إيجابية على مجموعة من المستويات، ولعل من أهم الوسائل البديلة لفض المنازعات الذي تجد منبعها من الفكر الإسلامي الحنيف نذكر الثقافة التصالحية الذي يتشبع مجتمعنا المغربي بها، وبالنظر إلى التطورات الإقتصادية التي يعرفها العالم فإن الإحتكام لهذه الوسيلة أضحى أكثر من أي وقت مضى أكثر أهمية في كثير من القضايا الإجتماعية والأسرية والتجارية، لما للصلح من أهداف سامية وفعالة في تحقيق السلم الإجتماعي وضمان تنمية بشرية مستدامة.

فاين تتجلى أهمية الصلح وضوابطه؟ وإلى أي حد يمكن تصور الطرق الممكنة قانونيا لممارسته في المادة التجارية ضمن مقتضيات القانون المغربي؟

 

نظرا لما للصلح من أهداف نبيلة متمثلة أساسا في خلق روح التسامح والتضحية والتعايش بين الأفراد، فقد أولاه شرعنا الحنيف أهمية بالغة ومنحه مكانة سامية ومنه قوله تعالى في محكم كتابه الكريم: “والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين”

في حين نلاحظ أن المشرع الوضعي المغربي سيرا مع غيره من التشريعات المقارنة مثلا فرنسا، مصر، تونس وغيرها من التشريعات المعاصرة فقد اهتموا بوسيلة الصلح، وإن لم تنل حيزا كبيرا ضمن الأحكام العامة للقانون المدني مقارنة بغيرها من الوسائل القضائية الأخرى.

ويعرف المشرع المغربي الصلح حسب الفصل 1098 من قانون الإلتزامات والعقود بأنه: “عقد بمقتضاه يحسم الطرفان نزاعا قائما أو يتوخيان قيامه وذلك بتنازل كل منهما للآخر عن جزء مما يدعيه لنفسه أو بإعطائه مالا معينا أو حقا

 

لما كان الصلح وسيلة لحل النزاع مما يجعله من وسائل الإلتزام، فإن الفصل 1099 من ق.ل.ع يلزم طرفي الصلح بأهلية التفويت بعض الأشياء التي يرد الصلح عليها، إلا أنه لا يمكن أن يسلك الأطراف الصلح في جميع المنازعات، طبقا لما جاء في الفصل 1100 من نفس القانون، بالتالي لايجوز الصلح في المسائل المتعلقة يالحالة الشخصية، أو النظام العام، أو بالحقوق الشخصية الأخرى الخارجة عن دائرة التعامل”

وينتج عن القول أن الصلح عقد فإنه يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط القانونية للتعاقد من رضى وأهلية ومحل وسبب مشروع.

 

إذن، ماهي مظاهر وسائل الصلح ضمن مقتضيات المادة التجارية في القانون المغربي ؟

أولا: تجسيد آلية الصلح من خلال مساطر المعالجة والوقاية من صعوبات المقاولة

طبقا لمقتضيات المادة 550 من مدونة التجارة المغربية، فإن أي مقاولة تجارية أو حرفية تعاني من صعوبات قانونية أو اقتصادية أو مالية تخضع للتسوية الودية، بحيث يتم فتح هذه المسطرة من طرف رئيس المحكمة متى تبين أن اقتراحات رئيس الشركة من شأنها ضمان سيرها والعمل على إبرام إتفاق الدائنين، وهذا ما أكده الفصل 553 من نفس القانون، وطبقا لذلك يعين رئيس المحكمة مصالحا ليقوم بالتوفيق بين الدائنين والمقاولة التي تخضع لصعوبات دون التوقف عن الدفع، وذلك لمدة لا تتجاوز 3 أشهر قابلة للتمديد شهرا على الأكثر بطلب من رئيس المحكمة.

 

ثانيا: تجسيد آلية الصلح في الأكرية التجارية:

 

إن القيام بمهمة الصلح في نظام الأكرية التجارية موكول لقاضي الموضوع، حيث يفصل في كل ما يتعلق بتجديد العقد في المنازعة بين المكري والمكتري، وكذا إجراء الصلح بينهما، طبقا لمقتضيات الفصل 28 من ظهير 24 ماي 1958، حيث يتوجب على المكتري داخل أجل 30 يوم من تبليغه الإنذار إلى القيام بمحاولة الصلح، وفي حالة عدم ممارسة المكتري لدعوى الصلح داخل الأجل القانوني، فإنه يعتبر متنازلا عن حقه في مناقشة أسباب الإنذار والمطالبة بالتعويض، ويصبح بعد انتهاء مدة العقد محتلا للمحل بدون سند ويتعين الحكم بإفراغه، وهذا ما أكدته محكمة الإستئناف بالدار البيضاء (1 ) التي أقرت أن الطاعن يعتبر محتلا بدون حق وسند طالما أنه تقاعس عن القيام بدعوى المصالحة في الأجل القانوني.

ثالثا: تجسيد مسطرة الصلح في العمل البنكي

إن إشكالية استخلاص البنوك لديونها لا يكون دائما بالشكل المطلوب (2) وذلك أنها قد تلاقي العديد من الصعوبات، ولعل لجوء البنوك إلى مؤسسة القضاء يجعلها تسلك مسطرة معقدة وطويلة، مما يدفعها إلى البحث عن حلول أكثر فعالية، ويعتبر الصلح طريقا فعالا لاستخلاص البنك لديونه المتنازع فيها، بحيث يكون اللجوء إلى القضاء بالنسبة للبنك قد لا يحقق له أي مصلحة، ولعل ما يؤكد هذا أن القضايا المتعلقة بالديون قد تصل إلى الباب المغلق، وتنتهي القضية بالزج بالمدين في السجن، وبطبيعة الحال فإن ذلك لن يحقق للبنك أي مصلحة سواء في تعويضه أو حتى في الحفاظ على علاقاته الزبنية التي تنقطع بعد ذلك، مما فرض الوضع على البنوك أن تسلك مسطرة الصلح لاستخلاص ديونها بشكل حبي.

رابعا: إجراءات الصلح في المادة التجارية الدولية

تخضع النزاعات ذات الطابع الدولي تخضع لوسائل التسوية الدولية، وحيث يعتبر نظام المصالحة نظاما مجديا وفعالا لفض النزاعات وخاصة ذات الطابع التجاري الدولي، وقد أصبح اللجوء إلى الصلح في النزاعات الدولية يطرح في الوقت الحالي في ظل زمن أصبحت فيه العولمة تلقي بظلالها على كل الدول، في مقابل إزدياد حجم المنافسة بينها، كما أن عبور القيود التجارية للحدود الوطنية جعلت هذا النظام يفرض ذاته على الساحة القانونية الدولية، كل ذلك دفع لجنة الأمم المتحدة لوضع قانون نموذجي تسير على هديه كل الدول الأعضاء، ولعل المملكة المغربية كعضو نشيط في المجتمع الدولي، وبحكم موقعه الإستراتيجي وانفتاحه الكبير على الإقتصاد الدولي، فقد كان المغرب سباقا للمصادقة على مجموعة من المواثيق الدولية في هذا الصدد (3) كما هو الحال بالنسبة لتسوية المنازعات في إطار منظمة التجارة العالمية، ولعل من أهمها إتفاقية الشراكة التي تجمع المغرب مع الإتحاد الأوربي، من خلال الإتفاق الأورومتوسطي (4)

هذا ناهيك عن العلاقات الثنائية الحرة التي تجمع المغرب بمجموعة من دول الإتحاد الإوربي كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا تشجيعا للإستثمارن وكذى مع دول الإتحاد الأفريقي كالجمهورية التونسية، دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة الأردنية (5)

وبهذا الخصوص فقد إرتكز المغرب في فضه للنزاعات التي قد تقع له مع هذه الدول وحاول أن يخضعها للتسوية عن طريق الصلح وفق مبادئ التراضي.

بالنظر إلى واقع هذه الوسيلة التي يمكن وصفها بكونها ذات فعالية في فض النزاعات التجارية، وذلك بفضل ما تحققه من سرعة وسرية، وهذا هو سر رغبة الإقتصاديين في إخضاع منازعاتهم لهذه الوسيلة.

 

لائحة المراجع المعتمدة:

 

قرار عدد 1977 الصادر بتاريخ فاتح يوليوز 1980، منشور بمجلة رابطة القضاة، العددان 2 و3، ص 221

خالد وردي، الصلح في العمل البنكي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، كلية الحقوق الدار البيضاء س 1998 / 1999، ص13

أشغال الندوة العلمية بفاس، مرجع سابق ص37

ظهير شريف رقم 1.96.79 صادر في 10 مارس 2000، الإتفاق الأوربي المتوسطي الممأسس لشراكة بين المملكة المغربية والمجموعات الأوروبية والدول الأعضاء بها الموقع في بروكسيل في 26 فبراير 1996 منشور بالجريدة الرسمية عدد 4936 ص 2727/2741

ظهير شريف رقم 1.99.179 الصادر في 10 مارس 2000، الإتفاق بشأن التبادل اللحر الموقع في الرباط يوم 16 يونيو 1998 بين الحكومة المغربية وحكومات المملكة الأردنية الهاشمي، منشور بالجريدة الرسمية عدد 4874 ص 439/441

 

 

قد يعجبك ايضا