الهوية والثقافة المحلية بين المثقف والسياسي
سعيد بنجرادة
باحت في علوم التربية
كاتب رأي
تُشكِّل الهوية واحدة من أكثر الإشكاليات تعقيدًا في الفكر العربي الإسلامي، لا سيما في سياق التفاعل مع الغرب. هذا التفاعل ليس جديدًا، بل بدأ منذ الحروب الصليبية مرورًا بالاستعمار وصولًا إلى العولمة. غير أن تعقيده يكمن في أنه يتجاوز البعد التاريخي ليمس جوهر الكيان الثقافي والاجتماعي للأمم.
يعود نقاش الهوية والخصوصية الثقافية والقيمية للمجتمعات العربية الإسلامية مع التعديلات التي تضعنا أمام اختيارات واضحة بين اتجاه حداثي وآخر محافظ تقليدي.
يشهد المغرب منذ شهور جدلًا كبيرًا في الخطاب حول تعديل مدونة الأسرة. يتمثل هذا الجدل في محور الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين الإسلام كمرجعية ثقافية ودينية والقيم العالمية الكونية التي يدعو إليها الغرب، مثل المساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان.
هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها تشهد فائضًا كبيرًا من الحمق، وهو الصوت الأكثر تداولًا وشيوعًا، بينما يبدو صوت العقل خافتًا. هذا راجع إلى سياسة الميديا، حيث تضفي الأخيرة على الشيء شيئًا من الجاذبية، ولهذا قد يبدو خطاب السطحية أكثر جاذبية من خطاب العقل.
تاريخيًا، معالجة المثقف، لا سيما العضوي منه (بتعبير غرامشي)، هي التي بإمكانها أن تؤسس لغدٍ أفضل. ولنا أمثلة في التاريخ البعيد والقريب والحديث عن مثقفين وفلاسفة صنعوا أممًا وحضارات. منذ العصر اليوناني، نجد أفلاطون من خلال كتابه “الجمهورية” قد أعطى تصورًا عامًا لمشروع سياسي حضاري لكيفية بناء بلدٍ مثالي، وكذلك تلميذه أرسطو، الذي كان معلمًا ومستشارًا للإسكندر وحاكم أثينا، مما أدى إلى ازدهارها في العلوم والمعرفة. هذا جاء، بطبيعة الحال، من الأخذ بآراء المثقف، وليس السياسي الذي يتزعم اليوم خطاب إصلاح المدونة (الحداثي منه والمحافظ).
أيضًا في عصر التنوير، كان لنا أمثلة عدة لفلاسفة ومفكرين، مثل جون لوك وروسو وغيرهما، ممن ساهموا في بناء أمة حضارية للغرب. لم يؤسسها السياسي، لأن الهوية وخصوصية المجتمعات تكون أكثر صراحة وعمقًا عندما يعالجها المثقف، أما عندما يعالجها السياسي، يطغى عليها خطاب الدبلوماسية أكثر مما يعكس عمقًا فكريًا ومعالجة حقيقية للسؤال. فالسياسي يحكمه سؤال قصير النظر لا يكاد يتجاوز: كيف ينجح في الانتخابات المقبلة؟ أما التفكير بمنظور استراتيجي في العلاقات بين الحضارات والثقافات، فهذا ليس من مهامه.
كمثال حي، خرج وزير العدل وهبي لمناقشة وعرض ما توصلت إليه اللجنة المكلفة بإصلاح المدونة، والتي هو عضو فيها. قدم بعض النقاط التي، نوعًا ما، تبدو للحداثيين انتصارًا لهم بنوع من الفخر، نظرًا لانتمائه للحداثيين. لكنها في الواقع نقاط كانت موجودة في المدونة السابقة التي صدرت سنة 2004، مثل إلزامية استطلاع رأي الزوجة أثناء عقد الزواج حول اشتراط عدم التزوج عليها، والتنصيص على ذلك في عقد الزواج. هذه النقطة موجودة في المدونة الحالية (2004)، ويقدمها بنوع من الفخر كأنها مطلب اكتسبه بمعية باقي الحداثيين.
قبل أن نخوض في ثقافة وآراء مثقفينا المغاربة حول إشكالية الهوية بين الحداثة والخصوصية الثقافية والدينية، لابد أن نذكر بقاعدتين أو مبدأين اثنين: أولهما أن الهوية اختلاف، وثانيهما أن النسق الثقافي الذي لا يستوعب الاختلاف محكوم عليه أن يموت.
إشكالية الهوية وعلاقتها بالإسلام والغرب الحداثي تظل تحديًا كبيرًا يواجه المجتمعات الإسلامية، بما في ذلك المغرب، الذي يشهد أحد التشريعات المهمة، وهي مدونة الأسرة، التي ليست إطارًا قانونيًا فقط، بل اجتماعيًا يجب أن يستند إلى أسس فكرية محلية. فماذا قالت ثقافتنا في هذا الطرح؟ وفي ماذا اختلف المثقفون حول الهوية المحلية لمغربنا الكبير؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابد أن نقف عند ثلاثة مفكرين مغاربة فصلوا جيدًا في هذا الأمر: محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، وطه عبد الرحمن.
الجابري: يُعد أحد أبرز المفكرين العرب الذين تناولوا مسألة الهوية في علاقتها بالغرب. يرى الجابري أن إشكالية الهوية في العالم العربي تكمن في علاقتنا بالتراث، الذي يُنظر إليه إما كمصدر قيد يعوق التقدم، أو كمصدر شرعية يُستعمل لمقاومة الحداثة الغربية. بالنسبة للجابري، لا يكمن الحل في رفض التراث أو تبنيه بالكامل، بل في إعادة قراءته بعقلانية.
طه عبد الرحمن: يقدم رؤية مختلفة تمامًا. فهو يرى أن العلاقة بين الإسلام والغرب ليست مجرد صراع بين الحداثة والتراث، بل هي صراع أخلاقي. بالنسبة له، الهوية الإسلامية ليست مجرد مجموعة من القوانين أو العادات، بل هي منظومة قيمية أخلاقية يجب أن تحافظ على استقلالها.
عبد الله العروي: بمفهومه للتاريخانية، يقدم مقاربة أكثر جذرية. فهو يرى أن الهوية والقيم ليست ثابتة، بل هي نتاج تاريخ متغير. يدعو العروي إلى فهم الهوية كمشروع مستقبل، وليس كحنين إلى الماضي.
العروي، إذن، يرى أن المدونة يجب أن تكون انعكاسًا لاحتياجات المجتمع المغربي المعاصر، بعيدًا عن القراءات التقليدية. أما إذا استلهمنا أطروحة الجابري، فيبرز الحاجة إلى قراءة النصوص الدينية المتعلقة بالأسرة بطريقة تأخذ بعين الاعتبار متغيرات العصر. من منطلق طه عبد الرحمن، يجب أن ينبثق أي إصلاح لمدونة الأسرة من القيم الأخلاقية الإسلامية، لا أن يكون مجرد استجابة لضغوط خارجية.
خطاب المدونة والقيم والهوية الثقافية المحلية المغربية يغلب عليه الخطاب السياسي، الذي يؤدي إلى الصراع بين المحافظ والحداثي لأغراض سياسية انتخابية محضة. لهذا، يجب إعادة النظر في هذا الخطاب والنقاش، والانفتاح على المثقفين الذين يقودون القضايا بنقاش عميق يفضي إلى حل المشكلات المجتمعية.