العدالة الانتقالية بين تحديات الانتقال الديمقراطي وطموحات التنمية المستدامة

الدكتور محمد البغدادي

باحث في العلوم القانونية 

بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة

المملكة المغربية

 

مقدمة:

لاريب في أن العدالة الانتقالية ما هي إلا تعبير صريح عن ركائز المفهوم الجديد للسلطة والأساس التعاقدي الوطني بين مؤسسات الدولة والمجتمع، وكذا شرعية كافة المؤسسات الدستورية وغير الدستورية من أجل تقوية ثقافة الحقوق والحريات الأساسية وضمان التنمية المستدامة من خلال آلية الانتقال الديمقراطي الذي هو أسلوب جديد ومعقلن ورشيد في تدبير الشأن العام وفق منظور التداول السلمي للسلطة والمشاركة السياسية، وهو استكمال لعملية تراكمية مستمرة للتحول الديمقراطي، وذلك تماشيا مع المعايير الدولية والإقليمية ذات الصلة بأحكام القانون الدولي من جهة، وعملا بمنطوق دستور 2011 من جهة أخرى، كما أن العدالة الانتقالية هي مفهوم متداول على نحو واسع في زمننا هذا.

وفي حين تعتبر آلية تتيح ّ تحولا – ً انتقالا– من جهاز استبدادي الذي يوجد فيه حكم للقانون إلى نظام ديمقراطي يحترم حقوق ً الإنسان، إلا أنها ملتبسة جدا سواء من ناحية الفلسفة التي تقوم عليها أو الأساليب التي تستخدمها، والأهداف المعلنة للعدالة الانتقالية هي، في آن ً معا، إعادة الكرامة للضحايا، وبناء الثقة بين الجماعات المتحاربة، وتعزيز التغيرات على مستوى المؤسسات التي يقتضها تحقيق علاقة جديدة بين السكان، من أجل مواكبة حكم القانون، ودون إقرار الممارسات التي ترقى إلى الإفلات الكلي أو الجزئي من العقاب.

ويقصد بالعدالة الانتقالية على أنها تلك الآليات التي من شأنها الانتقال من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي يحترم فيه حقوق الانسان ويضمن التنمية المستدامة. واعتبارا لأهمية ومكانة العدالة الانتقالية في تعزيز وتقوية التنمية المستدامة والنهوض بالاقتصاد الوطني وضمان السلم الاجتماعي، فإن الإشكالية المحورية تتمثل فيمايلي: كيف استطاعت العدالة الانتقالية أن تحقق وتضمن التنمية المستدامة؟

وتحت هاته الإشكالية الجوهرية تتفرع عنها التساؤلات التالية: ما هي المحددات المرجعية للعدالة الانتقالية؟ وما هو دور العدالة الانتقالية في ضمان الانتقال الديمقراطي طموحات التنمية المستدامة؟

ولمعالجة هذا الموضوع، ارتأينا الاعتماد التقسيم التالي:

المبحث الأول: المحددات المرجعية للعدالة الانتقالية

المبحث الثاني: دور العدالة الانتقالية في ضمان الانتقال الديمقراطي وتحقيق طموحات التنمية المستدامة

 

المبحث الأول: المحددات المرجعية للعدالة الانتقالية

معلوم أن العدالة الانتقالية مرجعيات دولية وإقليمية تتمثل في توجه القانون الدولي نحو الإقرار بثقافة حقوق الإنسان وضمان التنمية المستدامة، وذلك في ظل تداعيات الحرب العالمية الثانية، حيث عاشت الشعوب ويلات الحروب وذاقت ظروفا قاسية على كافة المستويات.

وعليه، سوف نتطرق إلى تطور العدالة الانتقالية في المطلب الأول والتأصيل الوطني للعدالة الانتقالية في المطلب الثاني.

 

المطلب الأول: تطور مسار العدالة الانتقالية 

نشأ مفهوم العدالة الانتقالية في ظل الاهتمام العالمي المتزايد بالتصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مرحلة ما بعد الصراعات والنزاعات للانتقال إلى الديمقراطية في صورتها المعاصرة، واتسع مفهوم العدالة الانتقالية ليستوعب العديد من العلوم القانونية والآليات القضائية وغير القضائية، فضلا عن العديد من العلوم غير القضائية، مثل السياسية والثقافية والتنموية والاقتصادية والتعليمية والأخلاقية والتاريخية والفلسفية والنفسية والاجتماعية إلا أن امتد ليشمل أيضا الدراسات الدينية، وبدأ البحث الأكاديمي الحقيقي لهذا المفهوم ويتضح أكثر فأكثر من خلال التغيرات السياسية الحادة في أوروبا الشرقية والانتقال إلى مرحلة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا.

ولقد مر مفهوم العدالة الانتقالية بثلاثة مراحل نلخصها فيما يلي، مع الأخذ في الاعتبار أن مفهوم العدالة الانتقالية مفهوم نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان فما يمكن تطبيقه في زمن ما قد يصعب تطبيقه في بلد آخر بالنظر لاختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية بين البلدان ، وكذلك بالنسبة للناحية  الزمانية لاختلاف مستوى التفكير واختلاف الأجيال وحتى أن مستوى الحقوق والنظر إليها والانتهاكات والتعامل معها يتأثر باختلاف الأجيال وتعاقبها.

ولقد كان للعدالة الانتقالية جذور حتى في العصور القديمة في الحروب التي حدثت بين المدن اليونانية التي دامت 25 عاما رافقها الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان، وبعد انتهاء الحرب جرت مشاورات لتعويض الضحايا والسعي لدفع مخلفات النزاع لعدم الرجوع إلى الحرب. أما العصور الوسطى فإنها تتميز بمسألة مهمة ألا وهي العوامل الدينية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية وعلى مضامين العدالة والقبيلة والدولة بصورة عامة، فقد كان لظهور الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية أثار بالغة على واقع العدالة الانتقالية في تلك العصور.

كما بدأت المرحلة الثانية مع بداية انهيار الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة حيث أصاب أو بيان العدالة الانتقالية، فكان تغاضي كبير عن العديد من الجرائم الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان.

وفي ذات السياق، ظهرت المرحلة الثالثة بعد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية  الخاصة بيوغسلافيا عام 1993، فقد شكل بداية جديد من العدالة الانتقالية ، إضافة إلى تشكيل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في عام 1998.

 

المطلب الثاني: التأصيل الوطني للعدالة الانتقالية

معروف أن المسار الذي تبناه المغرب في مجال العدالة الانتقالية ذهب أبعد من كشف الحقيقة، لينصب على النهوض بها، وهو ما يعني كمفهوم وممارسة متداولة على الصعيد الدولي، مسارا مستمرا ومتواصلا تعكف فيه المؤسسات على تصفية الملفات العالقة، وتعويض الضحايا مع العمل على وضع الأسس الدستورية والقانونية لضمان عدم تكرار ما جرى.

وخلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي برز مفهوم العدالة الانتقالية على الساحة الدولية وبشكل لافت، وقد جاء ذلك تعبيرا عن بداية تراجع الأنظمة التسلطية الشمولية بعد نهاية الحرب الباردة، وكذا الضغط الدولي المتنامي وتنوع الاحتجاجات المنادية بالحقوق السياسية والقانونية في وجه تلك الأنظمة.

وتأتي العدالة الانتقالية بعد فترات العنف والقمع والانتهاكات التي تواجهها المجتمعات، وهي تسعى بذلك إلى معالجة تلك الانتهاكات على الصعيدين القضائي وغير القضائي، وقد تتضمن كذلك برامج لجبر الأضرار وآليات للبحث عن الحقيقة حول الإساءات التي مست المجتمع، ٕ صلاح المؤسسات ٕ واقالة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان من مناصبهم في الإدارة العامة.

وتعتبر المغرب من بين الدول العربية السباقة لتطبيق العدالة الانتقالية من خلال إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة في جانفي 2004 والتي دام عملها حتى جانفي 2006، كما اشتغلت هذه الهيئة على الكشف عن الانتهاكات الجسيمة  لحقوق الإنسان في المغرب في الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999.

 

المبحث الثاني: دور العدالة الانتقالية في ضمان الانتقال الديمقراطي وتحقيق طموحات التنمية المستدامة

يرتبط السلام الدائم ارتباطًا وثيقًا بالعدالة والتنمية واحترام حقوق الإنسان. فقد أظهرت عمليات العدالة الانتقالية مرارًا وتكرارًا أنه يمكنها أن تساهم في معالجة المظالم والانقسامات المجتمعية. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب أن تكون عمليات العدالة الانتقالية هذه محددة السياق ، ووطنية ، وأن تركز على احتياجات الضحايا .وبالتالي، تنجح في ر بط المجتمعات مع بعضها البعض وفي تمكينها وتحويلها بأفضل طريقة ممكنة، فتساهم في تحقيق سلام دائم.  ويعترفا القراران الصادران في العام 2016 بشأن حفظ السلام، أي قرار الجمعية العامة 70/262 وقرار مجلس الأمن 2282 ، بالسيطرة الوطنية والشمولية باعتبارهما أساسيين لنجاح جهود بناء السلام.

وتبعا لذلك، سوف نتناول تناغم العدالة الانتقالية مع التنمية المستدامة من خلال المقرر الخاص بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار في المطلب الأول وانسجام التنمية المستدامة مع العدالة الانتقالية بموجب المفوضية السامية لحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في المطلب الثاني.

 

المطلب الأول: تداخل العدالة الانتقالية مع التنمية المستدامة من خلال المقرر الخاص بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار

أقر التقرير المتعلق بالمقرر الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار أن العدالة الانتقالية ترتبط بأهداف التنمية المستدامة من خلال نهج يركز على الإنسان وعلى الضحايا، حيث يقيّم المقرر الخاص الدور المهم الذي يمكن أن تؤديه عمليات العدالة الانتقالية التي تركز على الإنسان في كسر دوامات العنف وكمحفزات رئيسية للتغيير؛ ويستعرض إمكانات الاعتراف والجبر والتعبئة الاجتماعية والعمليات التي تركز على الشباب لإحداث التغيير وتعزيز الوقاية؛ ويرسم الخطوط العريضة الأولية لإطار عملياتي للنُهج التي تركز على الإنسان إزاء العدالة الانتقالية والتي يمكن أن توجه التزامات الدول في سياق عملية أهداف التنمية المستدامة.

وفي حالات الانتقال من نزاع أو نظام سلطوي، ارتُكِبَت في ظلّه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وانتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني، يركز المقرر الخاص على التدابير التي تعتمدها السلطات المعنية من أجل ضمان الحقيقة والعدالة والجبر وتخليد الذكرى وضمانات عدم التكرار، بهدف:

  • ضمان المساءلة وخدمة العدالة؛
  • تعزيز الحقيقة وتخليد الذكرى بشأن الانتهاكات السابقة؛
  • توفير سبل الانتصاف للضحايا؛
  • إصلاح الإطار المؤسسي والقانوني الوطني وتعزيز سيادة القانون بما يتوافق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة؛
  • ضمان التماسك الاجتماعي، وبناء الدولة، والإمساك بزمام الأمور والإدماج على الصعيدين الوطني والمحلي؛ تعزيز التعافي والمصالحة؛
  • منع تكرار الأزمات وأي انتهاكات مستقبلية لحقوق الإنسان.

 

المطلب الثاني: تبعات التنمية المستدامة على العدالة الانتقالية بموجب المفوضية السامية لحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية

في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من تاريخ عنيف يتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتُكِبَت في سياق ممارسة القمع أو في سياق نزاع مسلح أو غير ذلك من السياقات الأخرى، تبرز تساؤلات بالغة الأهمية تتناول كيفية الاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام. والعدالة الانتقالية هي النظام الذي يسعى إلى بذل كل ما يلزم كي تنجح المجتمعات في التعامل مع مثل هذه الموروثات الصعبة،وتطوّر أدوات مختلفة من أجل تحقيق هذه الغاية.

وبالنسبة إلى الأمم المتّحدة، تغطي العدالة الانتقالية “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة” (المزيد من التفاصيل في S/2004/616). وتهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون (A/HRC/21/46). وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة.

إنّ العدالة الانتقالية متجذّرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. ويقع على عاتق الدول التزام بتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر. ومن أجل الوفاء بهذا الالتزام، وكي تكون العدالة الانتقالية قادرة على المساهمة بفعالية في السلام والمصالحة المستدامين، لا بد من اتباع نُهج شاملة.

وتسعى مثل هذه النُهج إلى إحراز تقدم على مستوى جميع أبعاد العدالة الانتقالية وبطريقة متكاملة. وتشمل عمليات العدالة الانتقالية تقصي الحقائق ومبادرات الملاحقات القضائية وأنواع مختلفة من التعويضات ومجموعة واسعة من التدابير لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، وتقوية المجتمع المدني، والجهود الرامية إلى تخليد الذكرى، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وإصلاح تعليم التاريخ، بحسب اقتضاء واحتياجات كلّ سياق وعلى عمليات العدالة الانتقالية أن تكون:

  • محدّدة السياق: تستند العملية إلى خصوصيات سياق كل بلد، والسياقات السياسية والمؤسسية والقانونية والتاريخ والثقافة والأولويات المحلية، بما في ذلك توقّعات الضحايا ومطالبهم في ما يتعلق بالعدالة والمصالحة وإعادة البناء بعد العنف.
  • وطنية: تمتلك العملية السلطات الوطنية والمحلية، فضلاً عن مجتمعات الضحايا المحلية والمجتمع ككل، وتشارك في تصميمها وتنفيذها، والاعتراف بها، وتعتمدها لفهم إرث الماضي وتركته وبناء رؤية مشتركة للمستقبل.
  • شاملة: تشمل العملية جميع أصحاب المصلحة، سواء أكانوا من الضحايا أم المارة أم مرتكبي الجرائم، بغض النظر عن خلفيتهم السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية، وكذلك المجتمعات المحلية والمجتمع الأوسع، مع التركيز على إشراك مَن يُستَبعَد ويُهَمَّش تقليديًا أو عادةً (الأقليات العرقية والدينية وعديمي الجنسية والنساء والشباب والأطفال، إلخ).
  • محورها الضحية: تعترف العملية بأهمية الضحايا المحورية ووضعهم الخاص عند تصميم عمليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، وتحترم كرامتهم وآرائهم وأولوياتهم واهتماماتهم بالكامل.
  • مراعية للفوارق بين الجنسَيْن: تشرك العملية المرأة في جميع مراحل ومستويات عملية صنع القرار في ما يتعلّق بعملية العدالة الانتقالية والتصدي الشامل لمجموعة كاملة من انتهاكات حقوق الإنسان بهدف تحويل عدم المساواة بين الجنسين، بما في ذلك من خلال التركيز بشكل خاص على الانتهاكات الجنسية والجنسانية وأسبابها الجذرية.
  • قائمة على المشاركة وتمكينية: تضمن العملية المشاركة الفعالة والتشاور مع الضحايا والمجتمعات المتضررة عند تصميم آليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، فتساهم بالتالي في إحداث تحول في تصورات الضحايا والمجتمع الأوسع نطاقًا وفهمهم لوضعهم وأدوارهم كمستفيدين من العملية وكعوامل تغيير في السعي لتحقيق هذا التحوّل والسلام والديمقراطية والمصالحة.
  • تحويلية للمجتمع ككلّ: لا تُفهَم العملية على أنها ممارسة تتطلع إلى الماضي فحسب بل أيضًا كفرصة للتطلع إلى المستقبل فتحقّق تحوّلًا مجتمعيًا جذريًا من خلال تلبية احتياجات الضحايا ومعالجة أسباب الانتهاكات، بما في ذلك التفاوتات الجسيمة وهياكل السلطة غير العادلة والتمييز المترسّخ والإقصاء وأوجه القصور المؤسسية والإفلات الهيكلي من العقاب وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى التي تهدّد السلم والأمن أو تولّدهما. وإذا استوفت عمليات العدالة الانتقالية هذه المعايير، فإنها تساهم في إحداث التغيير الجذري في المواقف الذي تتطلبه التحولات كي تبقى مستدامة. وفي هذا السياق، من الضروري ضمان أوسع مشاركة ممكنة لمنظمات المجتمع المدني في صنع القرار.

 

الخاتمة:

وبناء على ذلك، يتضح أن عمليات العدالة الانتقالية والتنمية المستدامة تساهم في كسر دوّامة العنف والجرائم الوحشية، واستعادة سيادة القانون والثقة في المؤسسات، وبناء مجتمعات قوية وقادرة على وأد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قبل وقوعها. وقد ركّزت قرارات مجلس الأمن على “[…]  أهمية المساءلة في منع النزاعات في المستقبل ،وفي تجنب تكرار الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، وفي تمكين السلام الدائم والعدالة والحقيقة والمصالحة”. كما أنّ العدالة والمساءلة أساسيتان للتصدي لخطر وقوع جرائم فظيعة ومعالجتها )الإطار التحليلي للتنبؤ بالجرائم الوحشية).

وبإمكان كل مكون من مكونات العدالة الانتقالية أن يؤدّي دورًا في منع الجرائم الوحشية والأنواع الأخرى من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان (A/HRC/37/65). فالمساءلة الجنائية تُرسَل إشارة واضحة على أنه ما مِن أحد فوق القانون، وهذه الحقيقة بالغة الأهمية لتحقيق التكامل والتماسك الاجتماعيين. كما أنها تؤدّي إلى تعطيل وتفكيك الشبكات الإجرامية، وتتمتّع بالقدرة على ردع المزيد من الانتهاكات والجرائم. ويوفر تقصي الحقائق للضحايا والمجتمعات المتضررة منصة عامة يعبّرون من خلالها عن آرائهم، كما يمكّن المجتمعات المحلية المختلفة من سماع تصورات بعضها البعض، فيوفّر بالتالي أساسًا موضوعيًا وواقعيًا يسمح بتطوير فهم مشترك للماضي ويؤمّن ركيزة للتوصيات في مجال الوقاية. أمّا جبر الضرر فيساهم أيضًا في الوقاية من خلال الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق وبإمكاناتهم كأداة تحفيزية لتديير ظروفهم.

وضمانات عدم التكرار هي بطبيعتها تطلعية ووقائية. فهي إجراءات محددة تعالج الأسباب الجذرية والفورية للانتهاكات بهدف تجنب تكرارها. وإلى جانب الإصلاح المؤسسي الذي يشمل الإصلاح الدستوري، وإصلاح قطاع العدالة والأمن، بما في ذلك التدقيق، يمكن أن تنطوي الإجراءات المعتَمَدة في هذا الصدد على تغيير في مادة التاريخ وتقديم المشورة لمعالجة الصدمات والأرشفة ومبادرات تخليد الذكرى.

وبالموازاة مع هذه الدينامية الإيجابية التي يعرفها المشهد السياسي والديمقراطي والحقوقي ببلادنا، فإن العاهل المغربي الملك محمد السادس، نصره الله، وجه بتاريخ 6 دجنبر 2024 رسالة سامية إلى المشاركين في المناظرة الدولية حول ” العدالة الانتقالية ” المنعقدة بالرباط تخليدا للذكرى العشرين لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة حول موضوع “مسارات العدالة الانتقالية من أجل إصلاحات مستدامة”.

وفي ما يلي نص الرسالة الملكية التي تلتها السيدة آمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان :”يطيب لنا أن نتوجه إلى المشاركين في هذه المناظرة الدولية، المنعقدة تحت رعايتنا السامية، حول موضوع “مسارات العدالة الانتقالية من أجل إصلاحات مستدامة”، تخليدا للذكرى العشرين لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة. وإن تخليدكم اليوم لهذا الحدث الهام في تاريخ المغرب المعاصر، لهو مناسبة سانحة للتذكير بأهمية ووجاهة هذه المحطة البارزة، التي شكلت منعطفا حاسما في مسار التحول الديموقراطي والتنموي ببلادنا، باعتبارها لبنة أساسية ضمن أسس البناء والانتقال الديموقراطي، وتوطيد دولة الحق والقانون والمؤسسات، وحماية الحريات. وتشكل هذه الندوة، بما تحمله من رمزية تاريخية واجتماعية وحقوقية وسياسية، مناسبة للإشادة بما تم تحقيقه ببلادنا من مكاسب، خلال المسار الوطني للعدالة الانتقالية، التي اعتمدت مقاربة متبصرة ورزينة، تتسم بالشفافية والموضوعية. وهي أيضا فرصة لتذكير الأجيال الحالية والمقبلة، بما راكمته المملكة المغربية من إصلاحات ومصالحات، في إطار من التوافق والجرأة في قراءة تاريخنا وماضينا، دون عقد أو مركب نقص. إن قرارنا بإحداث هيئة الانصاف والمصالحة، استمرارا للهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، التي كان قد أحدثها والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، كان قرارا سياديا ضمن مسار طوعي لتدبير الشأن العام، يقوم على مفهوم جديد للسلطة، وعلى مسؤولية المؤسسات ومحاسبتها، لضمان كرامة كل المغاربة.

وقد كان يهدف أساسا ، علاوة على تحقيق المصالحة الوطنية ومعالجة انتهاكات الماضي، إلى جعل العدالة الانتقالية ضمن أولويات خيار الانتقال الديموقراطـي ؛ حيث تبلورت لدى المغاربة حينها، دولة ومجتمعا ، رؤية استباقية لعمق التحولات التي دخلها العالم نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولأهمية القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ضمن الاختيارات السياسية الاستراتيجية.وقد استندت هذه العدالة الانتقالية في بلادنا على أسس صلبة، منها التاريخية المرتبطة بخصوصية الشخصية المغربية، ومنها المجالية والجغرافية.

وكان هدفها الأساسي الاهتمام بكل الضحايا، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، والانكباب على كل الانتهاكات المرتبطة بحقوق الإنسان، من السنوات الأولى للاستقلال، إلى تاريخ إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة. وهو ما مكن من تحديد وتحليل كافة أشكال وأوجه الانتهاكات التي شهدتها بلادنا في الماضي، كيفما كان نوعها وحجمها، والقيام بالتحريات الميدانية والتحقيقات اللازمة، وتنظيم جلسات استماع عمومية، في المدن والقرى، وأخرى لاستقاء الشهادات، بهدف كشف الحقيقة المتوفرة، وجبر الأضرار الفردية والجماعية، مع مراعاة بعد النوع، وبالتالي تعزيز المصالحة بين المجتمع المغربي وتاريخه.ولعل أحد أكثر الجوانب المميزة للتجربة المغربية، هو انخراط المجتمع المدني، بكل أطيافه، في بلورة وإنجاح العملية، حيث كان لقرار العدالة الانتقالية الفضل في فتح الفضاء العام أمام نقاشات عمومية، وحوارات مجتمعية، حول مختلف الإصلاحات والقضايا الجوهرية

التي تحظى باهتمام الرأي العام الوطني. كما أسهمت العدالة الانتقالية، بمبادراتها المتعددة والمتواصلة، في تعزيز الوعي الجماعي بشأن مناهضة انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تم استخلاص الدروس من هذه التجربة، والتأكيد على ضرورة مواصلة ترسيخ أسس دولة القانون، بما يضمن احترام الحقوق والحريات وحمايتها، ويوازن بين الحق في ممارستها، بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، والتقيد بالنهوض بالواجبـات.

لقد شكلت مسيرة العدالة الانتقالية بالمغرب، تجربة متفردة ورائدة، أحدثت طفرة نوعية في المسار السياسي الوطني، ومكنت من تحقيق انتقال ديموقراطي سلس ومتوافق بشأنه، وإقرار ممارسات فضلى على درب استكمال بناء أسس دولة الحق والمؤسسات. ومن ثم، فقد تسنى من خلال توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي طرحت مقترحات همت أيضا السياسات العامة، فضلا عن التشديد على الحاجة لتعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، وضع إطار ناظم لإصلاحات مجتمعية واسعة، بما فيها الدستورية والتشريعية، وإنشاء آليات تشاورية ومؤسساتية، بهدف القطع مع انتهاكات الماضي، وترسيخ تدبير عمومي يعتمد قواعد دولة الحق والقانون، وإبراز ديناميات مجتمعية متجـددة.

ومن هذا المنطلق، حرصنا على أن نعطي لحقوق الإنسان، في الدستور وفي القوانين وفي السياسات العمومية، مدلولها الواسع، الذي يمتد من السياسي إلى البيئي، مرورا بالاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما أحدثنا المؤسسات والآليات الدستورية الضرورية لحماية حقوق الإنسان في أبعادها المختلفـة.وفي هذا الصدد، كان حرصنا الشخصي، وفي الميدان، على إعمال مفهوم العدالة المجالية في السياسات الإنمائية، ودمج مفهوم ج ب ر الضرر الجماعي في خططنا الإنمائية، ورفع التهميش عن المناطق والمجالات التي لم تستفد من التنمية، بالقدر المطلوب والممكن، ومن عائد التقدم الذي تحققه المملكة المغربية. إن الأمر يتعلق بمصالحات كبرى مع التاريخ ومع المجال.

وأكثر من ذلك، فإن هذا الحرص مك ن عددا من مناطق المغرب، التي كانت تعاني من نقص كبير في التنمية، من تدارك هذا النقص، بل إن من بينها ما أصبح نموذجا في التنمية المجاليـة.

وفي هذا الإطار، يشهد العالم اليوم، والمراقبون الموضوعيون، بثمار النموذج التنموي الجاري تنفيذه في أقاليمنا الجنوبية، في إطار التضامن والتكامل والعدالة المجالية بين أقاليم المملكة. إذ تغير وجه أقاليمنا المسترجعة نحو الأفضل، وأصبحت منطقة جاذبة للاستثمارات، وهي اليوم تزخر بالمشاريع التنموية، والمنشآت والتجهيزات الكبـرى. لقد كان المغرب، بفضل هذه التجربة التي حظيت بإشادة دولية واسعة وتنويه كبير، سباقا لإدخال مفهوم العدالة الانتقالية إلى محيطه العربي والإفريقي، حيث تردد صداها في العديد من بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيـا.

وقد مك ن النموذج المغربي من المساهمة بشكل كبير في تطوير مفهوم وتجارب العدالة الانتقالية، والدفع بها إلى آفاق جديدة، ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل أيضا على المستوى القاري والأممـي. ومع ذلك، فإن ما أنجزناه على طريق صيانة حقوق الإنسان وضمان احترامها، وفي مجال التنمية وبناء المؤسسات الديمقراطية، لا يعني الكمال، ولكنه، كما يشهد بذلك العالم، نموذج ديموقراطية أصيلة ومتأصلة صاعـدة، إننا لنأمل أن تمكن الجلسات المقررة للتداول في المواضيع المطروحة للنقاش، من إبراز الممارسات الفضلى لتجارب دول بما فيها المغرب، خصوصا تلك المتعلقة بالتفاعلات بين مسارات العدالة الانتقالية والإصلاحات التشريعية والمؤسساتية والدستورية، وبأدوار البرلمانات والفاعلين المؤسساتيين والمجتمع المدني في دعم تنفيذ توصيات هيئات العدالة الانتقالية.

وكلنا يقين أن هذا الملتقى الهام سيشكل فرصة لتحديد معالم وجوانب انعكاسات مسارات العدالة الانتقالية في القطع مع انتهاكات حقوق الإنسان، وتفعيل توصياتها، من أجل إصلاحات مستدامة، كعمليتين متداخلتين لحماية الأفراد والجماعات، وصون كرامتهم وضمان حقوقهـم.وفي هذا الصدد، نتطلع لأن تحظى التجربة المغربية بالمكانة اللائقة بها في مناقشاتكم وتحليلاتكم، باعتبارها من ميزات ومعالم تاريخنا السياسي المعاصر، المرتكز إلى عراقة الدولة المغربية، الضاربة جذورها في التاريـخ. وإذ نرحب بكافة الفعاليات المشاركة في هذه المناظرة الدولية، فإننا ندعو الله تعالى أن يكلل أشغالكم بكامل التوفيـق. والسـلام عليكـم ورحمـة الله تعـالـى وبـركـاتـه.”

 

لائحة المراجع:

المقالات:

  • مسعود دخالة، العدالة الانتقالية في المغرب : تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، المجلة الجزائرية للسياسات العامة، العدد7 ، جوان 2015.
  • علي قوق، تجارب العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع، مجلة المعيار، العدد2، ديسمبر 2021.
  • فاطمة بوخاري ، العدالة الانتقالية في القانون الدولي، مجلة الحوار المتوسطي، العدد 11، مارس 2020.
  • رشيدة العام، العدالة الانتقالية في إطار منظمة الأمم المتحدة، مجلة المفكر، العدد14، مارس 2022.
  • الوثائق الرسمية
  • تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية بتاريخ 6 غشت 2009.
قد يعجبك ايضا