تشريع أوروبي صارم يعيد توجيه مسار الذكاء الاصطناعي : قراءة تحليلية

ياسيــن كحلـي

مستشار قانوني

وباحث في العلوم القانونية

 

شهدت الساحة القانونية الأوروبية مؤخرا تطورا بارزا باعتماد البرلمان الأوروبي لـ “(UE) 2024/1689” الذي يهدف إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي وتحقيق توازن دقيق بين الاستفادة من تقنياته المتقدمة وضمان حماية حقوق الأفراد. ويهدف هذا التشريع الجديد، المزمع تطبيقه بدءا من غشت لعام 2026، إلى إنشاء إطار قانوني موحد لضمان تطوير وتطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي بما يتوافق مع المعايير الأخلاقية والقانونية.

يتألف هذا القانون من ثلاث عشر قسما موزعة على مجموعة من الأبواب تتناول مجموعة متنوعة من الجوانب المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، بدءا من تقديم التعريفات الأساسية وصولا إلى تحديد العقوبات على كل من خالف مقتضيات هذا القانون عند دخوله حيز التنفيذ.

ويحرص هذا القانون على أن يقدم ضمانات قانونية لتكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي آمنة وتحترم الحقوق الأساسية للمواطنين الأوروبيين، كما ورد في ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي. وتشمل الأهداف الرئيسية للائحة بغية تعزيز الابتكار مع مراعاة الآثار الضارة المحتملة لأنظمة الذكاء الاصطناعي. ومن خلال هذه القواعد، تسعى اللائحة ـ القانون ـ إلى تحقيق توازن بين الحاجة إلى التقدم التكنولوجي وبين الحماية الضرورية للمجتمع.

يحدد نفس القانون شروطا دقيقة لتسويق واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المتطلبات التي يجب تلبيتها والالتزامات المفروضة على المشغلين. كما يمنع بعض الممارسات التي تعتبر عالية الخطورة، كالتلاعب بالسلوك الإدراكي وتطبيقات التصنيف الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، يمنع استخدام البيانات البيومترية في تصنيف الأشخاص بسبب مخاطرها الكبيرة. لضمان تنفيذ هذه الأحكام، دعا هذا القانون إلى احداث “مكتب الذكاء الاصطناعي” كهيئة مسؤولة عن مراقبة الامتثال والإشراف على السوق الأوروبية.

يتضمن القانون كذلك نظاما لتصنيف أنظمة الذكاء الاصطناعي بناء على مستوى المخاطر المرتبطة بها، مما يساعد في تحديد الالتزامات ومدى تحقيق الوضوح والشفافية المطلوبين في كل المعاملات موضوعها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. كما يفرض نفس القانون عقوبات صارمة على الانتهاكات، تتراوح بين نسبة مئوية من حجم الأعمال السنوي العالمي للشركة المخالفة أو مبلغ محدد، أيهما كان أكبر. مع احترام حجم الشركات، حيث تخضع الشركات الصغيرة والمتوسطة لعقوبات إدارية تتناسب مع قدرتها المالية.

تغطي أحكام هذا القانون مجموعة واسعة من الجهات المعنية، بما في ذلك الموردين الذين يقدمون أنظمة الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي، بغض النظر عما إذا كانوا مقيمين في الاتحاد أو في دولة غير الاتحاد. بالإضافة إلى ذلك، يشمل القانون المسؤولين عن نشر أنظمة الذكاء الاصطناعي في الاتحاد أو في دولة أخرى عندما تستخدم نتائج الذكاء الاصطناعي داخل الاتحاد. كما تشمل المستوردين والموزعين لأنظمة الذكاء الاصطناعي، والمصنعين الذين يقدمون منتجات تتضمن أنظمة ذكاء اصطناعي تحت اسمهم أو علامتهم التجارية، والممثلين المعتمدين للموردين غير المقيمين في الاتحاد. وأخيرا، يشمل القانون الأشخاص المتأثرين الموجودين في الاتحاد الأوروبي.

سيدخل هذا القانون حيز التنفيذ بعد عشرون يوما من نشرها في الجريدة الرسمية للاتحاد الأوروبي، على أن يشرع في تطبيق التدابير المختلفة على مراحل. سيصبح الباب الأول والثاني ساري المفعول اعتبارا من اليوم الثاني فبراير من العام 2025، بينما ستدخل باقي الأبواب الأخرى حيز التنفيذ في الثاني غشت من العام 2025 والثاني غشت من عام 2026. أما المادة السادسة من هذا القانون والالتزامات ذات الصلة، فستكون نافذة اعتبارا من الثاني غشت من عام 2027. ويهدف هذا التطبيق التدريجي إلى منح الجهات المعنية الوقت الكافي للامتثال للمتطلبات الجديدة.

يعتبر هذه القانون خطوة محورية في تنظيم الذكاء الاصطناعي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث يعكس اهتمام الاتحاد بالتوازن بين التقدم التكنولوجي وحماية حقوق الأفراد. من خلال وضع قواعد واضحة وصارمة، ويتطلع في حد ذاته إلى تعزيز الثقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقديم إطار تشريعي يدعم الابتكار مع ضمان الأمان والجانب الأخلاقي والحقوقي.

يأتي هذا التشريع في وقت يشهد فيه العالم تطورا واسعا وسريعا في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يجعل من الضروري وضع إطار قانوني يضمن استخدام هذه التقنيات بشكل مسؤول. ويعد الاتحاد الأوروبي اليوم من بين الرواد في هذا المجال، حيث يسعى إلى تقديم نموذج يمكن اتباعه عالميا في منحه ضمانات قانونية لتقنيات الذكاء الاصطناعي باعتبارها خدمة للإنسان والمجتمع معا.

ومن خلاله، يظهر الاتحاد الأوروبي التزامه بتحقيق التوازن بين الابتكار وحماية حقوق المواطنين، مع التأكيد على أهمية الشفافية والمساءلة في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتعد هذه الخطوة جزءا من جهود أوسع لتعزيز الحكامة الرقمية وضمان أن تكون التقنيات الحديثة في خدمة البشرية بأكملها.

تأسيسا لكل ما تقدم، يمكن القول بأن القانون الموحد (UE) 2024/1689 للاتحاد الأوروبي المتعلق بالذكاء الاصطناعي نموذجا رائدا في تنظيم تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يعكس التزام الاتحاد الأوروبي بحماية حقوق الأفراد وتعزيز الابتكار في آن واحد. ومن المتوقع أن يكون لهذا الإطار القانوني تأثير كبير على كيفية تطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المستقبل، مما يجعلها خطوة هامة نحو مستقبل رقمي أكثر أمانا وجدارة.

قد يعجبك ايضا