مؤسسة قاضي التحقيق بين ضمانات المحاكمة العادلة ورهان إصلاح منظومة العدالة الجنائية

من إعداد سحر الراضي طالبة باحثة في المجال الجنائي بسلك الماستر، كلية الحقوق طنجة

.

مما لا شك فيه ان مؤسسة قاضي التحقيق شكلت دورا محوريا في الخصومة الجنائية، وذلك منذ العمل بها بظهير 1959، مرورا بظهير الإجراءات الانتقالية، إلى حين التعديلات الأخيرة التي شهدتها المسطرة الجنائية بمقتضى القانون الحالي، التي ارتقت بالمفهوم الحقوقي لهذه المؤسسة، من خلال وضع معادلة حق الدولة في استخلاص العقاب، وضمان الحفاظ على الحقوق والحريات الفردية للمشتبه فيه والمتهم، إذ تعد مرحلة التحقيق الإعدادي من المراحل المفصلية بين الحرية والاعتقال، مرحلة تتوسط كل من المتابعة والمحاكمة، ذلك من خلال فتح تحقيق في الخصومة الجنائية، بناءا على ملتمس النيابة العامة، بعد توصلها بجميع الأدلة والتحريات التي تمت من طرف الشرطة القضائية في اطار البحث التمهيدي، والتي على أساسها يقوم قاضي التحقيق باستكمال البحث والتحري وتمحيص الأدلة، والنظر في مدى صلاحية هذه الأخيرة وكفايتها في إسناد التهم المنسوبة للمتهم من عدمها ،طبقا لما نصت عليه المادة 221 من قانون المسطرة الجنائية التي تؤكد على أنه “يبين الوصف القانوني للفعل المنسوب للمتهم كما وحيث يبين بدقة الأسباب التي من شأنها أن تدعم وجود الأدلة الكافية أو عدم وجودها”.

ونظرا لأهمية هذه المرحلة فقد أحاطها المشرع بمجموعة من الإجراءات الإلزامية، التي تسهم في ضمان احترام حقوق الدفاع، وتجسيد قرينة البراءاة المكفولة بمقتضى التشريع الوطني والاتفاقيات الدولية.

فمن حيث التشريع الوطني نصت المادة 1 من قانون المسطرة الجنائية على أنه “كل متهم او مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا الى ان تثبت ادانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية”، وكذلك المادة 119 من الدستور الجديد الذي تنص على أنه ” يعتبير كل مشتبه فيه او متهم بارتكاب جريمة بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به ” وهذا ما سارت عليه الإتفاقيات الدولية كذلك، حيث تضمن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية من جهته نصا مماثل في 2/14 منه لينص على مايلي ” من حق كل متهم بارتكاب جريمة ان يعتبر بريئا إلى ان يثبت عليه الجرم قانونا

ولعل من أهم الإجراءات الإلزامية المتعلقة بمرحلة التحقيق الإعدادي، والتي بتخلفها ترتب البطلان، ومنها ضمان سرية التحقيق، وذلك صيانة لكرامة وسمعة المشتبه فيه، أو المتهم من ألسنة المجتمع، وضمان قناعة التقاضي من تاثيرات العلم والرأي العام، والعمل على تكريس استقلالية السلطة القضائية، وذلك بتمتيع قاضي التحقيق بسلطات واسعة في القيام بجميع الإجراءات التي تمكنه من الكشف عن الحقيقة والوصول إليها، عبر مجموعة من الوسائل يممن إجمالها كالآتي:

إجراء الاستنطاق بنوعيه الإبتدائي والتفصيلي للمتهم

إجراء بحث حول شخصية المتهم وظروفه القتصادية والجتماعية.

الإستماع للشهود

اللجوء لنتداب الخبراء

التنقل والتفتيش والحجز

التقاط المكالمات والتصالت المنجزة بوسائل التصال عن بعد

الزامية تدوين جميع الجراءات التي ينجزها قاضي التحقيق عن طريق تحريرها بالمحاضر

ولعل الملاحظ يستشف بأن جميع هذه الإجراءات التي خصص لها المشرع الجنائي خمسة عشرا بابا من قانون المسطرة الجنائية الحالي، تعتبر بمثابة حصانة قانونية وضمانات حقوقية، تهدف الى إضفاء الشرعية والمشروعية الجنائية لمرحلة التحقيق الإعدادي، بحيث تخول قاضي التحقيق الحق في التمتع بصلاحيات واسعة لتنفيد هذه الإجراءات، والبحث عن حقيقة ملابسات الجريمة ومدى نسبة هذه الأخيرة إلى المشتبه فيه أو المتهم، كلما لم تتمكن المرحلة التحضيرية التمهيدية في تكوين قناعة القاضي، فيما يخص كفاية الأدلة لحسم مصير الخصومة الجنائية، والتي تنتهي اما بالأمر بإحالة القضية على للمحكمة، أو الأمر بالإعتقال الاحتياطي، او الوضع تحت المراقبة القضائية، مع احترام الشكليات المنوطة للقيام بالإجراءين كتدبيرين استثنائيين من جهة، أو الأمر بعدم المتابعة لتيقنه من عدم ثبوت الجدوى من إقامة الدعوى العمومية، وفق قرار معلل من جهة اخرى، كما أنه بمقتضى التعديلات التي شهدتها منظومة العدالة منذ صدور الدستور الجديد، حيث ما فتئ جلالته -الملك محمد السادس- يؤكد في خطابات عديدة له إلى النهوض بقطاع العدالة عبر ” التعبئة الكاملة والقوية للقضاء ولمختلف المتداخلين معه من أجل إحداث قطيعة مع التخادل والتردد والانتهازية ” كما نبه جلالته في خطاب اخر بإرادة قوية على ضرورة إعتماد المخطط الشامل والعميق لإصلاح منظومة العدالة، والعمل وفق مقاربة تشاركية للقضاء على مختلف أشكال الفساد باعتبار أن ” الفساد ليس قدرا محتوما “، وحيث حضي هذا الورش بالأولوية، وخاصة انه وضح بالملموس بأنه يشكل قاطرة التنمية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، وحيث تبنى فيه هذا المخطط مفهوما جديدا للقضاء يليق بالمغرب الديمقراطي الحداثي، تحت عنوان ” القضاء في خدمة المواطن ” من خلال العمل على إرساء مقومات القضاء النزيه المستقل على المستوى المؤسساتي والذاتي، وبذلك أصبح القاضي وفق المستجدات التشريعية الدستورية سلطة مستقلة عن كل ما من شأنه زعزعة قناعاته واتخاد قرارته بغية تكريس دولة الحق والقانون، التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة، دونما احترام لمعايير وضوابط المحاكمة العادلة، وذلك ما سعى إليه المشرع المغربي من خلال تعديلات قانون المسطرة الجنائية الأخيرة، التي قامت بتطوير السياسة الجنائية عبر مقاربة تشاركية بين مختلف المساهمين، بغية النهوض بهذا الحقل الجنائي والعمل على الرقي بالبعد الحقوقي والقانوني لمؤسسة قاضي التحقيق، عبر تفعيل استقلال السلطة القضائية.

حيث إن قاضي التحقيق يتمتع بسلطة مستقلة عن كل من النيابة العامة وهيأة الحكم التي تمكنه من ضمان الحياد في بناء قناعته، كما أنه تم التنصيص على إلزاميته بشكل إجباري على تدوين جميع الإجراءات المنجزة من طرف قاضي التحقيق او من ينوب عنه، وفق الشكليات والمعايير المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، مما يسهل عملية الرقابة لمسطرة التحقيق الإعدادي التي تناط بالغرفة الجنحية لمحاكم الاستئناف، ولذلك حرص المشرع الجنائي على تفعيل آلية الرقابة البعدية لإجراءات قاضي التحقيق ومدى مطابقة هذه الأخيرة للتطبيق السليم للقانون، عبر جهاز قضائي متخصص متمثل في الغرفة الجنحية لمحاكم الستئناف، يعهد إليها السهر على مراقبة سلامة مرحلة التحقيق الإعدادي من بداية التحقيق الابتدائي أو الأولي، مرورا بالتحقيق التفصيلي، وإلى غاية الأوامر الصادرة عن قاضي التحقيق.

لكن وكما هو معلوم فإن استفحال ظاهرة العود والتطور على مستوى الجريمة والأساليب المعتمدة في انجازها، وعدد القضايا وغياب قضاء متخصص، وغيرها من القضايا الكثيرة المعروضة على قاضي التحقيق، ما يجعنا في حيرة من امرنا كطلبة دارسين وباحثين نقف بتعجب أمام العديد من الإشكالات الواقعية مما يجعلنا نثي أكثر من علامة استفهام حول مدى قدرة وتمكن قاضي التحقيق من البحث والتحري وتمحيص الأدلة بما فيه الكفاية، وفق الضوابط والمعايير التي تضمن للمشتبه فيه أو المتهم حقه في محاكمة عادلة؟ أو بمعنى آخر هل استطاعت المستجدات التشريعية الدستورية وتعديلات قانون المسطرة الجنائية التي عرفتها بلادنا مؤخرا من الإرتقاء ولو بشكل نسبي بالبعد الحقوقي لمؤسسة قاضي التحقيق إذ على مستوى التطبيق العملي؟ أم أن هذا البعد لايزال حبيس النصوص كغيره من القوانين !؟

قد يعجبك ايضا