الأفق الفكري للعدالة الانتقالية بالمغرب
د. المصطفى بوجعبوط
متخصص في شؤون العدالة الانتقالية
مدير المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية
مر الاحتفاء بذكرى العشرينية من إحداث هيأة الإنصاف والمصالحة يومي 6 و7 دجنبر 2024 بالبرلمان المغربي، حول موضوع “مسارات العدالة الانتقالية من أجل إصلاحات مستدامة” من تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مناظرة دولية طرحت وجهات نظر مختلفة حقوقية سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية …تعددت الوجهات بتعدد الإشكاليات حول النموذج المغربي للعدالة الانتقالية، وجهات أقرت بنجاح التجربة المغربية في بعدها الوطني والدولي ووجهات أثارت أن العدالة الانتقالية لا تمتلك العصى السحرية لتفكيك جميع مظالم الماضي ووجهات تتمنى أن تصل فقط إلى ما وصلت إليه التجربة المغربية للعدالة الانتقالية.
نحن أمام تعدد المقاربات بتعدد الوجهات الكل ينظر من زاويته.. وهل نمتلك أدوات للنظر من نفس الزاوية.. هناك من يدافع على ما أنجز من زاويته بأهميتها وتحدياتها ويقر بانتهاء العدالة الانتقالية بتقديم التقرير النهائي، وهناك من يدافع على ما هو فيه باعتباره مسؤولا على تدبير المرحلة وتتبعها، وهناك من يوجد خارج السراب … وهناك من يريد أن يفهم ماو قع في الماضي ويتمنى ألا يتكرر ما وقع عبر ضمانات قانونية ومؤسساتها وضعها من يدافع ويدبرها المسؤول عن المرحلة وينتقدها الذي هو خارج السراب…وذلك يلاحظها الذي رسم مسافة بحثية بين المدافع والمدبر والخارج عن اللعبة.
لا شك أن المناظرة الدولية أعادت النقاش حول مستقبل العدالة الانتقالية بالمغرب بعد 20 سنة من إحداث هيأة الإنصاف والمصالحة في ظل التاريخ المعاصر للمغرب، وذلك ما أكده جلالة الملك في الرسالة الموجهة للمشاركين: “..نتطلع لأن تحظى التجربة المغربية بالمكانة اللائقة بها في مناقشاتكم وتحليلاتكم، باعتبارها من ميزات ومعالم تاريخنا السياسي المعاصر، المرتكز إلى عراقة الدولة المغربية، الضاربة جذورها في التاريـخ.”
مخرجات العدالة الانتقالية الذي حضرها الحقوقي والسياسي والدولي والاقليمي…داخل فضاء تشريعي بحضور مسؤولين في الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ورؤساء مجلسي البرلمان ووزراء العدل سابقين وبرلمانين ومنظمات مدنية دولية إفريقية وخبراء وأكاديمين، قيمة مضافة للأجانب ليطلعوا على تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب على مستوى الإصلاحات القانونية والمؤسساتية ومواكبة – وانخراط المغرب في المنظومة الدولية لاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
أمام هذا وما عرفته التجربة المغربية للعدالة الانتقالية من متغيرات فكرية في المجتمع المغربي ومن منجز اتسم بمكتسبات قانونية ومؤسساتية تهدف إلى النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها في بعدها الدولي والوطني.. ولعل الدور الريادي للمجتمع المدني وما لعبه في مسار تجربة العدالة المغربية، وذلك ما أكده جلاله الملك في نفس الرسالة السابقة:” ولعل أحد أكثر الجوانب المميزة للتجربة المغربية، هو انخراط المجتمع المدني، بكل أطيافه، في بلورة وإنجاح العملية، حيث كان لقرار العدالة الانتقالية الفضل في فتح الفضاء العام أمام نقاشات عمومية، وحوارات مجتمعية، حول مختلف الإصلاحات والقضايا الجوهرية التي تحظى باهتمام الرأي العام الوطني.”
ولعل مسار العدالة الانتقالية بالمغرب لم ينتهي بعد، لأنه مرتبط بمواصلة تنفيذ توصيات هيأة الانصاف والمصالحة سواء منها الآنية أو البعيدة المدى أي المستمرة في المستقبل ك: (حفظ الذاكرة، الملفات العالقة، برامج جبر الضرر الجماعي، التعليم، التنمية،…)، وبالتالي، نحن أمام استدامة العدالة الانتقالية من خلال استدامة المنجز مواكبا في استدامة معالجة الملفات العالقة.
هذه المخرجات التي يجب ربطها لما سعى له الفريق العامل المعني بالعدالة الانتقالية ومقاصد هدف التنمية المستدامة +16 إلى تعزيز العدالة الانتقالية باعتبارها جزءا لايتجزأ من خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وهذا الربط يستدعي الاستكمال الفعلي لمبادئ العدالة الانتقالية المغربية من خلال الإنصاف الكامل للضحايا وانخراطهم في رُكب أو خطة التنمية المستدامة.
وبالتالي، فإن مستقبل العدالة الانتقالية مستمر في الزمن لما يُحدث من تغيير وهيمنة وتأثير وتقاطع مع أهداف التنمية المستدامة من خلال إقامة المجتمعات المسالمة في تحقيق العدالة الشاملة (الهدف 16)، المساواة بين الجنسين (الهدف 5)، المساواة (الهدف 10)، تنشيط الشركات (الهدف 17)….إلى جانب تنزيل أسس العدالة الانتقالية على ضوء خطط التنمية لرفع التهميش والاقصاء الاجتماعي للضحايا مع استدامة تقديم الخدمات الصحية والنفسية خوفا من الوصول إلى صدمات إضافية أكثر من السابق.
وبهذا، فإن التفكير في دمج العدالة الانتقالية في التنمية أصبح أمر حتمي بعد المعالجة النهائية للملفات العالقة أو مواكبا لمعالجتها لتحقيق المساواة في المجتمع عن طريق الانخراط أو الاندماج الاجتماعي للضحايا وذويهم…. فالمعالجة أصبحت بمنظار التنمية دون إغفال الانتصاف الفردي عند اعتماد نهج أكثر استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وعليه، فإن هذه الاستراتيجية تسعى إلى دمج بين العدالة الانتقالية والتنمية المستدامة، كيف؟ ومتى؟ ذلك يعود إلى سياسات ونهج الفاعل السياسي ومدى تأثير الفاعل الحقوقي. فالتفاعلات الإيجابية في هذا السياق تحسن تنزيل عمليات العدالة الانتقالية التي تعود بالفضل على الضحايا بشكل خاص وباقي الأفراد بشكل عام، وتهدف العملية إلى إنصاف الضحايا من الأضرار التي تعرضوا لها من انتهاكات وعنف الدولة والاستجابة الفعلية للفاعلين من خلال الممارسة الفضلى والجيدة في معالجة إرث الماضي بشكل دقيق واستدامة تحقيق مطالب الضحايا وذويهم لأجل الشعور الشامل بالانتصاف الفعال.
ما يلاحظ على ضوء الفريق العامل المعني بالعدالة الانتقالية أن أهداف التنمية المستدامة بحد ذاتها لا تشير إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنها تشمل مجالات واسعة يمكن للعدالة الانتقالية أن تحدث تغييرا، بما في ذلك سيادة القانون، والوصول إلى العدالة، والمؤسسات الاشتمالية، والوقاية من العنف، ومكافحة الفساد، والتعليم، والوصول إلى المعلومات، والمساواة بين الجنسين، والمساواة بشكل عام.
غير أن الانتصاف الفعال هو تحقيق الفعالية في استكمال الطي النهائي في معالجة إرث الماضي الذي يعد الضحية محو المعالجة والمجتمع والضحايا محورا التنمية المنشودة من الإقصاء والتهميش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. لإعادة بناء التلاحم الاجتماعي البعيد المدى بتحقيق السلام الدائم من خلال تعاقد جديد ورؤية استشرافية نحو المستقبل.
لكن الانتصاف الفعال هو الذي يواكب معالجة ارث الماضي والوقوف على الحالات المستعصية لأجل الإنصاف وكشف مجريات وأسباب الانتهاك، وبذلك يمكن استدامة الوصول إلى الحقيقة أو إلى المعلومات المرتبطة بالحقيقة الكاملة، ويرتبط هذا بالهدف 10 من أهداف التنمية المستدامة ارتباطا وثيقا بالحق في معرفة الحقيقة في شأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وفي نفس الاتجاه لتعزيز إدارة المعارف، سلط المقرر الخاص “فابيان سالفيولي” المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار الضوء على دور جمع المعلومات وتحليلها ومعالجتها، والدعوة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لإحداث تغيير.(2022/ ص:21).
وصفوة القول، إن عمليات العدالة الانتقالية لها مسار طويل لا يمكن تحقيق جميع الأهداف بشكل مستعجل أو آني بل تتجاوز ذلك خصوصا إذا تم ربط سياقاتها وتفاعلاتها مع نتائج الجبر الجماعي أو المجالي لتنمية بصفة عامة. وبالتالي، فإنها تتطلب تحقيق مجموعة من الأهداف على مدى فترة طويلة حسب الأولويات والإرادات السياسية والاختيارات العقلانية للفاعل السياسي، ….و عليه دعيت الدول من خلال قرار مجلس حقوق الانسان إلى الاعتراف بالطبيعة الطويلة الأجل لعمليات العدالة الانتقالية، ودعم الضحايا في محنة البحث عن الحقيقة والعدالة ووسائل الجبر، وإقامة صلات مع الهياكل الدائمة، مثل نظم العدالة الوطنية والمؤسسات أو الشبكات الوطنية لمنع الفظائع. (A/HRC/51/23 ص: 6). وبذلك يجب الإقرار بدمج نهج العدالة الانتقالية والتنمية في الممارسة السياسية بعد الانتصاف الفعال للضحايا وللمجتمع.