الفاعلون في رسم معالم السياسة الخارجية المغربية: وفق مقتضيات الدستور الجديد

مقدمة:

إن دينامية الإصلاح السياسي الذي انخرط فيه المغرب لسنوات عديدة والذي توج بالتعديلات الدستورية الأخيرة يترجم معالم مرحلة مفعمة بتحولات جديدة على مستويات عدة من بينها تلك التي مست رقعة السياسة الخارجية للمملكة.

هذه البيئة الجديدة لصنع القرار المغربي وما تحمله من تحولات جديدة ومن نخب جديدة وفاعلين جدد، ستجعل من هذا المجال الخارجي يتقاسمه فاعلون رسميون تقليديون، وآخرون جدد يساهمون بشكل أو بآخر في صياغة القرار السياسي الخارجي ، الأمر الذي يثير كثيرا من علامات الاستفهام والتساؤلات حول مدى تأثير مأسسة دور الفاعلين الجدد واختصاصاتهم على مستقبل دمقرطة السياسة الخارجية المغربية .

في هذا الإطار تأتي هذه المساهمة من اجل تسليط الضوء على جانب من عملية صنع القرار السياسي الخارجي المغربي وفق أحكام الدستور الجديد، لرصد مدى التقدم من عدمه على مستوى دمقرطة هذه العملية، وذلك من خلال إبراز مدى اتساع أو ضيق دائرة الفاعلين في رسم معالم السياسة الخارجية، وكذا نوعية الاختصاصات المنوطة بهم سواء تعلق الأمر بالفاعلين التقليديين أو الجدد.

إذا كانت مقتضيات الدستور الجديد نصت على استئثار الملك بالجوانب الهامة في مجال السياسة الخارجية، وكذا على الاختصاصات المعهود بها إلى السلطة التنفيذية، وان كانت مرتبطة بعلاقة جدلية مع المؤسسة الملكية، فان الدستور الجديد لم يستثني أهمية البرلمان في هذا المجال (المبحث الأول) بل ادمج فاعلين جدد داخل هذا النسق من خلال ترسيخ مسألة المبادرة للهيآت غير الرسمية، ولو بشكل غير مباشر في إعداد السياسات العمومية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: الفاعلون التقليديون في رسم معالم السياسة الخارجية

على الرغم من التطورات المنجزة في اتجاه دمقرطة المؤسسات فان معظم الأنظمة، وفي كل الأوضاع قد أدت الحركة المزدوجة لمركزة وشخصنة السلطة إلى تقوية صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية في ميدان السياسة الخارجية .

وبحكم طبيعة النظام السياسي المغربي المتميز أساسا بقطبية الملك داخله، فان السياسة الخارجية المغربية ولاسيما فيما يتعلق بتحديد خياراتها الإستراتيجية، تبقى حكرا على الملك الذي يتسلح في هذا المجال بأسلحة دستورية. أمام هذه المكانة السامية للملك في المجال الخارجي (المطلب الأول) يطرح التساؤل حول دور باقي المؤسسات الرسمية الأخرى، الحكومة (المطلب الثاني) والبرلمان(المطلب الثاني) في صنع السياسة الخارجية في ظل أحكام الدستور الجديد.

المطلب الأول : الملك

على غرار الدساتير السابقة للمملكة يحدد الدستور الجديد صراحة سلطات الملك في مجال العلاقات الدولية مكرسا دوره المحوري في هذا المجال، مدعما حضوره الاستراتيجي في مختلف المجالات التي تهم القضايا الحيوية والمصيرية للدولة، وتحديد خياراتها الأساسية جاعلا منه الفاعل الاستراتيجي في السياسة الخارجية مبادرة وتمثيلا وتفعيلا باعتباره أميرا للمؤمنين طبقا للفصل 41 من دستور 2011 . وهو بهذه الصفة لا يخضع لأية مراقبة سياسية أو قضائية ويمارس نفس الدور الذي كان يمارسه السلطان تاريخيا في النظام السياسي المغربي على الصعيدين الديني والدنيوي.

إن هذا المقتضى الدستوري يدخل في إطار استمرارية التقاليد السياسية المغربية الموروثة والتي تجد أصولها في المرجعية الإسلامية، وفي الأعراف السياسية المغربية في مجال ممارسة السلطة السياسية على مر التاريخ المغربي.

هذه السلطة المتميزة للعاهل المغربي في مجال العلاقات الدولية تبرز المكانة السياسية والتقريرية التي يتبوؤها جلالته، سواء في الحالة الدستورية العادية التي تمارس فيها جميع أجهزة الدولة اختصاصاتها في إطار القانون وتحت الشرعية الدستورية (الفرع الأول) أو في الحالة الدستورية الاستثنائية، التي يختل فيها النظام القانوني وتطبق فيها الشرعية الدستورية الاستثنائية (الفرع الثاني)

الفرع الأول: صلاحيات الملك أثناء الحياة الدستورية العادية

يمكن إجمال صلاحيات الملك أثناء الحياة الدستورية العادية في:

1- تعيين واعتماد السفراء:

تنص الفقرة الأولى من المادة 55من دستور 2011 على المقتضى التالي “يعتمد الملك السفراء لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، ولديه يعتمد السفراء وممثلوا المنظمات الدولية”هذه الفقرة تعد مثالا صريحا على تبوء الملك مكانة متميزة في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، فهو الذي يعتمد السفراء لدى الدول والمنظمات الدولية، وهو الذي يتسلم أوراق السفراء الأجانب وممثلي المنظمات الدولية.

وبالرغم أن منطوق المادة 49 من دستور 2011 ينص على أن المجلس الوزاري يتداول في التعيين باقتراح من رئيس الحكومة وبمبادرة من الوزير المعني في الوظائف المدنية (والتي تندرج فيها وظيفة السفير) إلا أن ترأس الملك للمجلس الوزاري يعني أن جلالته من يستأثر بتحديد الاختيارات الإستراتيجية، وله فقط يعود القرار النهائي في تدبير قضايا السياسة الخارجية التي تكون محل مداولة في المجلس الوزاري.

كما أن مصطلح يتداول الوارد في المادة 49 “المجلس الوزاري يتداول…”يفيد تبادل الآراء حول أمر محدد وهو مصطلح له صفة تشاورية -وهي استشارة لا تفترض التعبير عن رأي مخالف لذلك الذي يعرب عنه جلالة الملك- وربما اقتراحية ولكن ليس له صفة تقريرية .

2 – عقد المعاهدات

إذا كان دستور 1996، وفقا للفصل 31 منه قيد تصديق الملك على المعاهدات التي ترتب تكاليف تلزم مالية الدولة إلا بعد الموافقة عليها بقانون. فقد يظهر أن الدستور الجديد وفقا لمقتضيات الفقرة 2 من المادة 55 منه قد وسع من نطاق هذه القيود، لتشمل كذلك معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي ترسم الحدود، أو معاهدات التجارة، أو تلك التي يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية أو تلك التي تمس حقوق وحريات المواطنين والمواطنات العامة والخاصة حيث لا يمكن للملك المصادقة عليها إلا بعد موافقة البرلمان عليها بقانون.

بيد أن التصديق على المعاهدات الدولية للمغرب طبقا للفصل 55 من دستور 2011 يثير ملاحظة جوهرية، وهي أن الدستور المغربي الحالي كسابقيه لم يتضمن أي نص مباشر يشير إلى المعاهدات الدولية في شكلها المبسط رغم أن هذا النوع من المعاهدات يشكل في الوقت الراهن العدد الأكبر من المعاهدات الدولية بالنسبة لأية دولة.

وتتميز المعاهدات الدولية ذات الشكل المبسط بسرعة عقدها، إذ لا تمر بجميع المراحل التي تمر منها المعاهدات ذات الشكل الرسمي، وإنما تقتصر على المفاوضة والتوافق وتصبح ملزمة بمجرد التوقيع عليها، دون تدخل الجهاز المختص دستوريا بإبرام المعاهدات . كما تتعلق المعاهدات الدولية في شكلها المبسط بمواضيع مختلفة عسكرية، سياسية، اجتماعية، ثقافية، دبلوماسية، التجارة والتعاون، النقل، اتفاقيات التسليم…ويوقع عليها عادة وزراء الشؤون الخارجية وكل الوزراء في مجالات اختصاصاتهم، والمبعوثين الدبلوماسيين أومن قبل المنتدبين إلى المؤتمرات الدولية، وكذا كبار الموظفين التقنيين والإداريين. وعلى الرغم من ذلك فليس ثمة تمييز موضوعي أو تفضيل من الناحية الإلزامية بين الاتفاقات الرسمية أو الشكلية والاتفاقات التي تتم بالشكل المبسط.

الهدف من تسليط الضوء على مميزات هذا النوع من المعاهدات الدولية سواء فيما يتعلق بمسطرة نفادها، أو بطبيعة موضوعها هو الوقوف على إمكانية إفراغ مقتضيات الفقرة 2 من المادة 55 من الدستور الحالي من محتواها، عن طريق إقرار بعض أو كل أنواع الاتفاقيات الواردة فيها بواسطة مسطرة النفاد المتبعة في المعاهدات ذات الشكل المبسط .خصوصا وأن الحكومة يكفيها اختيار صيغة الشكل المبسط للمعاهدة لدخولها حيز التنفيذ، كأن تنص المعاهدة في إحدى فصولها على أن المعاهدة تدخل حيز التطبيق بمجرد التوقيع عليها دونما حاجة إلى استيفاء إجراء التصديق.

ولعل أحسن نموذج يمكن تقديمه هنا هو أن المغرب- في ظل دستور 1992 الذي اشترط في مادته31 الموافقة البرلمانية على المعاهدات الدولية التي تلزم مالية الدولة قبل التصديق عليها- اعتمد اتفاقية منظمة التجارة العالمية بصيغة الشكل المبسط لدخول هذه الاتفاقية إلى حيز التطبيق. أي تم اعتماد المعاهدة عن طريق التوقيع فقط وليس عن طريق التصديق بالرغم من أن لها آثار مالية واضحة على الاقتصاد المغربي.

3- رسم السياسة الخارجية

حسب مقتضيات الفصل 52 من دستور 2011 “للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ويتلي خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخلهما”. هذا المقتضى الدستوري من المقتضيات التي تعزز سلطة الملك في مجال السياسة الخارجية، ففحوى هذه الخطابات، تمس قضايا مصيرية تتعلق في جزء منها بالسياسة الخارجية. وهذه الحصانة المعطاة للخطاب الملكي تدل على قوته القانونية اتجاه جميع المؤسسات ويعتبر بمثابة توجيهات سامية يجب تنفيذها دون مناقشة. فالملك هو الموجه للعمل الحكومي وهو الذي يزود الوزراء بالتوجيهات في تسيير الشأن العام سواء تعلق الأمر بالسياسة الداخلية أو السياسة الخارجية.

وحسب الفصل 49 فالقضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية تحال على المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك طبقا للفصل48. مقتضيات هذا الفصل الأخير تبرز هي الأخرى الدور المحوري الذي يقوم به جلالة الملك في توجيه السياسة الخارجية، فهو الذي يرأس المجلس الوزاري بما لهذا المجلس من حمولة دستورية وسياسية. في حين تبقى آراء الوزراء لا تتجاوز الإطار الاستشاري، وليس لها قوة تقريرية أو إلزامية.

الفرع الثاني: صلاحيات الملك أثناء الحياة الدستورية غير العادية

يمكن أن نميز بين صلاحيات الملك أثناء الحياة الدستورية غير العادية بين:

1- الإعلان عن حالة الاستثناء والحصار

إن القضايا التي تفرض الإعلان عن حالة الحصار قد تكون طبيعية كالهزات الأرضية والمجاعة والأوبئة، وقد تكون هذه الأسباب اجتماعية أو سياسية كالمظاهرات والعصيان المسلح، وظهور حركات إرهابية أو جماعات متطرفة. هذه الأزمات قد تشمل منطقة بعينها أو عدة مناطق كما أن أمدها يختلف فقد يكون قصيرا، وقد يمتد لأسابيع أو عدة شهور . وفي ضل قيام مثل هذه الأوضاع فالدستور المغربي كغيره من جل الدساتير يعطي للسلطة التنفيذية الحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على النظام العام.

مقتضيات المادة 95 تشترط توافر شروط مادية وأخرى شكلية للإعلان عن حالة الاستثناء. تتمثل الشروط المادية في تهديد حوزة التراب الوطني، ووقوع أحداث من شأنها أن تعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية. أما الشروط الشكلية تتمثل في استشارة كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، ورئيس المحكمة الدستورية، وتوجيه خطاب إلى الأمة. وبغض النظر عن التأويلات التي يمكن أن تثار بخصوص هذه الشروط إلا أن تكييفها يرجع إلى جلالة الملك الذي يتوفر على السلطة التقديرية الواسعة، باعتباره المسؤول الأول عن الدفاع عن الوطن والضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة الأمر الذي يؤهله للإعلان عن حالة الاستثناء عند تهديد حوزة التراب الوطني، واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن الوطن، وكذا التدابير الكفيلة بعودة السير العادي للمؤسسات الدستورية.

إن مقتضيات المادة 59 بهذا المعنى تعطي للملك صلاحيات واسعة لا يقيدها إلا التقييد الذاتي لجلالته وينتج عنها غياب للمؤسسات الدستورية وتركيز جميع السلطات في يد الملك.

كما يعود لجلالة الملك بموجب الفصلين 74 و49 من دستور 2011 صلاحية الإعلان عن حالة الحصار بمقتضى ظهير شريف يتداول في شأنه المجلس الوزاري. المقتضيات القانونية الواجبة التطبيق في حالة الحصار تختلف عن تلك المتعلقة بحالة الاستثناء حيث تستمر المؤسسات الدستورية في ممارسة مهامها بشكل عادي في حين القيادة تصبح للسلطة العسكرية والأمنية تحت تعليمات وتوجيهات جلالة الملك وذلك قصد التمكن من تطويق الأزمة الناتجة عن تطبيق حالة الحصار .

2- إشهار الحرب

على غرار دستور1996 الذي خول دستوريا مسؤولية الدفاع عن الوطن للملك طبقا للفصول 19-35-66-74 فان الدستور الحالي للمملكة خول للملك سلطة إشهار الحرب بعد التداول بشأنها في المجلس الوزاري استنادا إلى الفصل 49. فبصفة الملك ضامن دوام الدولة واستمرارها، (الفصل 42 ) وله صلاحيات اتخاذ جميع الإجراءات الذي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية، (الفصل 59 ) ويتحمل مسؤولية القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية (الفصل 53 ) فإن له السلطة العليا لاتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن حوزة التراب الوطني.

عموما، فإن المؤسسة الملكية تشكل مركز الثقل في سلم توزيع السلطات الدستورية، الشيء الذي يدل بأن الدستور الجديد إنما جاء ليعزز سلطات رئيس الدولة من خلال إعادة إنتاج لصلاحياته التقليدية في ممارسة السلطة، وذلك في إطار تغيير ملحوظ نسبيا، لكنه يبقى تغيير من داخل نسق الثبات والاستمرارية.

فتأسيسا على هذه السلطات الدستورية الواسعة يتضح أن الملك هو الممسك الفعلي بتوجهات واستراتيجيات الدبلوماسية المغربية، لما يمتلكه من حق في التعيين، والتشريع، والتنفيذ على مستوى كل ما يتعلق بإدارة الشؤون الخارجية للبلاد.

المطلب الثاني: الحكومة

رغم أن المؤسسة الملكية تحتل مكانة سامقة في صنع السياسة الخارجية المغربية، فإن الحكومة قد تتدخل أحيانا للمساهمة في تكوين الإرادة الدولية للمغرب، وذلك في المجالات التي تسمح بالتفويض في السلطات كإجراء المفاوضات باسم المغرب، والتوقيع على المعاهدات، وتمثيل المغرب في المؤتمرات الدولية الحكومية ولقاءات القمة المتعددة الأطراف واجتماعات المنظمات الدولية التي تعقد على مستوى ملوك ورؤساء الدول.

هذه السلطات الدبلوماسية القابلة للتفويض دستوريا أو بمقتضى القانون الدولي تباشر من قبل رئيس الحكومة(الفرع الأول ) ووزير الخارجية وباقي الوزراء(الفرع الثاني).

الفرع الأول: رئيس الحكومة

طبقا للفصل 88 من دستور 2011 على رئيس الحكومة أن يعرض أمام مجلسي البرلمان، البرنامج الذي تنوي الحكومة القيام به في مختلف مجالات النشاط الوطني وبالأخص في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية… وطبقا للفصل 92 يتداول مجلس الحكومة تحت رئاسة رئيس الحكومة في عدة قضايا من بينها، السياسة العامة للدولة… وفي المعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل عرضها على الحكومة… . إن هذه الأدوار تجعل من الحكومة جهازا تنحصر مهمته في تنفيذ القرارات والتوجيهات الصادرة عن الملك فتوجهات السياسة العامة في المغرب تكون بالأساس من صنع الخطب الملكية الموجهة إلى البرلمان والأمة، أما جل ما تباشره الحكومة من اختصاصات خاصة في مجال السياسة الخارجية – كمجال حساس– لا يمكن اعتمادها إلا بعد أن يؤشر عليها المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك. ليبقى الملك هو من له السلطة الفعلية في القضايا الإستراتيجية وفي جميع الملفات المهمة التي يرتبط بها مصير البلاد على كافة المستويات في حين يبقى الفاعلين الآخرين مجرد منفذين وممتثلين للإرادة الملكية وهو مايعبر عنه بعض السياسيين المغاربة بالعبارة الشهيرة” تنفيذا للإرادة الملكية”.

الفرع الثاني: وزير الخارجية

الحقيقة أن دور وزير الخارجية، سواء في المغرب أو في الدول الأخرى يتسم من وجهة نظر قانونية محضة بأهمية كبيرة بالمقارنة مع السلطات الوزارية الأخرى، وقد تكرست هذه الأهمية في اتفاقية فيينا 1969 حول قانون المعاهدات بين الدول، حيث تم التأكيد على أن وزير الخارجية كرئيس الدولة يمكنه القيام بالأعمال المتعلقة بإبرام المعاهدات الدولية دون الإدلاء بوثيقة التفويض الكامل وعلى ذلك فوزير الخارجية يمكنه القيام بالمفاوضات الدولية والتوقيع على المعاهدات الدولية.

كذلك لوزير الخارجية دور هام على الصعيد الإداري باعتباره رئيسا للإدارة المركزية المختصة بدراسة المشكلات الدولية، ورئيسا لموظفيها. وهو بهذه الصفة مصدر المعلومات التي تسمح باتخاذ القرارات في المجال الدولي، ويتوفر على الإمكانيات الضرورية التي تمكنه من وضع هذه القرارات موضع التنفيذ.

وقد نصت مقتضيات مرسوم 20 يناير 1995 المتعلق باختصاصات وزير الشؤون الخارجية والتعاون وتنظيم وزارة الشؤون الخارجية المعدل والمتمم بمرسوم 11 ابريل 2011 على الاختصاصات المنوطة بوزير الخارجية والتعاون كالتالي:

– مهمة إعداد وتنفيذ عمل الحكومة في الميادين التي تهم علاقات المغرب الخارجية ؛

– توجيه عمل الدبلوماسية؛

– القيام بتنمية التعاون الدولي وتنسيق جميع العلاقات والحرص على التوفيق بينها وبين سياسة المغرب الخارجية؛

– تمثيل المغرب لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية والإقليمية؛

– تحضير اللقاءات والمؤتمرات وتمثيل المغرب في هذه المؤتمرات بتعاون مع الوزراء المعنيين إذا اقتضى الحال ذلك؛

– الإشراف على المفاوضات المتعلقة بالمعاهدات والاتفاقيات والاتفاقات والبروتوكولات والوثائق القانونية الدولية الأخرى ذات الطابع الاقتصادي والدبلوماسي، وتنسيق ما يرتبط منها بالتزامات المغرب الخارجية ذات الطابع الاقتصادي، التجاري، المالي، الاجتماعي، الثقافي والتقني؛

– التوقيع بالأحرف الأولى (ما عدا المعاهدات) على مختلف الاتفاقات المذكورة، أو بإمضائها أو تجديدها أو فسخها باسم الحكومة، أو تفويض الأمر إلى طرف آخر ذو صلة، إن اقتضى الحال ذلك، من اجل التفاوض أو التوقيع؛

– تأويل -باتفاق مع السلطات الوطنية المعنية– المعاهدات والاتفاقيات والاتفاقات والوثائق الدولية الأخرى التي تلزم الدولة؛

– الحرص على تنمية التعاون في الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية والمالية والتقنية ،مع تحديد للعلاقات المرتبطة بهذه القطاعات توجها مطابقا للسياسة الخارجية التي ترسمها الحكومة؛

– السهر على حماية المواطنين والمصالح والممتلكات المغربية بالخارج، وعلى تيسير تطور أعمالهم والتكفل بما يرجع منها إلى اللاجئين وعديمي الجنسية المقيمين بالمغرب؛

– التنسيق مع الجهات المعنية فيما يخص أعمال جميع المصالح العامة المغربية بالخارج؛

– اطلاع الحكومة بانتظام على الظرفية الدولية وعلاقات المغرب الخارجية، وجميع الأعمال المنجزة في هذا السياق.

لكن وزير الخارجية المغربية رغم تنوع مهامه ووظائفه طبقا لما هو منصوص عليه في مرسوم 20 يناير 1995 المعدل والمتمم بمرسوم 11 ابريل 2011 ، والذي يضم إلى جانب الوظائف التقليدية لوزارة الشؤون الخارجية، بعض الوظائف التي فرضتها الدينامية الجديدة في العلاقات الدولية، والتي تتمثل أساسا في المهام المتعلقة بتنمية التعاون في الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية والمالية والتقنية. إضافة إلى استحداث أجهزة بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون وفقا لمرسوم رقم 2.11.103 الصادر في 7 جمادى الأولى 1432(11 ابريل 2011) في شأن اختصاصات وزير الشؤون الخارجية والتعاون كالأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية كجهاز يناط به مهمة المساهمة في توضيح وتحليل واستباق الديناميات الأساسية للعلاقات الدولية بارتباط مع السياسة الخارجية للمملكة. لكن رغم الإمكانيات البشرية واللوجستيكية ورغم كل المهام والأدوار الأساسية المنوطة بهده الوزارة في مجال السياسة الخارجية، فإن المسؤول الأول عن هذا القطاع الحكومي والذي يعد بمثابة رئيس الدبلوماسية المغربية لا يقوم إلا بدور المنفذ لأنه لا يستطيع اتخاذ القرارات المستقلة بمعنى الكلمة، ولا يملك بالفعل حق المبادرة إلا في الأمور التنفيذية والتنسيقية. في حين أن المؤسسة الملكية هي من تضطلع بمهمة وضع السياسة الخارجية وهي المسير الفعلي والمحدد للمسار العام لتوجهات هذا الجهاز، هذا ما عبر عنه الوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون السيد يوسف العمراني في حوار مع إحدى الصحف الوطنية حيث قال: “…الدستور الجديد واضح، ومضامين السياسة الخارجية واضحة في الدستور كما هي الأهداف الأساسية، وجلالة الملك دوره أساسي في العلاقات الخارجية، فهو يسطر الأهداف الخارجية، وهذا موجود في جميع الدول على اعتبار أن السياسة الخارجية ميدان لرئيس الدولة .

المطلب الثالث: البرلمان

تمارس المؤسسات التشريعية عددا من الوظائف، تتفاوت في مجالها ونطاقها، وذلك حسب الأسس الدستورية المعتمدة، وكذا تبعا لمدى التطور الديمقراطي داخل كل دولة. ولا يقتصر دور البرلمان على مهام واختصاصات داخلية فقط وإنما صلاحياته تمتد إلى النطاق الخارجي.

ويستمد البرلمان المغربي دوره كمساهم في بلورة السياسة الخارجية من مبدأين دستوريين كرستهما مقتضيات دستور 2011 وهما مبدأ المراقبة البرلمانية، ومبدأ الموافقة من أجل التصديق على المعاهدات.

1- مراقبة البرلمان للسياسة الخارجية للحكومة: طبقا لمقتضيات الفصل 75 من دستور2011 يملك البرلمان الحق في التصويت وإقرار القانون المالي . غير انه يبقى للحكومة أن ترفض -وفق بيان الأسباب- المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية أو إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود طبقا لما هو منصوص علية في الفصل77. إمكانية الرفض هذه جاءت منسجمة مع مقتضيات الفصل 49 الذي ينص أن المجلس الوزاري وليس البرلمان هو الذي يحسم في التوجهات العامة لمشروع قانون المالية . كما ظل دستور 2011 يكرس غياب ممثلي الأمة في مرحلة إعداد مشروع قانون المالية المحدد والمؤطر للسياسة المالية للدولة لمدة سنة كاملة، باعتبار إعداد مشروع قانون المالية إحدى آليات المراقبة القبلية للأداء الحكومي.

كما يعتبر التصويت على البرنامج الحكومي طبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 88 والذي يتضمن الخطوط الرئيسية لعمل الحكومة ومن ضمنها ما يتعلق بميدان السياسة الخارجية بمثابة مراقبة للعمل الحكومي في هذا المجال.

ودائما في إطار السلطات الرقابية للبرلمان، ينص الدستور الجديد على أن رئيس الحكومة يعرض أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، كما يخصص البرلمان جلسة سنوية لمناقشة وتقييم السياسات العمومية طبقا لمقتضيات الفصل 101. كما تنص مقتضيات الفصل 102على إمكانية اللجان المعنية في كلا مجلسي البرلمان أن تطلب الاستماع إلى مسؤولي الإدارات والمؤسسات والمقاولات العمومية بحضور الوزراء التابعين لهم- بمن فيهم وزير الشؤون الخارجية والتعاون- وتحت مسؤوليتهم.

كذلك تعتبر الأسئلة البرلمانية الموجهة للحكومة في المجال الخارجي بمثابة مساهمة في صنع السياسة الخارجية التي تدخل ضمن مجال البرلمان، وذلك وفق الفصل 100 من الدستور والذي خصص بالأسبقية جلسة في كل أسبوع لأسئلة أعضاء مجلسي البرلمان وأجوبة الحكومة بحيث يكون ذلك برد الوزير المكلف بالشؤون الخارجية على أسئلة الأعضاء في المجال المتعلق بتحركات المغرب في المجال الخارجي.

وتجدر الإشارة إلى أن الدستور الحالي قد أعطى المعارضة البرلمانية كمكون رئيسي في الحقل السياسي الوطني حقوقا تمكنها من المساهمة في الدفاع عن قضايا ومصالح المغرب. ومن بين هذه الحقوق وفقا لما هو منصوص عليه في الفصل 10 من الدستور الحالي نجد:

– المشاركة الفعلية في مراقبة العمل الحكومي، لاسيما عن طريق ملتمس الرقابة، ومساءلة الحكومة، والأسئلة الشفوية الموجهة للحكومة، واللجان النيابية لتقصي الحقائق؛

– المساهمة الفاعلة في الدبلوماسية البرلمانية، للدفاع عن القضايا العادلة للوطن ومصالحه الحيوية.

التنصيص الدستوري على دور المعارضة في هذه المجالات يأتي في إطار سعي المغرب إلى تطوير وتحديث عملية صنع القرار في السياسة الخارجية .

2- مبدأ الموافقة من اجل التصديق على المعاهدات:

تنص الفقرة الثانية من الفصل55 من الدستور الحالي على أن: “الملك يوقع على المعاهدات ولا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أوتمس بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين العامة والخاصة إلا بعد الموافقة عليها بقانون”.

هذه المقتضيات تبين أن الدستور الحالي قد وسع من مجال الموافقة البرلمانية من حيث المبدأ على المعاهدات الدولية، مقارنة مع الدساتير السابقة للمملكة والذي كان يقتصر دور البرلمان فيها على الموافقة بقانون على المعاهدات التي تلزم مالية الدولة فقط. لكن مقتضيات هذه الفقرة تثير ملاحظة جوهرية تتمثل في أن دستور 2011 جاء خاليا من تعريف المعاهدات الملزمة لمالية الدولة مكرسا بذلك الإشكالية التي كانت تثار إبان فترات دساتير المملكة السابقة تاركا بذلك المجال للسلطة التقديرية للحكومة للتمييز بين المعاهدات الملزمة لمالية الدولة عن غيرها من المعاهدات الأخرى.

موافقة البرلمان على المعاهدات الواردة في الفقرة الثانية من المادة55 -لا يوجد مثال واحد في التاريخ الدستوري للمغرب لقيام مجلس النواب برفض إعطاء الإذن بالمصادقة- تتجسد من الناحية العملية في قانون يقضي بالموافقة على مبدأ المصادقة. لكن هذا القانون يختلف عن القوانين الأخرى من حيث الشكل وكيفية المناقشة، من حيث الشكل يعطي البرلمان موافقته في شكل قانون يتكون من فصل فريد بحيث يتم التعبير عن الموافقة في بضعة سطور . ومن حيث المناقشة فقد أشارت الفقرة الثانية من المادة 140 من النظام الداخلي لمجلس النواب كما صادق عليه المجلس بتاريخ 13-02-2012 إلى عدم التصويت على مواد المعاهدة أو الاتفاقية الدولية، ولا يجوز تقديم أي تعديل بشأنها. ومنه يمكن القول أن أعضاء البرلمان ليس لهم التدخل في تعديل المواد التي تتكون منها المعاهدة المعروضة عليهم، وإبداء التحفظات على بعض بنودها لان هذه المواد تم اعتمادها نهائيا من جانب المفاوضين المغاربة بالتوقيع عليها، وإبداء أي تحفض من جانب النواب يعني التدخل في عملية التفاوض التي هي من اختصاص السلطة التنفيذية.

يتضح إذن مما سبق أن صلاحيات البرلمان تبدو واسعة ظاهريا في مجال صناعة السياسة الخارجية إلا أن الواقع يثبت محدوديته فليس له سلطة التدخل في أي مرحلة من مراحل إبرام المعاهدات باستثناء الإذن بالمصادقة على المعاهدات الواردة في الفقرة الثانية من المادة55 .

المبحث الثاني :الفاعلون الجدد في رسم معالم السياسة الخارجية

إذا كان ينظر في السابق إلى السياسة الخارجية على أنها مجال محفوظ للملك، فيمكن القول أن هذه النظرة أصبحت تتلاشى وتفقد قوتها في خضم المستجدات والتحولات المتسارعة الخارجية منها والداخلية، والتي دفعت الصانع الفعلي للسياسة الخارجية للانفتاح على فاعلين جدد كالأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، وفعاليات المجتمع المدني لبلورة سياسة تشاورية منتجة وفعالة في المجال الخارجي.

هذا التوجه الجديد برز في مناسبات عدة، ففي خطابه أثناء افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان في 14 أكتوبر 2011 دعا جلالة الملك إلى رد الاعتبار إلى العمل السياسي النبيل وأشار إلى دور الفاعلين الجدد في تأهيل العمل السياسي حيث قال: “… كما تشمل هذه التحديات التأهيل الذاتي للأحزاب، والتي لا ديمقراطية حقة بدونها، وذلك من اجل انبثاق مشهد سياسي معقلن وفعال. وبموازاة ذلك، فإن دسترة المشاركة الوطنية، يمر عبر تعزيز انخراط الفاعلين الجدد، من مواطنين وهيئات المجتمع المدني ونقابات وقوى منتجة، ووسائل الإعلام كشريك بناء في بلورة وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية والمشاريع التنموية والاقتراحات التشريعية”. وللوقوف على دور الفاعلين الجدد في مجال السياسة الخارجية طبقا لدستور 2011 سنعمل على التطرق إلى دور الأحزاب السياسية، المنظمات غير الحكومية، وفعاليات المجتمع المدني.

المطلب الأول: الأحزاب السياسية

تؤدي الأحزاب السياسية وظائف متعددة تمس مجالات عدة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. فهي فضاء يوفر فرصة مناسبة لكل أفراد المجتمع في المساهمة والمشاركة في عملية صنع القرار السياسي، حيث تقوم هذه الأحزاب بتجميع وبلورة وجهة نظر سياسية واحدة على مستوى الحزب، والتعبير عنها أمام الهيئات السياسية.

ولقد تطرق “مارسيل ميرل” إلى دور الأحزاب السياسية في السياسة الخارجية حيث اعتبر أنها ليست فقط أجهزة لممارسة السلطة، لكنها في نفس الوقت وسيطة بين الحاكم والمحكوم لذا يجب أن تكون المحاور الممتاز في إعداد السياسة الخارجية. فعلاقتها بالسلطة تحتم عليها أن تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الدولية للمشاكل حينما تقوم بصياغة برامجها الدعائية، وأن تقوم في علاقاتها بالرأي العام بالتوسط والمصالحة الطبيعية بين المطالب المنبعثة من النظام السياسي الداخلي والضغوط المتولدة عن المحيط الدولي .

وبالنسبة للأحزاب السياسية المغربية فان معظمها لم تعبر عن موقف سياسي واضح فيما يتعلق بالسياسة الخارجية حيث ظل ينظر إلى هذه الأخيرة باعتبارها من مشمولات الملك، ليقتصر دورها في كثير من الأحيان على تفسير وشرح الطرح المغربي الرسمي حول القضية الوطنية، وتنفيذ بعض جوانب السياسة الخارجية المعدة سلفا من قبل المؤسسة الملكية . غير أن الدستور الحالي في فصله السابع نص على دور الأحزاب السياسية في تدبير الشأن العام للبلاد ممؤسسا بذلك لدور الأحزاب كمساهم في مجال السياسة الخارجية. وهذا ما يمكن أن نلمسه من خلال اللقاء الذي عقده وزير الخارجية والتعاون مع قادة الأحزاب السياسية في 3 يوليوز 2012 حيث جاء هذا اللقاء التواصلي التشاوري بين الوزارة والأحزاب السياسية في إطار انفتاح الحكومة على فاعلين جدد في الحقل السياسي الخارجي، وكذا في إطار استحداث آليات للتشاور مع الأحزاب لدعم القضايا العليا للوطن، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية . إن هذا النوع من اللقاءات له دلالات عميقة تعد كمؤشر قوي لتنزيل مقتضيات الدستور الجديد.

المطلب الثاني: المنظمات غير الحكومية

تعرف المنظمات غير الحكومية على أنها مجموعات طوعية، لا تستهدف الربح، ينظمها مواطنون على أساس محلي أو قطري أو دولي. فعندما تكون عضوية المنظمة أو نشاطها مقصوران على بلد معين، تعتبر منظمة غير حكومية وطنية، أما إذا تجاوزت أنشطتها حدود البلد المعني، فتصبح منظمة غير حكومية دولية.

ووفقا لوثائق الأمم المتحدة الصادرة في عام 1994، المنظمة غير الحكومية تمثل كيانا غير هادف للربح وأعضاؤه مواطنين أو جماعات من المواطنين ينتمون إلى دولة واحدة أو أكثر وتتحدد أنشطتهم بفعل الإرادة الجماعية لأعضائها، استجابة لحاجات أعضاء الجماعات التي تتعاون معها المنظمة غير الحكومية.

وبصرف النظر عن بعض الاختلافات الشكلية الموجودة بين مختلف هذه التعريفات وغيرها يمكن القول أن العناصر الأساسية اللازمة لقيام منظمة غير حكومية هي:

– عنصر الاستقلال المالي: توجد جهات محلية ودولية متخصصة بالدعم المالي للمنظمات غير الحكومية؛

– عنصر العمل التطوعي: تعتمد المنظمات على الخدمات شبه المجانية والمجانية، التي يقدمها المنخرطين فيها والمتعاطفين معها، وقلة من العاملين الدائمين فيها لقاء أجر معقول؛

– عنصر الاستقلالية: تدير المنظمة أنشطتها ذاتيا، مع إمكانية إقامة علاقات عامة مع مختلف الجهات الفاعلة في الدولة والمجتمع؛

– عنصر عدم استهداف الربح في العمل: وينطبق ذلك على المنظمات التي وإن حققت ربحا في أنشطتها، فإنها توجهه إلى الغرض من تكوينها.

ويتأثر أداء المنظمات غير الحكومية بمستوى التطور في البناء الديمقراطي للمؤسسات السياسية والدستورية، الذي يتيح لمنظمات المجتمع المدني أن تمارس دورها الاجتماعي بشكل حضاري وفق تقاليد ديمقراطية ومن تم تأثيرها على المسار السياسي وقراراته. إضافة إلى جملة من العوامل الأخرى المؤثرة نذكر منها نوعية القوى والحركات الفاعلة في الساحة السياسية، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة ومستوى تطورها ونموها، مستوى العلاقات الدولية والإقليمية، وحجم الاتفاقات والمعاهدات المبرمة من طرف الدولة . كما يتفاوت دور هذه المنظمات حسب درجة انفتاح النظام السياسي ونعني به انفتاح الدولة والحكومة على مصادر المعلومات المؤسسة لعملية صنع القرار، والتي تكون قاعدتها الرئيسية منظمات المجتمع المدني.

ثمة اهتمام ونزعة عالمية نحو تقوية المنظمات والمؤسسات غير الحكومية المحلية والإقليمية والدولية، وإنمائها وإعطائها أدوارا مؤثرة على مراكز اتخاذ القرارات السياسية الداخلية والخارجية. وأمام هذه التحولات العالمية أصبح اعتماد المقاربة التقليدية في صنع السياسة الخارجية أمرا متجاوزا، واستلزم الأمر نهج مقاربة جديدة تشاورية تكاملية تهدف إلى إشراك فاعلين جدد في مجال السياسة الخارجية.

فالانفتاح على رؤى وتصورات جديدة -تعكس توجهات مختلف المهتمين والمتتبعين للشأن الخارجي- في عملية اختيار التوجهات الإستراتيجية الكبرى المؤطرة للدبلوماسية ستفتح باب التنسيق والتكامل في بلورة التوجهات الاستراتيجيات العامة للدبلوماسية بشقيها الرسمي والعام، وستوسع من رقعة قبول هذه التوجهات، كما ستبعد خطر التنافر والتناقض عن الأهداف العامة للدبلوماسية.

ودستور 2011 اعتمد هذه المقاربة التشاركية في صناعة السياسات الخارجية حيث تم التنصيص على دور فعاليات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في المساهمة في السياسة الخارجية في إطار ما يسمى بالدبلوماسية الموازية أو الدبلوماسية الشعبية.

ويعد الملتقى الأول للدبلوماسية غير الحكومية في المغرب الذي عقد تحت عنوان “نحو رؤية جديدة للدبلوماسية العامة” بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط يومي27 و28 ماي 2012 المنظم من طرف الجمعية المغربية للتنمية والدبلوماسية الموازية ، مؤشرا على الانفتاح على ادوار ومبادرات المجتمع المدني الرامية إلى تعزيز صورة مكانة المغرب والتعريف والدفاع عن قضاياه وقيمه عبر الدبلوماسية العمومية، هذا بالإضافة إلى تعزيز التواصل والشراكة بين المجتمع المدني والسلطات العمومية وفي نفس السياق تمت هيكلة وزارة الشؤون الخارجية والتعاون وذلك بإنشاء مديرية الدبلوماسية العامة والفاعلين غير الحكوميين قصد ترجمة مبدأ المشاركة الحقيقية للفاعلين غير الحكوميين في صناعة السياسة الخارجية وخلق إطار مؤسسي عام لتنسيق السياسات والتحركات الرسمية مع المبادرات الشعبية في ضوء أهمية العمل على التكامل لتعزيز مواقف الدبلوماسية المغربية وخدمة القضايا الوطنية والمصالح الخارجية للمغرب.

المطلب الثالث: المجتمع المدني

يعود ظهور مصطلح المجتمع المدني إلى فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين تعاملوا مع العلاقات التنسيقية والتعاونية بين الأفراد، باعتبارها علاقات منشئة للمجتمع وحافظة لاستقراره، ثم تطور المفهوم، ليوصف باعتباره شبكة من التفاعلات التلقائية القائمة على العادات والأعراف والتقاليد، ليميز عن الدولة، التي توصف بأنها مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية التي تمارس في إطارها شبكة العلاقات المكونة للمجتمع. ورغم هذه الجذور التاريخية للمفهوم، إلا أن استخدامه بشكل مكثف في أدبيات السياسة المقارنة ارتبط بعقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وما صاحبهما من تطور في اتجاه الديمقراطية. وعليه فان مفهوم المجتمع المدني قد ولد في رحم البناء الديمقراطي، فأصبح يعبر عن مجموعات المنظمات الاجتماعية غير الحكومية، التي تتمتع باستقلاليتها عن الدولة، تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين وكذا لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة. وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام، والتراضي، والتسامح؛ والمشاركة، والإرادة السلمية للتنوع والاختلاف، فتحتل مكانا وسطا بين الدولة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، فتحفظ بذلك للدولة دور التوازن المعبر عن إرادة القاعدة الشعبية الاجتماعية، وتمثل المؤشر الاجتماعي للحكومة والضمانة للثوابت الديمقراطية فيها. ولجهة الحكومة فان المجتمع المدني يمثل الضمان لحصولها على الثقة الشعبية، والمصدر الحيوي لاختيار الائتلاف السياسي وتكليفه لتشكيلها .

وللمجتمع المدني بهذا المفهوم أربعة مقومات أساسية هي :

– الفعل الإرادي الحر أو التطوعي؛

– التواجد في شكل منظمات؛

– قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخرين؛

– عدم السعي للوصول إلى السلطة.

طبقا لهذا التعريف يدخل في دائرة مؤسسات المجتمع المدني أي كيان مجتمعي منظم يقوم

على العضوية المنتظمة تبعا للغرض العام أو المهنة أو العمل التطوعي وبالتالي فإن أهم مكونات المجتمع المدني هي: النقابات المهنية، الأحزاب، الصحافة، المنظمات غير الحكومية، الحركات الاجتماعية، الجمعيات التعاونية والثقافية، مراكز الأبحاث والدراسات…

وقد تعاظم دور المجتمع المدني وأصبح يحظى باهتمام كبير لما يساهم به من مجهودات ذات طابع اجتماعي وتنموي، ولعل ابرز الدوافع التي مكنت المجتمع المدني من تبوء هذه المكانة، هو تراجع الدولة عن التدبير المباشر لمختلف القطاعات، وكذا استجابة الدولة لمطالب قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، الشيء الذي افرز إرادة سياسية لمختلف الدول ومنها المغرب لإشراك مختلف المتدخلين بسياسات وبرامج الحكومة الداخلية منها والخارجية.

وإيمانا بأهمية الدور الذي أصبحت تحظى به فعاليات المجتمع المدني نص الدستور الجديد للمملكة على مساهمة الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية ،في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة ،طبق شروط وكيفيات يحددها القانون . كما تم التنصيص على إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها . ولم يقتصر الدستور الجديد على دور التنظيمات المهيكلة في مجال السياسة الخارجية بل أتاح هذه الإمكانية حتى للمواطن العادي حينما أعطى الحق للمواطنات والمواطنين في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، وأكد على واجب الدولة على تقوية مساهمة المغاربة القاطنين بالخارج في تنمية بلدهم، وكذا تمتين أواصر الصداقة والتعاون مع حكومات ومجتمعات البلدان المقيمين بها أو التي يعتبرون من مواطنيها . كما حث الدستور الجديد على مساهمة كل المواطنات والمواطنين في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية تجاه أي عدوان أو تهديد .

يتبين من خلال هذه المقتضيات الدستورية أن مشاركة قوى المجتمع المدني المغربي في السياسة الخارجية يأتي ضمن سياسة عامة تسعى الدولة إلى تحقيقها عبر خلق مؤسسات، وميكانيزمات، وآليات التنسيق بين الدولة وهذه القوى لتحقيق الأهداف المشتركة.

ولنجاح هذه المقاربة التشاركية لا بد أن تستند على مبدأين ،التواصل والاستقلال النسبي. فإذا استأثرت الدولة بصياغة سياستها الخارجية، وتغافلت التنسيق والتواصل مع قوى المجتمع فسوف يستمر نهج السياسة الخارجية التي يصنعها الفاعل الأوحد. وإذا ركزت على التواصل والاستجابة لتوجهات معينة دون غيرها، فسيعني ذلك أن مؤسسات الدولة أصبحت تنفد رؤية اتجاه محدد. ونفس الشيء ينطبق على قوى المجتمع فلا يمكن أن تدير هذه الأخيرة علاقتها بالخارج، بمعزل عن الدولة وأهدافها وقوانينها .

خاتمة:

إن الدستور الجديد وما حمله من مقتضيات دستورية جديدة، يكرس في عمقه لنفس المعطى التقليدي الذي ساد في ضل الدساتير السابقة للمملكة في شأن صنع وبلورة السياسة الخارجية، إذ تبقى دائما شأنا ملكيا خالصا. فالقضايا الهامة والاختيارات الإستراتيجية للمملكة على كافة المستويات تبقى بيد الملك وتندرج ضمن دائرة اختصاصاته في إطار المجلس الوزاري .

أمام هذه السلطة التقريرية الواسعة التي تتمتع بها المؤسسة الملكية في صنع السياسات العامة للدولة سواء الداخلية منها أو الخارجية يبقى لرئيس الحكومة وباقي الوزراء تنفيذ وأجرأة ما تم اعتماده وإقراره من طرف الملك، بينما تضل أدوار الفاعلين الجدد تتأرجح بالأساس بين الترويج و تفسير وشرح الطرح المغربي الرسمي حول القضية الوطنية.

من إعداد:

دة: بهدين نوال، أستاذة باحثة -كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا

قد يعجبك ايضا