كلمة رئيس النيابة العامة خلال افتتاح أشغال الدورة التكوينية: “البلاغات الفردية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب” بالرباط أيام 18-19 دجنبر 2023
كلمة السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض
رئيس النيابة العامة
في افتتاح أشغال الدورة التكوينية
حول البلاغات الفردية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب
المنظمة من طرف رئاسة النيابة العامة
بشراكة مع المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان
وبتعاون مع مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان
بالمعهد العالي للقضاء، الرباط
19-18 دجنبر 2023
باسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
السيد الكاتب العام للمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان؛
السيدات والسادة رؤساء الأقطاب برئاسة النيابة العامة؛
السيد ممثل مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان؛
السادة الخبراء؛
السيدات والسادة قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم؛
السيدات والسادة ممثلو القطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية؛
أيها الحضور الكريم.
يسعدني أن أشارك معكم اليوم في افتتاح أشغال هذه الدورة التكوينية التي تنظمها رئاسة النيابة العامة احتفالا بالذكرى الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك بشراكة مع المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان، وبتعاون مع مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وبمساهمة مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، حول موضوع “البلاغات الفردية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب”.
إن تنظيم هذه الدورة اليوم، والتي ستليها دورة ثانية بمدينة مراكش في شهر فبراير المقبل، يندرج ضمن المجهودات التي تبذلها رئاسة النيابة العامة في مجال مواكبة انخراط المملكة المغربية في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان بشكل عام، ومتابعة تفاعلها مع آليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان بشكل خاص، وكل ذلك بهدف تعزيز إعمال المعايير الدولية لحقوق الإنسان المنبثقة عن الاتفاقيات الأساسية التسعة التي صادقت عليها بلادنا والتزمت بإعمال مقتضياتها.
وتعتبر الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة المعتمدة من طرف الأمم المتحدة سنة 1984، والتي وقعت عليها المملكة المغربية دون تردد سنة 1986 وصادقت عليها سنة 1993، من بين أهم تلك الاتفاقيات، حيث لم تكتف بلادنا بذلك، بل قررت الانضمام إلى البرتوكول الاختياري الملحق بها سنة 2014 والذي يسمح للجنة الفرعية لمناهضة التعذيب المنشأة بموجبه القيام بزيارات للبلدان التي تعتبر طرفا فيه كما ينص على إحداث آلية وطنية للوقاية من التعذيب.
وتفعيلا لمقتضيات هذا البرتوكول حرصت المملكة على إنشاء الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب من خلال تكليف المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بالقيام بزيارة جميع أماكن الحرمان من الحرية ببلادنا.
ولذلك حظي موضوع حماية حقوق الإنسان بأهمية بالغة في اهتمامات وأولويات رئاسة النيابة العامة منذ إحداثها، مما انعكس في العديد من المبادرات والبرامج التي اعتمدتها والتي من بينها على سبيل الذكر لا الحصر برنامج تعزيز قدرات القضاة في مجال حقوق الإنسان الذي شرعت في تنفيذه في شهر دجنبر 2020.
وهو البرنامج الذي يروم تقوية المعرفة بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان قصد تعزيز الالتزام بإعمالها على المستوى الوطني، وبآليات حمايتها على مستوى منظومة الأمم المتحدة وكيفية التفاعل معها ولاسيما هيئات المعاهدات والتي من بينها لجنة مناهضة التعذيب التي ترتبط بموضوع لقائنا اليوم.
ولا بأس من التذكير بأنه استفاد من هذا البرنامج في مختلف مكوناته ومراحله ، إلى حدود اليوم، أكثر من 1000 مشاركة ومشارك منهم أكثر من 900 قاض وقاضية من قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة بالإضافة إلى مسؤولين قضائيين بمختلف الدوائر القضائية بالمملكة، وكذا 123 مستفيداً من أطر ومسؤولي رئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فضلاً عن 108 مستفيدة ومستفيدا يمثلون مؤسسات وطنية أخرى من بينها المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمديرية العامة للأمن الوطني وقيادة الدرك الملكي والمندوبية العامة لإدارة السجون.
حضرات السيدات والسادة؛
منذ أن أصبحت بلادنا طرفا في اتفاقية مناهضة التعذيب، شهدت القوانين الوطنية إصلاحات مستمرة، حيث كان من بين ما استهدفته إدماج أحكام هذه الاتفاقية في مقتضياتها، ويعتبر دستور سنة 2011 أهمها وذلك من خلال تنصيصه على جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية. كما نص على العمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة. ولذلك خصص ذات الدستور خصص بابا كاملا للحقوق والحريات الأساسية ، وهو الباب الثاني والذي نكتفي في هذا المقام بذكر الفصلين 22 و23 منه.
إذ الفصل 22 منه يتعلق بمنع التعذيب وكل أشكال سوء المعاملة حيث نص على أنه “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة. لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية. ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”.
بينما كرس الفصل 23 منه الضمانات القانونية الأساسية المتعلقة بمنع التعذيب، إذ نص على أنه “لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون”. واعتبر “الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات.” ونص على واجب “إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت. ويحق له الاستفادة، في أقرب وقت ممكن، من مساعدة قانونية، ومن إمكانية الاتصال بأقربائه، طبقا للقانون”. وعلى أن ” قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان.” وعلى تمتع “كل شخص معتقل بحقوق أساسية، وبظروف اعتقال إنسانية.” وأن يستفيد من برامج للتكوين وإعادة الإدماج.”
وفضلا عن هذه الضمانات التي أحاط قانون المسطرة الجنائية مسطرة التقاضي بها، وضع هذا القانون جميع أعمال الشرطة القضائية تحت رقابة القضاء وأرسى آليات فعالة للوقاية من التعذيب والتحقيق بشأن الادعاءات المتعلقة به سواء أمام قضاء النيابة العامة أو قضاء الحكم.
حضرات السيدات والسادة؛
منذ اعتماد دستور 2011 الذي تميز بتعزيز ضمانات حماية حقوق الإنسان، حرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله على مواكبة كافة الأوراش المتعلقة بتنزيل مقتضيات هذا الدستور بتوجيهاته السامية. ومن ضمن أوجه ذلك ما جاء في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الدولية بمناسبة الاحتفاء بالذكرى 75 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتاريخ 7 دجنبر 2023: “في ظل هذه التحديات، اختار المغرب أن يسلك مسارا حقوقيا خاصا به، عرف –وما يزال- تطورا ملحوظا، بصم التجارب الدولية في هذا المجال.
فالتزام المملكة المغربية بالنهوض بحقوق الانسان على المستوى الوطني، لم يتوقف عند تكريسها الدستوري فحسب، بل أصبح ركيزة للسياسات العمومية، ومحددا رئيسيا للاختيارات الاستراتيجية، بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
وإن تشبثنا الراسخ بالدفاع عن هذه الحقوق وتكريسها، لا يعادله إلا حرصنا الوطيد على مواصلة ترسيخ وتجويد دولة الحق والقانون وتقوية المؤسسات، باعتباره خياراً إرادياً وسيادياً، وتعزيز رصيد هذه المكتسبات، بموازاة مع التفاعل المتواصل والإيجابي مع القضايا الحقوقية المستجدة، سواء على المستوى الوطني أو ضمن المنظومة الأممية لحقوق الإنسان.”
حضرات السيدات والسادة؛
وعيا من رئاسة النيابة العامة بأن تعزيز ضمانات حماية حقوق الإنسان في الدستور المغربي وكذا تقوية انخراط المملكة المغربية في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان أديا إلى تعاظم مسؤولية كل الأطراف المعنية بمنع التعذيب، فقد انخرطت منذ سنوات في المجهودات الوطنية الرامية إلى الوقاية من التعذيب ومناهضته من خلال اعتماد العديد من التدابير والمبادرات نذكر من بينها:
- اعتبار موضوع الالتزام بوضع مناهضة التعذيب ضمن أولويات السياسة الجنائية منذ أول منشور لرئيس النيابة العامة والذي تلته دوريات أخرى في نفس الاتجاه مما انعكس على التقارير السنوية لرئاسة النيابة العامة التي اعتمدت محورا خاصا بالمعالجة القضائية لقضايا التعذيب.
- توجيه رئيس النيابة العامة دورية إلى المسؤولين القضائيين عن النيابات العامة بتاريخ 16 أكتوبر 2019 يحثهم على التفاعل الإيجابي مع الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب المحدثة لدى المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بموجب البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب.
- حرص النيابة العامة على التنفيذ الصارم للمقتضيات القانونية المتعلقة بمكافحة التعذيب والوقاية منه، من خلال القيام بزيارات تفقدية لأماكن الحرمان من الحرية، والتثبت من تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بالفحص الطبي للأشخاص المقدمين إليها بعد الحراسة النظرية، تلقائيا أو بناء على طلب، والبت في جميع الشكايات المتعلقة بالتعذيب المعروضة عليها، تفعيلا لمقتضيات المادة 12 من اتفاقية مناهضة التعذيب.
- إعداد ونشر دليل استرشادي في مجال مناهضة التعذيب وغيره من أشكال سوء المعاملة موجه لقضاة النيابة العامة وعموم قضاة المملكة ولمختلف الفاعلين في مجال العدالة، يهدف إلى التعريف بالمعايير والآليات الدولية المتعلقة بمنع التعذيب، والإجراءات المتبعة للبحث في ادعاءات التعذيب.
هذا فضلا عن حرص رئاسة النيابة العامة على توجيه العديد من الدوريات والمناشير إلى النيابات العامة في العديد من القضايا والمواضيع ذات الصلة بتعزيز حماية حقوق الإنسان من بينها، على سبيل الذكر لا الحصر:
- دورية حول تعيين قضاة للنيابة العامة متخصصين في مجال قضايا حقوق الانسان بتاريخ 25 يونيو 2020؛
- مجموعة من الدوريات حول ترشيد الاعتقال الاحتياطي كان آخرها دورية بتاريخ 1 يونيو 2023؛
- مجموعة من الدوريات حول زيارة مراكز إيداع المحروسين نظريا والمحتفظ بهم كان آخرها بتاريخ 16 فبراير 2023؛
- دورية حول تغذية المحروسين نظريا بتاريخ 16 فبراير 2023؛
- مناشير ودوريات حول محاربة العنف ضد النساء كان آخرها بتاريخ 4 غشت 2022؛
- دورية حول التصدي للاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت بتاريخ 14 أبريل 2023؛
- دورية حول زيارة مؤسسات معالجة الأمراض العقلية بتاريخ 14 مايو 2018؛
- دورية حول حماية ضحايا الاتجار بالبشر بتاريخ 3 يوليو 2018.
وها نحن اليوم ننظم هذه الدورة التكوينية في إطار مواصلة تنفيذ برنامج تعزيز قدرات القضاة في مجال حقوق الإنسان من أجل مواكبة قبول المملكة المغربية لولاية لجنة مناهضة التعذيب المتعلقة بتلقي الشكايات الفردية والنظر فيها بموجب المادة 22 من الاتفاقية. ونستهدف بواسطتها التعريف بمكانة البلاغات الفردية في نظام هيئات المعاهدات، ولا سيما في عمل لجنة مناهضة التعذيب، وعلى طبيعة التزامات الدول الأطراف بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، والمعايير الدولية حول كيفية إجراء التحقيقات القانونية والطبية الفعالة في مزاعم التعذيب أو سوء المعاملة أو ما يسمى اختصارا بروتوكول إستنبول.
كما يتضمن برنامج هذه الدورة التكوينية دراسة أساليب وطرق عمل لجنة مناهضة التعذيب بمناسبة البت في البلاغات المعروضة عليها، وذلك من خلال ورشات عمل تهدف إلى عرض ومناقشة حالات ونماذج سبق البت فيها من طرف اللجنة المذكورة، مما سيمكّن المشاركين من تعميق معارفهم بشأن عمل اللجنة والسهر على حسن إعمال المقتضيات الحمائية الواردة في الاتفاقية، فضلا عن اكتساب التقنيات والمهارات الأساسية قصد توظيفها بمناسبة التفاعل مع لجنة مناهضة التعذيب وكذلك عند إعداد الأجوبة والردود بشأن البلاغات التي تهم المملكة.
وتجدر الإشارة إلى أن أشغال هذه الدورة التكوينية التي ستمتد على مدار يومين، سيتم تأطيرها من طرف عضوين بلجنة مناهضة التعذيب وهما السيد إردوغان شريف إسكان والسيد عبدالرزاق روان وعضو فريق البلاغات الفردية بمكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان وخبير بمركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن والذين أود أن أتقدم لهم بجزيل الشكر على تلبية دعوتنا للمشاركة في هذه الدورة التكوينية، والتي سيستفيد منها حوالي 80 مشاركا من بين قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم وقضاة التحقيق وضباط الشرطة القضائية، فضلا عن مسؤولين وأطر برئاسة النيابة العامة وممثلين عن المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان ووزارة العدل ووزارة الداخلية والمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
حضرات السيدات والسادة؛
اسمحوا لي في ختام هاته الكلمة أن أتقدم بجزيل الشكر إلى السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان لتعاونهما الدؤوب مع كافة المبادرات التي تقوم بها رئاسة النيابة العامة، ولكل من ساهم في إعداد وتنظيم هذا اللقاء.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير بلادنا تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، وأقر عينه بولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزره بصـنوه الرشيد الأمير مولاي رشيد وكافة أفراد أسرته الشريفة، إنه سميع ومجيب للدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.