العقوبات في المجلة الجزائية التونسية (دراسة مقارنة)
العقوبات في المجلة الجزائية التونسية (دراسة مقارنة)
The sanctions in Tunisian Penal Code
صفوان العوني، محامي دارس بالمعهد الأعلى للمحاماة بتونس و باحث في القانون الجزائي و علوم الإجرام، كلية الحقوق و العلوم السياسية بتونس، جامعة تونس المنار
Ouni Safouene, student -lawyer and researcher in criminal law and criminology, Faculty of law and political sciences of Tunis, University of Tunis el Manar
ملخص:
على اعتبار أن العقوبة هي رد فعل المجتمع على فعل يخالف القانون ارتكابه، أو ترك فعل يجرم القانون الامتناع عن فعله. فان الهدف الرئيسي للعقوبة هو حماية المجتمع و أفراده من كل فعل ضار يمس أمنهم و مصالحهم. و قد شهدت العقوبة الجزائية تطورا بناءا على تطور مفهوم حقوق الإنسان في العالم، و العلوم المرتبطة به من علم الجريمة،[2] علم العقوبة،[3] علم النفس الجزائي[4]… فانتقلت من الزجر و الإيلام و التشفي، إلى الإصلاح و التقويم. و لم يكن المشرع التونسي بمنأى عن هذا التطور العالمي و انتشار مفاهيم حقوق الإنسان و كونية العقوبات و انسنتها.
Abstract :
The penalty is the reaction of the society to an unlawful act, or leaving an act obliged by the law.
In addition to that, The main objective of the punishment is to protect society and its members from any harmful act affecting their interests and security.
Therefore, the penalty has evoluated from being dragged and hurting into reforming.
And the Tunisian legislature was part of this global development and the spread of human rights concepts and the universality of sanctions and its evolution.
Keywords: sanctions, criminal punishment, Tunisian Law.
مقدمة:
من المعلوم أن الجريمة ظاهرة إنسانية ملازمة للمجتمعات أينما وجدت ، وجب أن نسلم بها لا أن نستسلم لها.[5] و نجد في الجهة المقابلة العقوبة، التي هي رد فعل اجتماعي هدفه الإيلام ،[6] عن فعل يعتبره المجتمع خطرا يمس استقراره و يهدد كيانه.
و العقوبة ليس الهدف منها لوم الجاني من اجل مسلكه الإجرامي السابق فقط، بل إصلاح الخطورة الكامنة في شخصيته و وقاية المجتمع منه، و ذلك من خلال تقويم سلوكه و إعادته لحظيرة المجتمع.[7] و ذلك بالتوازي مع نيل الجاني للجزاء الذي يستحقه عما أحدثه من ضرر للأفراد و المجموعة.[8]
و بصفة عامة، فان العقوبة الجزائية لها هدفان و هما الردع العام و الردع الخاص.[9] فالأول يهدف لردع كل من تسول له نفسه إتيان فعل مخالف للقانون، بمعنى آخر هذا الردع متجه للمجموعة. في حين أن الثاني أساسه زجر الجاني و إثنائه عن إعادة ارتكاب الجرم مرة أخرى.
و قد شهدت العقوبات، تحت تأثير المدارس الفقهية في القارة الاوروربيةـ تطورا هاما. فنجد المدرسة التقليدية التي ظهرت تحت لواء المفكر الإيطالي بيكاريا صاحب مؤلف الجرائم والعقوبات،[10] والمفكر الفرنسي مونتسيكو صاحب كتاب روح القوانين، [11] والمفكر جون جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي.[12]
ولقد ناضل هؤلاء ضد صور التعذيب والعقوبات القاسية التي كانت سائدة في تلك الفترة، بحيث لم تكن هناك نصوص جزائية معينة تحدد فيها الأفعال المجرمة، وكذلك مقدار العقوبة المقرر لها، بل كل شيء يخضع لسلطان الحاكم هو الذي يقرر متى يحمل الفعل الوصف الجزائي، ثم يختار له العقوبة دون أن تكون محددة سلفا، وكان من أبرز ما نادى به رواد هذه المدرسة النقاط التالية:
– تقرير مبدأ الشرعية، بمعنى انه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
– ارتباط العقوبة بجسامة الفعل الواقع بصرف النظر عن شخصية الجاني، ودون تمييز بين المجرم المبتدئ والمجرم المحترف.
-ارتباط المسؤولية الجنائية بحرية الاختيار التي يتمتع بها الجاني.
– اعتبار المنفعة هي هدف كل عقوبة، أي أن ما يبرر العقاب هو منفعته وضرورته.
لتظهر بعد ذلك المدرسة التقليدية الحديثة التي من أهم روادها روسي و جيزو، و رغم موافقتها على اغلب أفكار المدرسة التقليدية، إلا أنها نقدت المبالغة في اعتماد النفعية الاجتماعية عند تحديد العقاب.[13]
لنجد بعد ذلك المدرسة الوضعية التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، و من ابرز روادها جاروفالو و لمبروزو. و أهم فكرة لهذه المدرسة هو نفي حرية الاختيار، بل اعتبرت أن الإنسان مسير لا مخير، بحكم جملة من العوامل الاجتماعية و الاقتصادية و النفسية…[14]
و بصفة عامة، ساهمت هذه المدارس الفقهية في تطور العقوبة الجزائية. فتحولت من الإيلام و الانتقام في العصور الغابرة، و اختلاط بين المسؤوليتين المدنية و الجزائية مثلما هو الحال في الإمبراطورية الرومانية، إلى عقوبة شخصية، متناسبة مع الجرم المرتكب و شخصية الجاني و سنه و ما إن كان جديدا أو عائدا… فصار الهدف من العقوبة هو إصلاح الجاني و إيقاع الجزاء المناسب له حتى يعود فردا صالحا للمجتمع و عنصرا فاعلا فيه.
فما هي العقوبات في القانون التونسي؟
و للإجابة على هذه الإشكالية، سنتعرض في مبحث أول إلى العقوبات الأصلية، و في مبحث ثان إلى العقوبات التكميلية.
المبحث الأول : العقوبات الأصلية
المطلب الأول : العقوبات الزجرية
يمكن تقسيم هذه العقوبات إلى عقوبات جسدية في فقرة أولى، و أخرى معنوية في إطار فقرة ثانية.
الفقرة الأولى : العقوبات الجسدية
هذه العقوبات الجسدية تتمثل حسب الفصل الخامس من المجلة الجزائية التونسية في الإعدام[15] و السجن.[16]
و رغم الجدل الفقهي الحاصل بخصوص عقوبة الإعدام،بين شق داعي للحفاظ عليها لما تمثله من وسيلة زجر لكل من تسول له نفسه المساس بأمن المجتمع و بين شق ينتقدها بشدة و يعتبرها من العقوبات الوحشية و البربرية التي لابد من التخلي عنها.و هي تعد أقسى العقوبات، و تتمثل في إزهاق روح الجاني.
و عادة ما يعاقب بها في الجنايات الخطيرة كالاعتداء على امن الدولة، القتل العمد مع سابقية الإضمار أو القتل المتبوع بجريمة أخرى.[17] إضافة للجرائم الإرهابية و تبييض الأموال.[18]
و عامة، فالإعدام يكون في الجرائم التي تنم عن نفسية مريضة لدى الجاني، و نزعة إجرامية متأصلة فيه، يكون من المستحيل معها إصلاحه.
فسواء كانت جرائم اعتداء على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، أو الجرائم الإرهابية و تبييض الأموال، فهي جرائم تتسم بالخطورة الشديدة سواء من حيث الأفعال المادية المكونة لها كالتجسس، و نقل المعلومات لجهات أجنبية ، دعوة عسكريين للتمرد، حمل السلاح ضد قواتنا الأمنية، إفساد بواخر أو طائرات أو منشآت تابعة للدولة… أو من حيث المصالح التي تمسها كالأمن القومي الوطني، المصالح الإستراتيجية للبلاد، كشف المعلومات الإستخباراتية و غيرها.
و بناءا على هذه الخطورة، وضع لها المشرع عقوبة الإعدام كجزاء لردع كل من تسول له النفس الإتيان بهذه الجرائم و جعله عبرة لغيره.
و الجدير بالذكر أن تونس لم تنفذ هذه العقوبة منذ تسعينات القرن الماضي، على غرار الجزائر و المغرب الذين جمدا تنفيذ هذه العقوبة بالرغم من التنصيص عليها في قوانينهما. و من البلدان التي تخلت عنها نجد فرنسا، ايطاليا، و اغلب الدول الأوروبية… أما الدول التي إلى اليوم لا تزال تنفذها نذكر السعودية، مصر، إيران، بعض الولايات بالولايات المتحدة الأمريكية.
و على كل، فاغلب الدول العربية لا تبيح الحكم بالإعدام إلا بعد عرضها على جهة عليا في الدولة، و الأغلب يكون رئيس الدولة، من ذلك التشريع المصري، اللبناني، العراقي. أما في سوريا و لبنان فلابد من موافقة رئيس الجمهورية و لجنة العفو.[19]
و من العقوبات الجسدية، نجد العقوبة السجنية سواء طيلة الحياة أو لمدة محددة الذي يتمثل في إيداع الجاني في مؤسسة سجنية ليقضي المدة المحكوم بها عليه.[20] و تعد هذه العقوبة أكثر عقوبة لطالما حاربت البشرية للتخلص منها على اعتبار أن الحرية هي أغلى هبة منحها الله عز و جل لعباده، فلا يمكن الحد منها إلا استثنائيا و وفق ضوابط و شروط محددة مسبقا.
و بصفة عامة، تتماشى العقوبة السالبة للحرية و تتناسب مع فداحة الجرم و خطورة الجريمة. فكلما ازدادت الجريمة خطورة، إلا و زادت شدة العقوبة السالبة للحرية. فمثلا قتل النفس عمدا يعاقب عليه بالسجن بالسجن لبقية العمر،[21] في حين أن القتل الغير عمد، الناتج عن الضرب أو الجرح يعاقب عليه بالسجن لمدة عشرين سنة.[22]
و بالتالي فان العقوبة الجزائية تتناسب بالضرورة مع الجرم المرتكب. لكن مهما يكن من أمر، فقد أثبتت التجربة أن هذه العقوبة السالبة للحرية، مساوئها أكثر من محاسنها. فأمام تردي البنية التحتية للسجون، و نسبة الاكتظاظ في الوحدات السجنية أدى لتفاقم الجريمة، الاختلاط بين المجرمين الجدد و العائدين، تبادل الخبرات الإجرامية و انتقالها من الأكثر انحرافا للجدد. فأصبح السجن مكانا لتفشي الأمراض و الأوبئة و الانحراف، عوض الإصلاح و التأهيل.
الفقرة الثانية : العقوبة المعنوية
تتمثل هذه العقوبة في الخطية المنصوص عليها بالفصل الخامس من المجلة الجزائية، و هي عقوبة مالية محددة المقدار تصرف لخزينة الدولة، تعويضا عما ألحقته الجريمة من ضرر للمجتمع. و يطلق عليها في بلدان المشرق مصطلح الغرامة عادة.[23]
و بصفة عامة، فان الخطايا فانه ترتفع و تنخفض من حيث القيمة بحسب المجال الذي ارتكبت فيه الجريمة، فنذكر أمثلة عن الخطايا الهامة في قانون المنافسة و الأسعار،[24] فنجد خطية تتراوح بين عشرين و ألفي دينار،[25] بين مائتي دينار و عشرين ألف دينار.[26]
و نفس الشيء نجده في قانون حماية المستهلك،[27] حيث تطغى النزعة المالية للعقوبات.
كذلك تتسم الخطايا في المادة الديوانية بالشدة فنجد خطية تتراوح قيمتها بين مرتين و ثلاث مرات قيمة البضاعة،[28] من ألف إلى عشرة آلاف دينار كخطية.[29]
و يفسر هذا التشدد في العقوبات المالية بالمجال الاقتصادي بكون أن المشرع يريد أن يحمي في المقام الأول النظام العام الاقتصادي باعتباره الأساس الذي تقوم عليه الدولة. و كذلك لخصوصية هذا المجال المتسم بالسرعة الشديدة . فهنالك قناعة راسخة أن كثرة العقوبات السجنية في المجال الاقتصادي تقتل المبادرة و تعرقل الدورة التنموية و تؤدي لبث الخوف في صفوف المستثمرين. لذلك من الأجدى و الأنفع لخزينة الدولة استغلال الخطايا المالية المتأتية من المخالفين عوض إيداعهم السجون و توقف أعمالهم و مصالحهم.
بيد أن الحال مخالف تماما في إطار المجلة الجزائية، فرغم تنقيح 2005 الذي جعل الخطايا بالدينار التونسي عوض الفرنك الفرنسي، إلا أن جل الخطايا ذات قيمة متواضعة للغاية، و جل الخطايا خاصة في المخالفات متدنية، بقيمة بأربعة دنانير و ثمانمائة مليم.[30]
المطلب الثاني :العقوبات الإصلاحية
العقوبات الإصلاحية أو العقوبات البديلة للسجن، هي ثلاثة في القانون التونسي.
الفقرة الأولى : العمل لفائدة المصلحة العامة
إن عقوبة العمل للنفع العام هي عقوبة تبنتها التشريعات الحديثة كعقوبة بديلة للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة. و الهدف الأساسي منها هو تجنيب الجاني السجن و العمل على إصلاحه عوض ذلك.[31] وهي عقوبة صادرة عن جهة قضائية مختصة وهي قيام المحكوم عليه بعمل دون أجر موجهة لفائدة عامة الشعب بدلا من وضعه في المؤسسة العقابية في توفير شروط حددها القانون. وتجدر الإشارة على أن العقوبة العمل من اجل المصلحة العامة تختلف تسميتها حسب البلدان التي تأخذ بها ومن هذه التسميات: عقوبة العمل للنفع العام كما هو الحال في الجزائر، عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة كما هو الحال في تونس، الخدمة الاجتماعية والبيئية كما هو الحال في المملكة العربية السعودية .
و قد اقر المشرع التونسي عقوبة العمل من اجل المصلحة العامة بمقتضى القانون عدد 89 المؤرخ في 2 أوت 1999 المتعلق بإرساء نظام العمل لفائدة المصلحة العامة كبديل لعقوبة السجن.[32]
و الهدف من هذه العقوبة البديلة هو تجنيب الجاني دخول السجن، شريطة أن تكون العقوبة الأصلية المحكوم بها السجن النافذ لمدة لا تتجاوز السنة،[33] إضافة إلى وجوب ألا يكون الجاني عائدا ، و ضرورة حضوره بالجلسة و تعبيره عن ندمه مما اقترفه.[34]
الفقرة الثانية : التعويض الجزائي
تتمثل هذه العقوبة[35] في استبدال عقوبة السجن بتعويض مالي لمن ترتب له ضرر شخصي و مباشر من الجريمة، شريطة ألا تتجاوز مدة السجن المحكوم بها ستة أشهر. و لا يقل مبلغ التعويض عن عشرين دينار و لا يتجاوز خمسة آلاف دينار وان تعدد المتضررون، مع بقاء حق التعويض قائما للمتضرر.
و تندرج هذه العقوبة في إطار مزيد تدعيم مسار حقوق الإنسان و الحريات العامة، و انسنة العقوبات، و تجنيت الجاني الدخول إلى غياهب السجن و مخالطة المجرمين الخطرين. و ذلك مقابل مبلغ مالي يدفعه مرتكب الفعل الضار للمتضرر.
الفقرة الثالثة : المراقبة الالكترونية
يرجع الفضل في ظهور نظام المراقبة الالكترونية إلى مجهودات العلماء بالولايات المتحدة الأمريكية، و تحديدا الأخوين شفيتشتيبل،[36] الذين كانا عالمان بجامعة هارفارد الأمريكية. و قد أعدا نظاما للمراقبة اللاسلكية، و قاما بتجربته في ولاية بوسطن الأمريكية على شاب من المحكوم عليهم و الذي استفاد بالإفراج الشرطي آنذاك.[37]
و يرجع الفضل في ظهور نظام المراقبة الالكترونية في شكله الحالي، إلى القاضي الاميريكي jack love بولاية نيو مكسيكو سنة 1977، و الذي اقترح الفكرة على رؤسائه الذين وافقوا عليها، و قام بإبرام اتفاق مع شركة برمجيات فيما بعد لإنتاج أجهزة إرسال و استقبال فيما بعد، و تكتمل بذلك العناصر الفنية للمراقبة الالكترونية.[38]
لينتقل بعد ذلك إلى أوروبا ، فقد تبنت انجلترا المراقبة الالكترونية سنة 1989. كما نذكر السويد سنة 1994. أما هولندا فعام 1995. في حين أن بلجيكا و استراليا سنة 1997.[39] أما فرنسا فأول التجارب للمراقبة الالكترونية كانت في أكتوبر 2000. و قد وقع اعتماد هذه العقوبة كبديل للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
لينتشر بعد ذلك في العالم العربي، نذكر على سبيل الذكر لا الحصر المشرع الجزائري الذي تبنى هذه العقوبة في المادة 150 مكرر من القانون عدد 01-18 المؤرخ في 30 يناير 2018.
و يقضي القاضي الجزائري بهذه العقوبة إن كان العقاب المستوجب للجريمة لا يتجاوز الثلاث سنوات ، و يمكن أن يشمل الذكور و الإناث على حد سواء، و البالغين و حتى القصر بعد موافقة الولي.[40]
و لم يبق المشرع التونسي بمعزل عن هذا التوجه العالمي، فقد وقع تبني هذه العقوبة بموجب مرسوم من رئيس الحكومة عدد 29 لسنة 2020 مؤرخ في 10جوان 2020 يتعلق بنظام المراقبة الالكترونية في المادة الجزائية.
و بموجب هذا المرسوم الحكومي، أصبح الفصل 15 مكر في فقرته الأولى من المجلة الجزائية ينص على انه “للمحكمة إذا قضت بالسجن النافذ لمدة أقصاها عام واحد أن تستبدل بنفس الحكم تلك العقوبة بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وذلك دون أجر ولمدة لا تتجاوز ستمائة ساعة بحساب ساعتين عن كل يوم سجن أو بعقوبة المراقبة الالكترونية. ”
و يتولى قاضي تنفيذ العقوبات مراقبة تنفيذ هذه العقوبة.[41] أما في حال ما حاول الجاني الفرار، أو مخالفة توصيات و أوامر قاضي تنفيذ العقوبات، فقد نص الفصل 336-5 من المجلة الجزائية على انه”.إذا تبين من أعمال المراقبة الالكترونية أن المحكوم عليه
تعمد مخالفة إحدى الالتزامات المحمولة عليه أو الفرار أو التخلص أو محاولة التخلص بأي وسيلة كانت من المعدات والأدوات المستعملة في المراقبة الالكترونية، يتولى قاضي تنفيذا لعقوبات على ضوء التقرير الكتابي المحرر في الغرض من طرف مكتب المصاحبة المختص أو قاضي تنفيذ العقوبات الواقع بدائرته مقر إقامة المحكوم عليه أو الجهات المخول لها معاينة الجرائم طبق التشريع الجاري به العمل، تحرير تقرير يحال فورا على النيابة العمومية.
وفي هذه الحالة يتم احتساب المدة الواجب استكمالها ومواصلة التنفيذ باعتماد عقوبة السجن المحكوم بها بعد طرح المدة المقضاة بنظام المراقبة الإلكترونية.
وفي حالة الفرار أو التخلص أو محاولة التخلص من المعدات والأدوات المستعملة في المراقبة الالكترونية فإن استكمال تنفيذ عقوبة السجن المحكوم بها لا يحول دون تتبع المحكوم عليه من أجل جريمة الفصل 147 من المجلة الجزائية. “[42]
و بصفة عامة، يمكن القول أن المشرع التونسي قطع أشواطا هامة في سبيل تحقيق انسنة العقوبات. فقام بإلغاء عقوبة الأشغال الشاقة بقانون عدد 23 لسنة 1989 المؤرخ في 27 فيفري 1989 لما تتميز به من قسوة و إنزال الم بدني و نفسي شديدين بالجاني.
كما تم فيما يلي إلغاء عقوبة التشغيل الإصلاحي و الخدمة المدنية بمقتضى القانون عدد9 لسنة 1995 المؤرخ في 23 جانفي 1995. فهذه العقوبة تتمثل في عقوبة تكميلية كان ينص عليها الفصل الخامس من المجلة، تتجلى من خلال إجبار المحكوم عليه على العمل بلا مقابل توازيا مع العقوبة السالبة للحرية.[43] و هو ما يؤكد حرص المشرع على تفادي العقوبات الجسدية الشديدة قدر الإمكان، مع المراوحة بين الشدة المطلوبة و التسامح المحمود.
المبحث الثاني : العقوبات التكميلية
هذه العقوبات عادة ما يقع الحكم بها مع عقوبة أصلية، فتكون مرافقة لها.
و هذه العقوبة متعددة و متنوعة، لكن يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف على رأي الفقيه فرج القصير.
المطلب الأول : العقوبات المقيدة للحرية
الفقرة الأولى :منع الإقامة و المراقبة الإدارية
منع الإقامة أو الإبعاد، هو حسب الفصل 22 من المجلة الجزائية ” منع المحكوم عليه من الإقامة والظهور بأماكن أو جهات تعين بالحكم. ويكون الحكم به في الصور المنصوص عليها بالقانون ولا تتجاوز مدته عشرين عاما. ”
و الهدف منها هو إبعاد الجاني من المحيط الذي تسبب في وقوع الجريمة.[44]
أما المراقبة الإدارية فتتمثل في إخضاع المحكوم عليه للمراقبة من طرف السلطة الإدارية التابع لدائرتها مقر المحكوم عليه، لمدة محددة و في مكان محدد.[45]
و تطبيقيا، تتم هذه المراقبة من خلال إلزام المحكوم عليه بالتوجه لمركز الأمن المختص ترابيا في الصباح و المساء ليقوم بالإمضاء و يثبت مكانه للسلط المختصة.
و الجدير بالذكر أن النصوص القانونية المتضمنة لهذه العقوبات، عادة ما تنص على أقصاها “لمدة أقصاها… “.
و على اعتبار أنهما عقوبتان تكميليتان، فانه عادة ما يحكم بهما بعد قضاء العقوبة الأصلية. كان يتم الجاني مدة سجنه، فيقع إلزامه بالمراقبة الإدارية لمدة معينة تلي السجن.
الفقرة الثانية : الإقصاء
تتجلى هذه العقوبة من خلال إيداع المحكوم عليه مؤسسة خاصة لتقويم الانحراف. و ينظمها المرسوم عدد 41 المؤرخ في 30 مارس 1964 و الواقع تعويضه بالقانون عدد 76 المؤرخ في 8 ديسمبر 1973. و قد نص هذا القانون على أن الحكم بالإقصاء مجاله المجرمون العائدون فقط. كما يشمل الذكور البالغين عشرين سنة على الأقل دون الإناث.
إضافة إلى ذلك، فالمحاكمة التي أفضت للحكم بهذه العقوبة، لابد من حضور محام فيها يتولى الدفاع على المعني بالأمر.
و الملاحظ أن هذه العقوبة متروكة، فلم يتم الحكم بها منذ سنين عديدة. فالأنسب أن يتم التخلي عنها كليا، خاصة أن نطاقها الزمني غير محدد مما يفتح الباب أمام التعسف في تطبيقها.
المطلب الثاني : العقوبات ذات الطبيعة المالية
الفقرة الأولى : مصادرة المكاسب
عادة ما ينص القانون على صور و حالات مصادرة المكاسب. وهي حجز جزء أو كل مكاسب المحكوم عليه و جعلها لفائدة الدولة.
و الجدير بالذكر انه لا يمكن لقاضي الأصل أن يحكم بها إلا إذا نص القانون صراحة عليها، من ذلك قانون المنافسة و الأسعار لسنة 1991، قانون مكافحة الإرهاب و تبييض الأموال لسنة 2015،[46] و غيرهما من القوانين الخاصة.
و لخطورة هذه العقوبة، هنالك توجه عام نحو إلغائها، من ذلك تجريمها بالدستور المصري أول مرة سنة 1923، كذلك الدستورين السوري و البلجيكي. أما القانون العراقي فسمح بها استثنائيا.[47]
الفقرة الثانية : الحجز الخاص
ينص الفصل 28 من المجلة الجزائية في هذا الإطار أن “الحجز الخاص هو أن يؤخذ لخزينة الدولة ما حصل من الجريمة أو الآلات التي استعملت أو يمكن استعمالها في الجريمة.
و للحاكم في صورة الحكم بالعقاب أن يحكم بحجز الأشياء التي استعملت أو كانت معدّة لإيقاع الجريمة
و كذلك الأشياء الحاصلة من الجريمة بقطع النظر عن مالكها.
ويحكم في كل الأحوال بحجز الأشياء الممنوع صنعها أو استعمالها أو حيازتها أو بيعها بحيث يعدّ ارتكابها جريمة. ”
و المقصود به حجز متحصل الجريمة و استصفائه لفائدة الخزينة العامة. و كذلك الآلات و الأدوات المستعملة في إطار ارتكاب الفعل المجرم.[48]
و يضيف الفصل 29 من المجلة الجزائية انه “إذا لم تسبق عقلة الأشياء المحكوم بحجزها لخزينة الدولة ولم يقع تسليمها فتعين قيمتها بالحكم استعدادا للجبر بالسجن. ”
المطلب الثالث : العقوبات ذات الطبيعة التأديبية
الفقرة الأولى : الحرمان من مباشرة بعض الحقوق و الامتيازات
تتمثل هذه الحقوق و الامتيازات حسب منطوق الفصل الخامس من المجلة الجزائية أساسا في بعض المهن و الوظائف كالطب أو خبير، حمل السلاح أو الأوسمة الشرفية الرسمية، و أيضا حق الاقتراع.
فبعض الجرائم هي من الخطورة حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقع السماح بعدها للجاني بممارسة الوظيفة أو المهنة سواء كان التدريس، أو المحاماة أو القضاء أو الجندية او الطب البيطري…
و تعد هذه العقوبة أول العقوبات الثاتوية أو التكميلية التي نصت عليها القوانين العربية. فنجد أن تشاريع كل من مصر، سوريا، لبنان نصت عليها. كما أن المشرع العراقي يضيف عقوبة نفي الأجنبي.[49]
و بصفة عامة، سواء كان الحرمان من المهنة أو من حمل الأوسمة أو من الاقتراع، فهو يكون محددا زمنيا. و إن لم ينص القانون على مدة محددة، فيكون بالتالي خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي.[50]
الفقرة الثانية : نشر مضامين بعض الأحكام
و المقصود بذلك نشر مضمون الحكم، لا كامل الحكم، مع الإشارة إلى مرتكب الفعل المجرم تشهيرا به . كما للمحكمة، إضافة إلى ذلك، نشر كامل الحكم أو ملخص منه في الجرائد على نفقة المحكوم ضده.[51]
و قد وقع اعتماد هذه العقوبة التكميلية من عدة دول عربية، مثل المشرع السوري في المادة 42 ، و القانون اللبناني في المادتين 5 و 6 من قانون العقوبات.[52]
لذلك يمكن القول أن جل دول العالم تسعى إلى الحدّ من العقوبات السالبة للحرية والتوجه أكثر نحو العقوبات البديلة. فهذه العقوبات تعد وسائل ضروريّة للحفاظ على الكرامة البشرية نظرا لفشل العقوبات السجنية حول العالم في تحقيق ذلك، إضافة لإصلاح الجناة. كما أنّها تتماشى مع المبدأ الكوني النّاص على ضرورة الحفاظ على الكرامة البشرية.[53]
فمثلا بالبرازيل وبموجب تنقيح 1998 للقانون الجزائي البرازيلي، صار بالإمكان الحكم بالعقوبات البديلة عند إرتكاب جرائم تستوجب السجن لمدة أقصاها أربعة سنوات،[54] وتشمل العقوبات البديلة جرائم التحيل وحوادث المرور والعنف المنزلي وتجاوز السلطة والتهديد.[55]
فالعديد من البلدان أصبحت تعتمد العقوبات البديلة بكثرة، من أبرزها :
- فنلندا= 86% من الحالات
- النمسا= 79% من الحالات
- هولندا= 78% من الحالات
- انكلترا= 76% من الحالات
- جنوب إفريقيا= 75% من الحالات
- كندا= 72% من الحالات
- الولايات المتحدة الأمريكية= 68% من الحالات
والجدير بالذّكر أنّ فنلندا و الدنمارك فيهما أحسن أنظمة إصلاحية في العالم.[56]
الإحالات والمراجع:
[1] Email : ounisafouene18@gmail.com
[2] Criminologie.
[3] Pénologie.
[4] Psychologie criminologique.
[5] عبود السراج، شرح قانون العقوبات، القسم العام ،منشورات جامعة حلب، طبعة1، 1997 ، ص1.
[6] Charlotte DEMPTINNE , la peine et sa finalité un équilibre entre protection de la société, réparation de la victime et répression de l’auteur, mémoire en sciences criminelles, Université de Louvain , 2015-2016, p 10-11.
https://dial.uclouvain.be/memoire/ucl/fr/object/thesis%3A8054
[7] محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم العام، دار النهضة العربية، 1962، ص9.
[8] فرج القصير، القانون الجنائي العام، مركز النشر الجامعي 2006، ص210.
[9] يوسف المحمدي، فلسفة العقوبة و الردع الخاص، دار الكتب الوطنية، ص3.
[10] Les délits et les peines.
[11] l’esprit des lois.
[12] Le contrat social.
[13] فرج القصير، مرجع سابق، ص27.
[14] ادوار غالي الذهبي، مبادئ علم العقاب، المكتبة الوطنية ، الطبعة الأولى، ، 1975 ، ص35.
[15] الفصل الخامس فقرة 1.
[16] الفصل الخامس فقرة 2 و 3.
[17] عبادة الكافي، المجلة الجزائية معلق عليها، الطبعة الثانية، تونس، 2016، ص24.
[18] القانون الأساسي عدد26 لسنة 2015 و المؤرخ في أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب و تبييض الأموال، و الواقع تنقيحه سنة 2019.
[19] توفيق الشاوي، العقوبات الجنائية في التشريعات العربية، مطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة، 1959، ص39.
[20] القانون عدد 52 المؤرخ في 14 ماي 2001 المتعلق بنظام السجون.
[21] الفصل 205 من المجلة الجزائية.
[22] الفصل 208 من المجلة الجزائية.
[23] مصطفى بن جعفر، القانون الجزائي التونسي القسم العام ،تونس، 2009، ص247.
[24] القانون عدد 64 لسنة 1991 و المؤرخ في 29 جويلية 1991 و المتعلق بالمنافسة و الأسعار.
[25] لفصل 37 من قانون المنافسة و الأسعار.
[26] الفصل 39 من قانون المنافسة و الاسعار.
[27] لقانون عدد 117 لسنة 1992 المؤرخ في 7 ديسمبر 1992 المتعلق بحماية المستهلك.
[28] الفصل 387 مجلة الديوانة.
[29] الفصل 388 من مجلة الديوانة.
[30] المنجي الأخضر ، نظام المخالفات في المجلة الجزائية ، مائوية المجلة الجزائية، ص 404.
[31] الأزهر الخرشاني، صلاحيات قاضي تنفيذ العقوبات و عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة، دورة دراسية بالمعهد الأعلى للقضاء، 13 نوفمبر 2003.
[32] الدكتور جابر غنيمي، عقوبة العمل من اجل المصلحة العامة، 15/10/2023.
[33] مخالفة أو جنحة.
[34] الفصل 15 مكرر من المجلة الجزائية.
-الفصل 15-3 من المجلة الجزائية.
-فرج القصير، مرجع سابق، ص235-236.
[35] تبناها المشرع التونسي بموجب القانون عدد 68 لسنة 2009 و المؤرخ في 12 أوت 2009.
[36] Schwitzgebel.
[37] رامي متولي القادي، نظام المراقبة الالكترونية في القانون الفرنسي و المقارن، مجلة الشريعة و القانون، جويلية 2015، ص269.
[38] رامي متولي القادي، مرجع سابق، ص269-270.
[39] رامي متولي القادي، مرجع سابق، ص270.
[40] دوار جميلة، المراقبة الالكترونية كبديل للعقوبة السالبة للحرية في التشريع الجزائري، المجلة القانونية التونسية، 2019، ص،77 ،78.
[41] الفصل 336 رابعا من المجلة الجزائية–“يتولى قاضي تنفيذ العقوبات التابع له مقر إقامة المحكوم عليه أو التابع للمحكمة الابتدائية الصادر بدائرتها الحكم إذا لم يكن للمحكوم عليه مقر إقامة بالبلاد التونسية متابعة تنفيذ عقوبة المراقبة الإلكترونية بمساعدة مصالح السجون ومكاتب المصاحبة.
ويضبط تنظيم مكاتب المصاحبة بأمر حكومي.
ويتولى قاضي تنفيذ العقوبات القيام بالأعمال التالية:
- تحديد محل تنفيذ المراقبة الذي اختاره المحكوم عليه.
- وإذا لم يكن ذلك المحل على ملكه أو في تصرفه فلا يمكن اتخاذ تلك الوسيلة إلا بعد الموافقة الكتابية لمالك المحل أو المتصرف فيه.
- تحديد أماكن تنقلات المحكوم عليه وتوقيتها.
- ضبط الالتزامات التي يرى قاضي تنفيذ العقوبات فرضها على المحكوم عليه. “
[42] الفصل 147 من المجلة الجزائية : “يزاد عام في مدة عقاب المحكوم عليه بالسجن لمدة معينة الذي فر أو حاول الفرار.
وتكون الزيادة بثلاثة أعوام إذا وقع عنف، أو كسر السجن، أو وفاق بين المساجين.
وتكون الزيادة خمسة أعوام في صورة وقوع إرشاء أو محاولة إرشاء حارس. ”
[43] فريد بن جحا، تطور العقوبات الجزائية، المجلة القانونية عدد 168/169 ، ديسمبر 2013 ، ص24- 25.
[44] مصطفى بن جعفر، مرجع سابق، ص248.
[45] فرج القصير، مرجع سابق، ص249.
[46] فرج القصير، مرجع سابق، ص254-255.
[47] توفيق الشاوي، مرجع سابق، ص66.
[48] مصطفى بن جعفر، مرجع سابق، ص249.
[49] توفيق الشاوي، مرجع سابق، ص60.
[50] فرج القصير، مرجع سابق، ص258.
[51] نادية طوجاني الماطري، المراحل التاريخية للعقاب في القانون التونسي، مذكرة ختم تمرين من المعهد الأعلى للمحاماة، تونس، 2013-2014، ص23-24.
[52] توفيق الشاوي، مرجع سابق، ص68.
[53] ADALBERToCarim Antonio, les peines alternatives dans le monde, thèse de doctorat en droit privé et sciences ciminelles, Université de limoges, 24 juin 2011 ; page 81, 82.
https://www.theses.fr/2011LIMO1010
[54] Adalberto Carim Antonio, op.cit, page 95, 96.
[55] AdalbertoCarim Antonio, op.cit, page 120.
[56] Adalberto Carim Antonio, op.cit page 129.