المؤسسة الملكية في عهد العاهل المغربي الملك محمد السادس

سميــة بــومــروان

تقديم:

إن إنبثاق المؤسسة الملكية في بلد كالمغرب الذي يعيش قدرا كبيرا من الخصوصية الحضارية والسياسية يشكل ظاهرة سياسية مما أضفي عليها مسحة سياسية جد متميزة مانحا لها عبر امتداد اثني عشر قرنا مشروعيات متعددة تجعلها مؤسسة المؤسسات .
إذ تعتبر المؤسسة الملكية احدي الركائز الأساسية للنظام السياسي والمغربي، حيث تستمد شرعيتها من تاريخها العريق وكذا من بعدها الديني، إذ يمتد انتسابها الي العرق الشريف المتصل بالأصل النبوي.
فهذا الانتساب جعل الملكية تتمتع باستثناء، خاصة منذ ترسخها كنظام للحكم في المغرب.

إن المؤسسة الملكية بالمغرب تستمد أسسها وأليات اشتغالها من قوانينها الأصلية والمتأصلة، بحيث لا تخضع لمقاربة الملكيات الأوروبية فهي غنية بأبعادها الدينية وبتميزها وتجدرها في الجدور التاريخية المغربية.

إن للمغرب ميزة تاريخية لا تمتلكها أية بلاد إسلامية على نفس الدرجة، ذلك أن الدولة التي أقامها الأدارسة في فاس منذ بداية القرن التاسع علي نمط إسلامي امتازت باستمرارية تاريخية ملحوظة تواصلت حتي يومنا هذا، حيث أسست قواعدها بالمغرب على يد المولي إدريس الأول سنة 172 هجرية الموافق 788م، اذ كان السلطان يتولي زمام الدولة ويحتكر سلطات واسعة ، معتمدا في ذلك المشروعية(إمارةالِمِؤمنين)والتاريخية (تجربة قرون) والتعاقدية (البيعة) والدستورية (القانون الوضعي). ولا نفهم من هذا أن التاريخ السياسي يبدأ من هذه الحقبة ،أي حقبة الأدارسة، بل إن التاريخ السياسي للمغرب يبدأ منذ قيام المماليك الأمازيغية، ومنذ حلول القوى الكبرى التا ريخية التي أثرت على تاريخ المغرب كالفراعنة والفنيقنيين والوندال والاغريق والرومان، مرورا بدخول الإسلام وتطور حضارات الزناتيين والأدارسة والبرغواطيين والمرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين والسملاليين والعلويين. على أساس هذه الاستمرارية والي حدود عهد الحماية بالمغرب، الذي أدخل نظاما مؤسساتيا الي الحقل السياسي ، عرف المغرب بعد الاستقلال حركة طويلة من أجل مأسسة العمل السياسي، وأسفرت عن أول دستور للمملكة سنة 1962 والذي قام بانشاء المؤسسات وحدد صلاحيات، واثر هذا الدستور أن يمنح للمؤسسة الملكية مكانة سامية، تكون بموجبها على رؤوس كل المؤسسات الاخرى (مؤسسة البرلمان، مؤسسة القضاء، مؤسسة الحكومة) بحيث مكنها من صلاحيات واسعة وتشمل هذه الصلاحيات، صلاحيات قضائية وتنفيذية وحتي تشريعية. بمقتضي الفصل 19 الذي يقول: الملك أمير المؤمنين، رمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمي الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة .فالفصل هنا يقرر أساسية للملك وهي الصفة الدينية، باعتباره أميرا للمؤمنين.. وحامي حمى الدين. وعلى طول الدساتير التي ستلى لاحقا، أي دساتير 1970،1972،1992،1996 بني الملك الحسن الثاني رحمه الله ، ومن قبله الملك محمد الخامس طيب الله ثراهما في ظروف حرجة مشروعيتهما، وبفضل نفوذ تلك الاستمرارية في الحس الجماعي للمغاربة استطاع المغرب أن يخطو خطوة حاسمة في طريقه الي التحرر بإعلانه دولة القانون في دساتيره. وحتي دستور 2011،الذي شكل محطة حقيقية لمواصلة بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، إذ حفل بمستجدات عديدة لعل أهمها تنصيص الفصل الأول من الدستور على كون نظام الحكم بالمغرب ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية، وهو مستجد له تجلياته الواضحة من خلال ارتقاء المشرع الدستوري مؤسسة رئيس الحكومة وتخويلها مجموعة من الصلاحيات التي كانت من الاختصاصات الخاصة بالمؤسسة الملكية، اضافة الي الارتقاء بالقضاء الي سلطة قضائية وبالبرلمان كممثل وحيد للأمة .

فقد جاءت طبيعة المؤسسة الملكية من حيث الجوهر وغالبا حتي الشكل لازالت تحافظ على روحها ،إذ أن مجالات التحرك السياسي والدستوري في المغرب، تخول للمؤسسة إمكانية التحكم في سائر المؤسسات ليصبح المسلسل الدستوري في المغرب مسلسلا للمحافظة على السلطة حسب الباحث الأمريكي”جون واتربوري” .
ولم يكن بإمكان المغرب تحقيق هذا الهدف لولا وجود الملكية كمقوم أساسي انخرط ضمنيا في النسيج الحضاري والتاريخي والثقافي والمجتمعي للأمة المغربية، فنحن اليوم أمام أقدم مشروعية تاريخية تحيلنا الي أقدم العروش العالمية ، حيث ترصد الباحثة الفرنسية ماكالي مورسيM.Morsy هذه الحقيقة بالقول :”إن الملك لا يشكل قوة مجهولة، بل إنه هو ذاته حقيقة تاريخية.” فماضينا مازال حاضرا في حاضرنا ويؤثر في مستقبلنا، إذ لم يخطأ الباحث الفرنسي كلود بلا زوليC.Palazoli حينما أكد علي أنه لفهم المغرب السياسي لا بد من العودة للتاريخ .فالمغرب تكون كأمة وكدولة مع مجيئ الأدارسة الذين وضعوا النواة الاولي للدولة المغربية لتتشارك هذه الدولة عقب صيرورة تاريخية طويلة عرفت بداخلها حالة من المد والجزر أفضت في نهاية المطاف الي تحقيق الانصهار الوطني بعدما كان المغرب عبارة عن قبائل من فروع متعددة، حيث جاء هذا الانصهار عبر ثلاث مقومات أساسية، فهناك انصهار سار في اتجاه كنف الأمة وأخر سار في اتجاه كنف الدولة وثالث عمل على توحيد كل هذه المقومات ألا وهي المؤسسة الملكية.

إن ما يمنح المؤسسة الملكية ميزة سمو الدستوري والسياسي في بنية النظام السياسي المغربي، ويضفي عليها طابع الخصوصية السياسية مقارنة مع باقي المؤسسات الدستورية الأخرى هو تلك التعددية في المشروعيات القوية التي تتمتع بها، الملكية بالمغرب ليست نابعة من قانون سماوي كما يريد البعض ان يتصوره ويفهمه، بل نابعة من قانون ديني وشعبي، يرتكز أساسا علي البيعة والتاريخ والكفاح المشترك بين العرش والشعب المغربي.

وبفضل الجدور التاريخية والاعتبارات الدينية والمعطيات السوسيولوجية لشعب المغربي عدت الملكية مؤسسة المؤسسات، فمنها تستمد باقي المؤسسات الدستورية الأخرى شرعيتها ومشروعيتها لكونها الضامن السياسي للأمة المغربية أجمعها. ،حيث ترتتكز المؤسسة الملكية في مغرب اليوم علي خمس مشروعيات تتركب أولها من المشروعية الرمزية المتمثلة في النسب الشريف، وثانيها من المشروعية الدينية المتجسدة في البيعة، وثالثها من المشروعية التاريخية الكامنة في الإستمرارية علي امتداد اثني عشر قرنا، ورابعها من المشروعية الوطنية المتمثلة في المواقف الوطنية التي قادتها المؤسسة الملكية من أجل إخراج المستعمر الأجنبي من المغرب وخامسها من مشروعية الفعل والإنجاز المتجلية في القيادة الفعلية التي باشرها العاهل المغربي محمد السادس من خلال تدشينه لمختلف مبادرات التنمية الشاملة لمغرب القرن الواحد والعشرين، حيث لا يمكن التفكير مغربيا في موضوع الانجازات والاصلاحات السيوسيواقتصادية وغيرها دون اثارة علاقاتها الممكنة وترابطاتها المفترضة مع المؤسسة الملكية، إذ طورة المؤسسة الملكية في بداية عهد الملك محمد السادس خطابا يعتبر الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي أولويه عمل أساسية منطلقا من قراءة معينة للتاريخ ، تجعل من عهد محمد الخامس عهدا للاستقلال الوطني، ومن عهد الحسن الثاني عهدا لبناء المؤسسات، وهذا ما يترك للملك محمد السادس المهمة التي تواترت خطبة على نعتها بالجهاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي .

وهكذا كثيرا ما تخللت هذا الخطاب السياسي الملكية في بداياته نبرة تتعامل مع المنجز السياسي المغربي كمنجز مكتمل البناء والحلقات، وتقدر أن الوقت قد حان للتوجه الي الأهم وهو التحدي الاقتصادي في انجاز المشاريع الكبرى .

إن هذا التوجه لم يحد عنه العاهل المغربي محمد السادس، فقد منح ديناميكية جديدة ومجددة للمؤسسة الملكية في قلب المنظومة السياسية المغربية مانحا لها مهاما لا سلطا أو وظائف أو اختصاصات.

إن ما يميز عهد الملك محمد السادس هو ارتكازه علي الجدية في الفعل والإنجاز Sérieux dans l’action et la réalisation المتجسدة في تلبية المطالب المجتمعية إما علي الصعيد السياسي أو اقتصادي أو المجتمعي ، فالمؤسسة الملكية تركز اليوم على الإنجازات الملموسة في الميدان، وتترجم المشاريع الاقتصادية الكبرى ومبادرات التنمية البشرية وتعزيز البنيات التحتية وتأهيل الحقل السياسي بإجراءات تدبيرية ملموسة المعالم لتكريس مشروعية الفعل والإنجاز التي أمسى المواطن المغربي يلمسها في كل المجالات ، وهذا ما أكد عليه جلالة الملك محمد السادس في الخطابات الملكية، حيث جاء في نص الخطاب الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس للأمة بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه الميامين، يؤكد على أهمية الجدية بقوله “أن المغاربة معروفون على الخصوص بالجدية والتفاني في العمل.. فكلما كانت الجدية حافزنا، كلما نجحنا في تجاوز الصعوبات ، ورفع التحديات..واليوم، وقد وصل مسارنا التنموي إلى درجة من التقدم والنضج، فإننا في حاجة إلى هذه الجدية، للارتقاء به إلى مرحلة جديدة، وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى، التي يستحقها المغاربة.. والجدية يجب أن تظل مذهبنا في الحياة والعمل، وأن تشمل جميع المجالات:

الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية: من خلال خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة. وفي المجال الاجتماعي، وخاصة قطاعات الصحة والتعليم والشغل والسكن.

“كما أن الجدية التي نريدها، تعني أيضا الفاعلين الاقتصاديين، وقطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال.والجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص .”

ومن هنا يمكن القول ان المؤسسة الملكية في عهد الملك محمد السادس تتميز بالجدية والصرامة في تدبير شؤون البلاد بحزم وتفاني من خلال عدت انجازات واصلاحات عاشها المغرب ولا زال .
حيث أن المؤسسة الملكية الضاربة بجدورها في عمق التاريخ المغربي والمتمتعة بمشروعيات تاريخية، دينية، وطنية وسياسية، أضفي عليها العاهل الملكي محمد السادس مشروعية الجدية في الفعل والانجاز والحزم لتحتل المؤسسة الملكية موقعا متميزا في بنية النظام الدستوري والسياسي المغربي .

كما تم تأسيس دولة ذات بعد اجتماعي نجحت في تأسيس مناخ سياسي ودستوري ومؤسسي مكن من بناء دولة ديموقراطية وتجربة حقوقية تسمح للاقتصاد بالتطور بالرغم من الصعوبات.
حيث أن جلالة الملك محمد السادس بجديته ورؤيته الاستراتيجية، تجاوز العديد من الأزمات وأصعبها أزمة جائحة كورونا التي اظهرت الدور المهم الذي لعبته المؤسسة الملكية في ظل تداعيات هذه الأزمة وما خلفته من أزمات متتالية علي صعيد العالم .

إذ كانت له القدرة على وضع رؤيا استباقية للحد من تداعيات الجائحة بالعمل علي تخطيط استراتيجي معقلنا مكن المغرب دون غيره من التصدي لأزمة الجائحة التي لا زال تأثيرها علي المغرب والعالم الي يومنا هذا. لكن المغارب تحت القيادة السامية لجلالة الملك محمد السادس استطاعوا أن يشقوا طريقهم بالعمل الجدي والحازم لنهوض بالمغرب علي كل المستويات خاصة السيوسيواقتصادية .

وبفضل جدية جلالة الملك تحولت المغرب إلى دولة ذات تأثير في محيطها الإقليمي والقاري والعربي والدولي، وذات رسالة قيمية تتأسس على منجزات في أرض الواقع جعلت من المغرب دولة صاعدة بكل المقاييس، حيث أن التطور الذي بات يشهده المغرب في جميع المجالات من شأنه أن يرتقي بالمملكة إلى مصاف الدول المتقدمة.

لائحة المراجع:

1- احسان محمد الحسن “علم الاجتماع السياسي” المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت 1992
2- أحمد الخنبوبي،بحث حول علم السياسة في المغرب، تحت إشراف الدكتور عادل المساوي، مجلة أدليس،عدد15/ 2015
3- حسن طارق “الملكية والاصلاح”موقع www.aljabriabed.net
4- خطاب ملكي أمام مجموعة من الفاعلين الاقتصاديين بالجرف الأصفر بتاريخ 25 شتنبر 200،تم خطاب العرشلعام 2000
5- د.محمد زين الدين “كتاب المؤسسة الملكية في مغرب العهد الجديد الطبعة 2009 ص83
6- المؤسسة الملكية في دستور 2011 www.elkanounia.com
7- دساتير المملكة المغربية 1962/1970/1972/1990/1992/2011
8- -د.محمد زين الدين “كتاب المؤسسة الملكية في مغرب العهد الجديد” ط2009ص100
9- رشيد العيادي-“المؤسسة الملكية بالمغرب وأدوارها السياسية من خلا دستور 2011 مقاربة سيوسيوقانونية-منشور موقع الباحث القانوني -www.albahit.com
10- الشلالي الشلالي، البيعة في النظام السياسي المغربي،مجلة مسالك، العدد49/ 50
11- الفصل التاسع عشر من الدستور المغربي سنة 1962، الباب الثاني الخاص بالملكية
12- محمد أكون”دولة القانون أو التحرير الثاني للمغرب الكبير”مجلة المناهل-العدد41-السنة 19-نشر وزارة الثقافة-الرباط-1993
13- مقتطف من نص الخطاب الملكي الدي يتزامن مع الدكري الرابعة والعشرين لتربع جلالة الملك علي عرش أسلافه الميامين لسنة 2023
14- مقتطف من نص حوار جلالة الملك الحسن التاني مع القناة التلفزية الفرنسية بتاريخ 3شتنبر 1992 نص الحوار منشور ضمن سلسلة خطب وندوات صاحب الجلالة.
15- المؤسسة الملكية في دستور2011 www.elkanounia.Ma
16- د.جون وتربوري”كتاب أمير المؤمنين”
 V.C.Palazoli –le Maroc politique-op.cit-p.19
 V.M Morsy ‘revue ronéotypée’ paris. 1975-p.

 

معلومات حول الكاتبة/الباحثة:

سميــة بــومــروان
بـاحثة بسلك الدكتوراه
مختبر السياسات العمومية
بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية
جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء

قد يعجبك ايضا