دور الأسرة في بناء السلام العالمي (رسالة إلى من يهمه أمر تماسك الأسرة)
عبد الحكيم السلماني بوعيون
متخصص في الاقتصاد القروي مهتم بقضايا التنمية والتربية والتواصل
تقديم
بعد أن أنهى “رائد” عمله متأخرا، هرع مسرعا ليدرك موعد خروج ابنه من قاعة الرياضة، وبينما هو في طريقه إلى مرآب السيارة اعترضه بشكل خاطف رجل مقنع يحمل سكينا كبيرا ووضعه على رقبته ثم طلب منه أن يعطيه ما يملك. تبادل الرجلان النظرات وبينما حاول رائد أن يستعطفه حتى لا يقوم بفعل متهور نظر السارق إليه باستغراب وقال له “ابن الشريف ؟؟” ثم التفت يمنة ويسرة وفر هاربا. هذه قصة حقيقية (مع تغيير في الشخصيات) قرر فيها السارق العدول عن جريمة السرقة لأنه تذكر والد هذا الشخص الذي أسميته رائد.
إن هذا السارق تذكر شيئا من زمن بعيد، زمن الطفولة حيث كان بيت “الشريف” مفتوحا لكل من هب ودب من أبناء الحي، فحتى الأشخاص الذين يعيشون ظروفا صعبة وليسوا من الأطفال “المؤدبين” كان لهم مكان على مائدة “الشريف” وكانت زوجة الشريف تخدمهم -لأنهم ضيوفها- دون أن تتحرج من مقامهم الاجتماعي، وكانت تغمرهم بحنانها الكبير الذي وسع أبناءها وزوجها وكافة أسرتها وفاض ليسع هذا الشاب الذي عاش طفولة صعبة، لكنه حين لم يجد من يستوعب طبائعه الحادة تحول إلى سارق قاطع طريق. فهذا السارق يعيش مفترق طرق، فإما أن يبلغ به الإقصاء المجتمعي مداه ليدفعه إلى التفكير في الجريمة المنظمة واختطاف الأطفال والتجارة في المخدرات والبشر واقتحام عالم مخيف يعج بترويع الآمنين، وإما أن يتدارك نفسه ويقاوم فكرة الإقصاء المجتمعي ويعود للإحساس بالانتماء إلى هذا المجتمع والاندماج فيه. ويبدو أن نظرته إلى “رائد” أحيت لديه الإحساس بالانتماء عبر ذكريات جميلة كان يتسامر فيها مع “الشريف”، ذلك الرجل الوقور الذي كان يحيي لديه آمال بناء مستقبل زاهر، وكان هو بالمقابل يكن له الاحترام ويضبط نفسه في حضرته فلا ينطق إلا بالكلام اللائق ولا يبدي إلا السلوك الجيد إلى درجة تتعزز ثقته بنفسه ويقتنع بأنه شخص صالح. لكنه حين تلاطمته أهوال الدنيا وكثرة الرسائل السلبية من المجتمع المعززة بالخوف تموقع في خانة “المجرمين” وطوعت له نفسه الإقدام على تهديد حياة الناس بالسلاح من أجل أن يسرق ما يمكنه من العيش بالشكل الذي يرضيه. ولكي لا يواجه خطر الاعتقال يلبس لباس القسوة ويخلي قلبه – عادة – من كل إحساس بالتعاطف، لكنه في هذا الموقف – حين استحضر ذكريات الشريف- توقف ونزع عنه لباس القسوة واختار طواعية ألا يعض اليد التي أحسنت إليه، ولم يؤذ رائد ابن الشريف.
نتحدث الآن عن لحظة “اتخاذ قرار” سيحدد مصير شخص يعيش وضعية تحثه على القسوة ليحصل على أكبر قدر من السيطرة وحالة نفسية أحيت فيه الأمل بالعيش المشترك تدعوه إلى التعاطف والرحمة، وهذان حاجتان نفسيتان يعتبرهما العالم التربوي الأمريكي “بوب سولو” من بين أربع حاجات أساسية غير مادية يبني عليها نظريته في الدافعية الداخلية للتعلم. وسأعتمد على هاتين الحاجتين في هذا المقال لتبيان حيثيات تحقيق السلم العالمي بكونه مسلسلا تعلميا لتحقيق العيش المشترك مع التدقيق في خصوصيات المرأة من حيث ميلها إلى إشباع حاجة التعاطف أكثر من حاجة السيطرة.
بناء العلاقة بين استراتيجات الرحمة واستراتيجيات القهر
قبل الحديث عن الفرق بين الاستراتيجيتين لا بد من توضيح أمر هام وهو الفرق بين مفهوم “الحاجة” التي لا تقبل التفاوض وبين استراتيجية تلبية هذه الحاجة التي تقبل التفاوض ويمكن تغييرها. ولبيان ذلك أضرب مثلا عن حاجة الإنسان للأكل، فحين تمرض معدة الإنسان لا يقول له الطبيب “لا تأكل” لأن الأكل حاجة أساسية لا تقبل التفاوض ولا بد للإنسان من تلبيتها، لكن الطبيب يفاوض المريض حول استراتيجيته لتلبية هذه الحاجة عبر مناقشة المواد الغذائية التي يتناولها وينصحه بترك بعضها وتعويضها بأخرى.
وكذلك الشأن بالنسبة للحاجات غير المادية، فلا يمكن أن نطلب من الإنسان أن يلغي رغبته في التنافس أو أن يعطل أحاسيسه ويلغي رغبة التعاطف، لكن سعينا إلى بناء مجتمع متكافل مؤمن بالعيش المشترك يدفعنا إلى العمل على ترشيد سبل تلبية هاته الحاجات الأساسية. وهنا سأحاول تسليط الضوء على حاجتي
” السيطرة أو التنافس” و “التعاطف” وسبل تلبيتها التي تنتج نوعين مختلفين من الاستراتيجيات يمكن تسميتهما ب “استراتيجيات الرحمة” و “استراتيجيات القهروالسيطرة”.
فمنذ طفولتنا المبكرة نسعى في طلب حاجات أساسية مادية وأخرى غير مادية، فكما أن الطفل الرضيع يبكي حين يحتاج الطعام وحين يحس بالمغص فإنه يبكي كذلك إذا فشل في الحصول على شيء لدى المحيطين به مثل هاتف أبيه أو لعبة صديقه، كما أن طفلا صغيرا قد يبكي لأنه لم يتمكن من التغلب على زملائه في لعبة ما. فبكاؤه نتيجة عدم تلبية حاجة ” التنافس”
والحاجة الثانية هي الرغبة في التعاطف، وهي التي تجعل الطفل يتألم لبكاء أمه أو يتعاطف مع شخصية كرتونية تتعرض للأذى وغير ذلك. فهاتان الحاجتان هما محركان للفعل الإنساني في اتجاه بناء علاقات إنسانية فعالة (أو تحطيمها) سواء في الحياة الأسرية أو الحياة العامة.
فإذا حاولنا قراءة المثال الذي ذكرته في بداية المقال على ضوء ما ذكر نجد أن السارق لحظة اتخاذ القرار تجاذبته الرغبة في السيطرة كحاجة أساسية يترتب عنها ضبطه لمصادر دخله وقدرته على استيفاء حاجياته المادية وتأمين مستقبله والظهور بمظهر لائق في المجتمع (بعد إزالة القناع) واختار استراتيجية السرقة كسبيل لذلك. لكن هذه الاستراتيجية تتعارض مع ما يقتضيه تلبية حاجة التعاطف مع أبناء المجتمع ومبادلتهم الإحسان بالإحسان، وكان وقع هذا التعارض قويا عليه لدرجة أنه فر هاربا من المشهد.
إن اعتماد الإنسان استراتيجية معينة يعتمد على نظرته إلى الآخر وتكوين “تمثل” عنه. فهو إما جزء منه يحس بآلامه وفرحه وإما “براني” يتنافس معه في الأسواق والحياة العامة، وبين هذين الموقعين مواطن تتمازج الحالتين. ولنا في مثال الرياضات التي تنظم في عصرنا خير مثال، حيث يتنافس فيها الطرفان بشراسة لكنهما بعد اللقاء يبديان “الروح الرياضية” فيتصافحان، وهكذا يظهر مجال جديد للتنافس وهو القدرة على تجاوز أخطاء الآخر والقدرة على التسامح بل والقدرة على إبداء التعاطف مع الآخر من قبيل تقديم الإسعافات أو مواساته بعد الهزيمة. وكلما حل التعاطف في بناء العلاقة كلما اختلفت نظرة الإنسان إلى “الشريك المنافس ” بشكل إيجابي. وحل عنصر “الثقة” في بناء العلاقات الإنسانية فكان أدعى لاستمرارها في شتى الميادين. فتحل صورة “الشريك” بدل صورة “المنافس”. وإني أستشعر في هذا المقام، حكمة تلك المقولة التي كانت ترويها جداتنا حين تحكي لنا أحجيات قبل النوم، حيث يسأل أحدهم شخصا مجهولا “آنت عدو أم حبيب؟”، فمعرفة الآخر يحدد تموقعك منه ويحدد استراتيجيتك في التعامل معه إما بالحذر أو بمد جسور التعاون.
التموقع حسب المسافة الاجتماعية
حين وضع كريستوف كولومبوس رجله على أمريكا استقبله الهنود الحمر بما اعتادوه من حفاوة الاستقبال، لكنه صدمهم بمنطق عدائي قائم على استراتيجية القهر مع صمم اجتماعي حيال كل ود يقدم من الطرف الآخر. فولد لديهم “صدمة الإحباط” التي تنقل الإنسان من حالة السلم إلى حالة الحرب وتبدل الثقة بالخوف والحذر. لهذا جرت عادة الإنسان أن يتموقع من أخيه الإنسان بين الحذر والثقة، فيغلب عنصر الحذر في تعامله مع الغرباء إلى أن يتبين معدنهم. وهكذا يتموقع الإنسان بحسب المسافة الاجتماعية التي تربطه بالآخر وبحسب نظرته للآخر وكذا مدى استعداده لركوب المغامرة.
نعم فالمغامرة جزء من استراتيجياتنا لبناء علاقاتنا اليومية كبشر لأن التموقع من الآخر أمر ظني يحدده المرء حسب تجربته في الحياة، وبما أننا لا نعلم الغيب فإننا نعيش مغامرات يومية، فحين تضع جسدك بين يدي طبيب جراح فأنت تغامر… وحين تسلم ولدك لمعلم ليربيه فأنت تغامر…و حين تصوت على مرشح سياسي ليدبر شؤون المجتمع فأنت تغامر…وحين تشارك معلومات على الأنترنيت فأنت تغامر…
وحين تختار العيش في بلد ما فأنت تغامر…وحين تفتح بيتك بغرفه وبيت نومك وحمامك لشخص ما فأنت تغامر، كما أنك حين تقرر إغلاق بيتك أو إحدى غرفه أوبيت نومك أوحمامك في وجه شخص ما فأنت تغامر…
وخلال حياتنا نتعلم أن لبناء العلاقة تكلفة وربحا، ونتعلم كيف نقدر الأمور وأن نتخطى حالة “الخوف من الآخر” إلى “مد الجسور” حسب قراءتنا للواقع. ولما كان الحذر داعيا إلى التباعد وأن الإنسان لا بد له من بناء علاقات مجتمعية، كان لزاما عليه أن ينشئ عنصر الثقة بشكل من الأشكال إما عبر استراتيجية القهر أو الرحمة. ولتبيان ذلك نذكر مثالا متطرفا من عصابات المافيا، حيث تلجأ إلى التصفية الجسدية كعقاب لكل من يخرق عنصر الثقة، وبالتالي يتعلم الإنسان الذي يعيش في هذا الوسط كيف ينتج “الثقة” تبعا لاستراتيجية قائمة على وازع بدائي قوي متجذر في البنية الذهنية للإنسان وهو “الخوف” الذي يجتمع فيه الإنسان مع الحيوان.
وهذا المثال يعتبر متطرفا جدا حيث لا يسود إلا في المنظمات السرية التي تلجأ للاغتيال كخيار للسيطرة. وهذا الخيار لا يبني علاقات مستدامة بين البشر، لأن لكل فعل ردة فعل. وأن استراتيجية القهر تولد ردود فعل قائمة على الخوف المطلق وانعدام الثقة النابعة عن الاحترام أو المحبة. وهنا يكون التمثل عن الآخر خاليا من أي تقدير فيتأثر تبعا لذلك تقديره لنفسه، والناس مختلفون من حيث حساسيتهم للتقدير الذاتي وقدرتهم على التفاعل المجتمعي في غياب التقدير الذاتي. فكلما ارتقى الإنسان وأدرك سر وجوده كلما زاد ارتباطه بالتقدير الذاتي وصار يرفض كل علاقة تنتهك كرامته. وبالتالي فهو يتعامل إيجابيا مع الإكرام أكثر من القهر. وبالمقابل فإن الإنسان المتعايش مع ثقافة الاستعباد يستجيب أكثر مع استراتيجية القهر نظرا لضعف تقديره لذاته. وصدق المتني حين قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقد علم الأنبياء البشر -عبر العصور- بناء استراتيجياتهم استنادا على رهان رقي الإنسان ورفع قدرته على استشعار الحاجة إلى التعاطف عبر تذكيرنا أننا خلقنا من نفس واحدة. وجاؤوا بشرائع تنظم حياة الإنسان في منزله وفي التجارة وفي السياسة لتشكل مسلسلا تربويا يرتقي بالإنسان نحو العمل لله وحده، وليس خوفا أن نفاقا اجتماعيا.
وهذا التراكم التاريخي جعل المجتمع الدولي أكثر إنسانية من عصابات المافيا، حيث يسوده اعتراف بالقيم وكثير من العاملين في منظماته يحملون تعاطفا مع المستضعفين. كما ساهم انفتاح الناس على بعضهم إلى تعارفهم أكثر، وكلما تقلصت المسافة الاجتماعية بين البشر كلما كانوا أقدر على بناء علاقات الود بدل الصراع. ويمكن أن نصنف أربع مستويات لمجال بناء العلاقة على أساس الرحمة بحسب هاته المسافة الاجتماعية:
- المستوى الصفر للتراحم: العلاقات الدولية حيث يكون الوصول إلى السلام والتخفيف من أثر الصراع أكبر الأهداف على الإطلاق
- المستوى الأول للتراحم: العلاقات العامة في مجالات السياسة والتجارة والمجتمع المدني حيث إحلال السلام هو منطلق بناء العلاقة، لكن المكاسب المادية تظل طاغية على الهدف من العلاقة.
- المستوى الثاني للتراحم: الأقارب الذين ترثهم ويتوجب عليك التكفل بهم تبعا لذلك، وتكون العلاقة معهم مفعمة بالأحاسيس وتدبيرها أكثر تعقيدا
- المستوى الأعلى للتراحم: الأسرة الصغيرة التي تعتبر موطن الاستمتاع بحياتك والتي تقوم أصلا على مبدأ الإكرام
النظام الدولي: موطن أصلي لاستراتيجية القهر
لقد عرف الفكر البشري تطورا من حيث الجنوح للسلم، فبعد حروب طاحنة، قرر المجتمع لدولي أن ينشئ علاقات سلمية في إطار نظام عالمي، لكن بناء هذه العلاقات كان قائما على قدرة القوى العظمى على قهر القوى الأخرى والسيطرة عليها، فنشأت توازنات أعطت حقوقا غير عادلة (مثل حق الفيتو وشروط التمويل وغيرها) حيث لا يتمكن الطرف الأضعف من تغيير موازين القوى، لكن رغبته في السلام تدفعه إلى قبول شروط الطرف الآخر القوي، وهنا تم إنشاء عنصر الثقة -بشكل خالص- عبر استراتيجية القهر.
ولأن الإنسان كائن عاطفي فإنه يغلف هذه الصورة الجافة للعلاقة بأشكال من المجاملة الدبلوماسية ففي المجال السياسي مثلا دأب الملوك من قديم الزمان على تقديم الهدايا كرسالة سلام بين الشعوب، بل قد يلجأ الملوك إلى المصاهرة من أجل الحصول على سلام دائم، وهنا يحدث تصادم بين منطقين مختلفين “المنطق الأسري ” القائم على المحبة، والمنطق السياسي القائم على المصالح. وعبر التاريخ هناك من نجح في التوفيق بين المنطقين فعاشت الأميرة مع الأمير في حب ووئام وهناك من غلب منطق المصلحة فخرق السلام الأسري وتحولت حياة العائلة الحاكمة إلى تعاسة وإحساس بالأسر بدل الإكرام.
العلاقات العامة في الوطن الواحد
لعل أكبر اختلاف بين العلاقة بين أفراد الوطن الواحد وبين أفراد المجتمع الدولي أن أبناء المجتمع الواحد في حالة التهديد الخارجي يتجندون جميعا للدفاع عن بلدهم، وهذا يعطيهم إحساسا بالانتماء ويجعلهم ينظمون مجالهم المشترك وفق هذا الإحساس فيكون لهم نظام تعليمي وطني ونظام صحي وطني ونظام جبائي وطني وغيرها من النظم التي تعزز الإحساس بالانتماء وتقلص المسافة الاجتماعية بين أبناء الوطن فيكونوا أقدر على بناء علاقات قائمة على استراتيجة الرحمة والتعاطف من غيرهم من سكان العالم الغريبين عن بعضهم.
فكلما ازدادت معرفة الناس ببعضهم وأصلهم وطبائعهم كلما ارتقى مستوى الحافز، فبدل الخوف من الآخر نجد أن الناس يكرمون بعضهم حتى لا يخسروهم كشركاء وحرصا على سمعتهم ومكانتهم الاجتماعية. وفي هذا المقام يتعلم الإنسان أن إخلاله بعنصر الثقة لن يعرضه للقتل (كما في مثال المافيا) بل قد يعرضه لخسارة سمعته وزبنائه وتجارته ومورد رزقه. فإذا كانت استراتيجية بناء العلاقة في المستوى الأول قائمة على وازع الخوف كليا ففي هذه الحالة تقف الاستراتيجية في موقف وسط بين الخوف والرغبة في الانتماء والتقدير وهي مرتبطة بمستوى القرب من الطرف الآخر.
وإذا ازداد رقي العلاقة، ارتفع مستوى الحافز حسب هرم ماسلو إلى أن نجد مثلا شخصا صالحا في منصب حساس لا يقدم على خرق ثقة الشعب وينفق وقته في تغليب مصلحة المواطنين ولو على مصلحة نفسه -رغم أنه لن يتعرض للعقوبة فليس أحد مؤهل للاطلاع على نيته، لكن احترامه لنفسه يمنعه من ذلك.
الأقارب الذين ترثهم ويتوجب عليك التكفل بهم تبعا لذلك
هذا المستوى الثالث يتضمن دافعا أقوى للإحساس بالآخر بحيث أن الجد المشترك يذكر الإنسان بعنصر الخلق من نفس واحدة. وفي الحديث الشريف “لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” إشارة إلى أن العلاقة بين الوارث والموروث تزيد درجة -من حيث التكافل- عن العلاقة مع باقي أفراد المجتمع. ودافع الانتماء فيها أقوى. بل إن الفقه الإسلامي فرض إلزامية الإنفاق على القريب الذي لا معيل له، فقد جيء بطفل إلى عمر ابن الخطاب لم يجدوا له معيلا، فجعله تحت كفالة أقرب شخص إليه، فقرن حق هذا القريب في ميراث هذا الصبي إذا توفي بواجبه في الإنفاق عليه في حال حياته. واستنبط هذا الحكم من الآية الكريمة: “وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ” (البقرة 233).
وقد طور المجتمع عبر العصور العديد من آليات الذكاء الاجتماعي التي تحافظ على توازنات هذه العلاقات المعقدة بين الأقارب عبر أعراف تزخر بها الحياة الاجتماعية وتنظم آداب التزاور والمناسبات وكفالة اليتيم ونصرة المظلوم والأخذ بيد الضعيف وغيرها.
الأسرة موطن أصلي لاستراتيجية الرحمة
إن تموقع الإنسان الطبيعي في علاقاته الأسرية متسم بالطمأنينة والألفة والراحة، وهنا لا نتحدث فقط عن ارتقاء درجة الإحساس بالآخر بل إن إدراك الإنسان لمتعة الحياة يكون أقوى من خلال أسرته وكذلك إدراكه لصعوبات الحياة يكون أشد من خلال أسرته. ومن بديع ما ذكر في هذا المعنى ما رواه سهل بن عليّ: كنتُ أُلازم خير بن نعيم القاضي، وأجالسُه، وأنا يؤمئذٍ حديث السنّ. وكنتُ أراه يتّجر في الزيت، فقلت له: وأنت أيضا تتّجر؟! فضرب بيده على كتفي ثم قال: انتظر حتى تجوع ببطن غيرك، فقلت في نفسي: كيف يجوع إنسانٌ ببطن غيره؟ فلمّا ابتليتُ بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم.
فالعلاقة داخل الأسرة تختلف جذريا عن العلاقات العامة، فهي مبنية في الأصل على استراتيجية الرحمة، حيث يبحث الإنسان عن الأمان والألفة وليرتاح من حالة الطوارئ التي تفرضها الحياة العامة من ضغوطات وتوتر. فأمام تحديات بناء العلاقات في الحياة العامة يوجه الإنسان سلوكه إلى الاحتماء منها بينما داخل الأسرة يسعى إلى الاحتماء بها. وقد أبدع الفقهاء المسلمون في التعبير عن هذا التمييز عبر القاعدة الفقهية التي تنص على أن “الأصل في المناكحات المكارمة عكس الأصل في البيوع الذي هو المشاحة”.
وإني أتعجب من محاولات البعض في زمننا إقحام “استراتيجيات السيطرة” في العلاقات الأسرية عبر سن قوانين تستفز الرغبة في التنافس بين الزوجين بدل تعزيز الرحمة بينهما. فمن خلال ذلك سندفع الأسر إلى حالة من ارتباك المعايير المفضي إلى عدم الكفاءة في بناء علاقة سليمة ونجعلها أقرب إلى الطلاق منها إلى الدفء الأسري. بينما الزوجان في هذه الحالة أحوج ما يكونا إلى التذكير بأصل علاقتهما المبني على المودة والرحمة التي تكفل الله عز وجل بزرعهما بشكل خاص بين الزوجين.
وفي هذا السياق أعود للقصة المذكورة آنفا لأقف عند جزئية هروب السارق من المشهد بعد أن تعرف على جاره القديم ابن “الشريف”، وأتساءل عن سبب هروبه بدل الوقوف ومعانقة جاره القديم واستذكار الذكريات الجميلة؟
والجواب أنه حينها عاش حالة ارتباك تتلاطمه حوافز متناقضة، فهو لا يقدر على القيام بأي سلوك لبناء علاقة فاحتاج إلى خلوة مع نفسه ليعيد ترتيب توازناته الداخلية.
وقد نستعين بهذه الملحوظة لإيجاد حلول للأثر الناتج عن تسلل استراتيجيات “السيطرة” إلى الأسرة الذي يؤدي إلى ارتباك معايير بناء العلاقة عبر جزئية “الهروب من المشهد”، فتكون أفضل نصيحة لمن يمر من هذه الحالة من الأزواج هو أخذ مسافة تمكنه من الخلوة بنفسه ليعيد بناء توازنات علاقته مع الآخر. وفي هذا السياق يعطي الممارسون في الوساطة الأسرية مثالا جميلا حيث يمثلون هذه الحالة بكأس ماء به تراب في حالة اضطراب ويقارنوه بحالته حين يمضي وقت من السكون ويترسب التراب فيصير الماء أصفى، فيكون أصلح للانتفاع به.
خصوصيات المرأة من حيث تلبية حاجة التعاطف ( وليس الذكر كالأنثى)
في إحدى الدراسات النفسية التي قامت بها جامعة هارفرد تمت دراسة الحوار الذي ينشأ بين الأطفال حسب جنسهم، وفي كل مرة كان يتم إدخال طفلين لا يعرفان بعضهما من نفس الجنس إلى قاعة الجلسة، فكانوا تارة يدخلون ولدين وتارة يدخلون بنتين ثم يتم تحليل الحوار الذي ينشأ بينهما والبحث عن الاختلاف بين الذكور والإناث. وكان من بين النتائج أن طبيعة الحوار يبدأ بين البنات عبر إيجاد النقاط المشتركة، كأن تقول البنت لزميلتها آه لون فستانك وردي، أنا أيضا لدي فستان بهذا اللون… بينما الأطفال الذكور يبحثون عن التمايز بينهما، كأن يقول الطفل للآخر حذاؤك هذا من ماركة كذا، حذائي أصلب منه وأقوى… وهكذا يبحث الذكور فطريا عن المواطن التي تعزز قدرتهم على التنافس بينما تميل البنات فطريا للبحث عن النقط المشتركة لتعزيز كفاءتهم في التعاون. وهذا متلائم مع طبيعة الذكور في عالم الحيوان عموما حيث يتصارع الذكور بشكل فطري ويشكل ذلك عنصرا من عناصر انتقاء الأنواع.
وهنا تجدر الإشارة إلى عنصر خفى مرتبط بكون بناء استراتيجيات بناء العلاقة عند الإنسان مسلسلا تعلميا تراكميا. فبالنسبة للأطفال الذكور، فإنهم يكبروا في أجواء مفتوحة على مجالات التنافس ويلبون ميلهم الفطري عبر مختلف مراحل طفولتهم المبكرة وهنا يتعلمون مآلات وحدود التنافس حيث يتصارع الطفل مع ولد أقوى منه فيتعرض للأذى فيدرك حدود المضي قدما في استراتيجية التنافس، كما أنه قد يصارع من هو أضعف منه فيكون أقرب لإزهاق روحه فيتم لومه على ذلك فيدرك حدودا من نوع آخر للتنافس. ومعلوم أن الطفل يتعرض خلال حياته لمثل هذه المواقف بكثرة، فيتعلم منها كيف يضبط سلوكه ورغبته في السيطرة.
أما بالنسبة للإناث فإن طفولتهن تكون أكثر سلمية، وألعابهن أكثر ميلا إلى التأليف منها إلى المنافسة ويخترن رياضات غير عنيفة، وكل هاته المحطات تذكرهن بالعيش المشترك واندماجهن في الفريق أكثر من البحث عن أسباب الغلبة. فهذا المسلسل التربوي يهيأ المرأة فطريا لتكون الدعامة الكبرى للدفء الأسري عبر تجميع أفراد الأسرة مهما كانت خلافاتهم، فهي ميالة إلى التفاعل مع حاجة التعاون أكثر من التنافس. لكنه في المقابل يجعلها أبعد عن فرص تعلم حدود التنافس فتكون قدرتها أضعف -في الخصومات- على إدارة مشاعرها وتقدير موقعها وتبيان موقفها. وهذا يفسر الصراعات الطاحنة التي نشأت منذ قديم الزمان في بلاطات القصور بين النساء، فرغم أنهن لا يشاركن في الحكم بصفة مباشرة إلا أنهن عبر العصور قمن بممارسات بشعة في كثير الأحيان، فهناك نساء سجن أولادهن أو قتلنهم في سبيل تنفيذ خطة رسمنها، لكنهن بذلك يفقدن جزءا كبيرا من شخصيتهن المتسمة بالعطف والحنان. وتفسير ذلك أنهن وجدن أنفسهن في مقام التنافس والسيطرة دون أن يخضعن لمسلسل تعلمي ينمي إدارة السلوك والمشاعر أثناء تدبير استراتيجية السيطرة. وهذا يبين الربط الذي جاء في كتاب الله بين التربية في الحلية وضعف الكفاءة في الخصام، في قوله تعالى:
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) (الزخرف)
فمهمة الملائكة تقتضي البيان لمن يخاصمهم من أصحاب النار وهي مهمة عسيرة، فمن لم يزحزح عن النار سيحاجج الملائكة ويطلب منهم طلبات، لكن الملائكة يفعلون ما يؤمرون ويقدمون حججا مبينة مثل ما جاء في الآية “ألم ياتكم نذير؟”، وهم منزهون عن الذاتية والمجاملة والانتقام كما يفعل البشر. والآية تربط عدم البيان في الخصومة بالتنشئة في الحلية التي يقتضيها تكريم البنت وتدليلها واحترام خصوصياتها الأنثوية.
غير أن المنهجية التي ظهرت اليوم في شكل خطة “تمكين المرأة” التي تسعى لرفع قدرتها التفاوضية هي في الحقيقة أكبر ضربة توجه للمرأة حيث تدفعها إلى اقتحام أدوار مجتمعية في مجال ضعف كفاءتها (مجالات التنافس). فالمرأة -حسب المختصين- تبحث في العلاقة الزوجية عن الحماية بشكل كبير، لكنها لن تحصل عليها إذا عززنا لديها الحس التصادمي.
وبالإضافة لذلك يكبر الأطفال داخل الأسرة في جو تنافسي فتقل فرصهم لتشكيل تمثل جيد عن العالم من حولهم بأنه عالم تسوده الرحمة، وتكثر فرص نشأة جيل يعتقد أنه يعيش في عالم رهيب يأكل فيه القوي الضعيف فيطور استراتيجيات دفاعية احترازية تعزز السلوك العدائي بين البشر.
خطورة انعدام الدفء الأسري على السلام العالمي
قد ينساق البعض مع دعوات غير بريئة في الدعوة إلى إلغاء كل أشكال التمييز بين الجنسين اعتقادا منه أنه يحقق العدل، لكن ذلك أكبر جريمة في حق المرأة أولا ثم في حق المجتمع ككل عبر إفقاده الكثير من قدرته على التراحم والتكافل والتعايش، ففي المثال الذي ذكرت في المقدمة وقف السارق أمام قرار مفصلي: إما أن يمضي كجزء من عالم متوحش يأكل فيه القوي الضعيف أو يعيد الثقة في إمكانية اندماجه في العيش المشترك المسالم بين البشر، وقد كان لذكريات طفولته المشبعة بالحب والحنان الذي فاض عن أسرة “الشريف” ليشمله وأقرانه الكلمة الفصل في اتخاذ قرار عدم الاستمرار في إيذاء الآخرين.
ويقف عبر العالم ملايين البشر في مفترق طرق متشابه، فهناك دبلوماسيون تتجاذبهم مواقف التصعيد السياسي ومواقف لين الخطاب وإيجاد أرضية مشتركة للحوار…
وهناك تجار تتجاذبهم مغريات الربح السريع على حساب الجودة وخصوصا في المواد الغذائية التي تمتلئ بمكونات تهلك صحة الناس
وهناك إداريون تتجاذبهم مغريات ركوب أمواج مصالح اللوبيات الكبيرة على حساب مصالح أبناء المجتمع والفقراء من الصناع والفلاحين والتجار الصغار
وهناك ممارسون تغريهم الأرباح التي تحققها البرامج الإعلامية والألعاب الإلكترونية التي تنشئ أجيالا مسلوبي الإرادة وتحقق أرباحا خيالية مقارنة مع البرامج الهادفة.
ويمكن ذكر كثير من الأمثلة في هذا السياق، ولا نجد من وازع ينحى بكل هؤلاء البشر إلى سلوك التعاطف وتغليب المصلحة العامة أفضل من رصيدهم من الحنان والعطف الذي رضعوه في حليب أمهاتهم ودفء حياتهم العائلية حيث يقف سدا منيعا دون انزياحهم لاختيار استراتيجيات القهر بدل الرحمة.
صحيح أن قراءة الواقع تبين أن مجتمعاتنا تعاني من ارتباك في “التوازن العلاقاتي” نظرا لتعقد العلاقات بين البشر وتداخل منطلقات بناء العلاقة التي تتأرجح بين تلبية رغبة التنافس تارة ورغبة التعاطف تارة أخرى، فنرى كثيرا من السلوكات “المقنعة”، حيث يظهر المرء التعاطف من أجل تحسين صورته أمام الناس بينما هو يخدعهم مثل السياسي الذي يدعي العمل للمصلحة العامة وتجده يبيع أصول الدولة في السر، ومثل التاجر البارع في التفاوض التجاري الذي يدفع العميل لاتخاذ قرارات خاطئة بفعل المهارة الكلامية دون اعتبار مصلحته على المدى البعيد، وغيرها من الممارسات تساهم في زيادة حالة الإحباط داخل المجتمع الذي يؤسس لتعايش الناس مع استراتيجيات الخوف التي ينشأ عنها قابلية الإنسان لتقمص أدوار متناقضة، فتراه -تحت وطأة الخوف- ملتزما بأعراف جميلة مثل كفالة اليتيم وإكرام الضيف لكنه بالمقابل تصدر عنه سلوكات ظالمة من قبيل أكل أموال الناس بالباطل. وهكذا يصير المجتمع شيئا فشيئا أكثر قابلية لإفراز أعراف شكلية لا تؤدي دورها الوظيفي في تماسك المجتمع.
ولعل التحدي أمام الإنسان في بحثه عن العيش المشترك هو الإبقاء على تمثل جيد عن نفسه وعن محيطه حتى في حالات التعرض للظلم. لأن هذه الحالة النفسية هي التي تنتج سلوكات متعاطفة صادقة. وكلما ارتقى تقدير المرء لذاته كلما كان أقر على ألا يقابل الظلم بالظلم، بل يدفع بالتي هي أحسن ويرجح كفة السلم الاجتماعي على كفة الصراع، ويستمد المرء هذا من مجموع تجاربه خلال طفولته المبكرة المفعمة بالحب والتعاون والدفء الأسري.
خلاصة
بدا لي أن أختم هذا المقال بصورة متخيلة أسميتها “مأساة الحلزون المسلح”، الذي كان عاديا فصار يخضع لعملية التمكين والتسلح. فهذا الكائن الوديع لديه قوقعة يحتمي بها، وكل أعضائه مهيأة لجعلها مكانا مريحا، حيث تفرز مادة لزجة تسهل نومه بداخلها وتجعل دخوله إليها مريحا. لكن خبراء قادمين من “كوكب الحديد والنار” أقنعوه بأن يطور استرتيجياته الدفاعية وأن يتمكن من أسباب القوة عبر التسلح بشظايا الحديد والزجاج، وأن يحملها معه داخل القوقعة. فصار كلما أراد الدخول لقوقعته تعرض للوخز من هذه الأسلحة التي تملكها في إطار استراتيجية “التمكين”. وهكذا تحولت القوقعة التي كانت مصدرا للراحة والحماية إلى شيء غريب عنه ومؤذ. فلا هو صار أقوى ولا هو استمتع بحياته كما هي.
وأتمنى أن تبقى العلاقات في أسرنا مبنية على المودة والرحمة وألا يتمكن خبراء ينظرون إلى العلاقات الإنسانية بعين واحدة -استراتيجية القهر والسيطرة- من إقناع شبابنا ببناء علاقاتهم اعتمادا على إدراج استراتيجيات القهر في بناء حياتهم الشخصية والعائلية، وأن يعي المجتمع أن توصيات المنظمات الدولية نابعة من مشكاة قانونية مبنية على أساس الصراع ومن مؤشراتها أنها أقرت حق الفيتو الذي سمح بقتل مدنيين عزل أغلبهم أطفال ونساء -إرضاء لمصالح الدول العظمى-، فكيف يعقل أن نقتبس منها ترسانة قانونية لتحقق العدل داخل الأسرة المبنية أساسا على المحبة؟ بل على العكس من ذلك، إننا نراهن على قدرة الأسرة على الرفع من أواصر المودة والرحمة لتفيض على المجتمع كله فيصبح أكثر إنسانية.