كلمة رئيس النيابة العامة بمناسبة تقديم خطة العمل المندمجة لمناهضة زواج القاصر

كلمة السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض،
رئيس النيابة العامة
بمناسبة تقديم خطة العمل المندمجة لمناهضة زواج القاصر
22-23 نونبر 2022 الصخيرات

بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
السيدة وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة؛
السيد الكاتب العام نيابة عن السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة؛
السيد الوالي المنسق العام للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛
السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بالرباط نيابة عن السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
السيدة ممثلة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)؛
السيدة ممثلة منظمة الأمم المتحدة لتمكين المرأة والمساواة بين الجنسين (ONU Femmes)؛
حضرات السيدات والسادة، الحضور الكريم كل باسمه وصفته والتقدير الواجب له.
إنه لمن دواعي السرور والافتخار أن أفتتح بمعيتكم أشغال هذا اللقاء الذي ننظمه لتقديم خطة العمل المندمجة حول زواج القاصر، من أجل تتبع مشترك للمجهودات المبذولة من طرف الفعاليات الحكومية والقضائية المعنية في ورش على قدر كبير من الأهمية، يشكل لبنة أساسية في سياق جهود بلادنا الحثيثة لكسب رهان التنمية المستدامة، التي يشكل العنصر البشري قوامها، وأساسها المتين.
ويتزامن هذا اللقاء مع احتفاء العالم باليوم العالمي لحقوق الطفل الذي يصادف 20 نونبر من كل سنة والذي يعتبر محطة و وقفة للتأمل والتدبر وبلورة الأفكار والرؤى والاستراتيجيات الكفيلة بتحصين المكتسبات، وتعزيز تدخلات المعنيين في مجال حماية الطفل.
وأغتنم هذه المناسبة لأتوجه بالشكر الجزيل لمنظمة الأمم المتحدة على الدعم الدائم لمبادرات رئاسة النيابة العامة كما أشيد بانخراط القطاعات الحكومية الشريكة على استعدادها لتفعيل التوجهات المتفق عليها، وأتوجه كذلك بالثناء للرئاسة المنتدبة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على الدعم اللا مشروط للجهود التي تبدلها رئاسة النيابة العامة في التصدي لظاهرة تزويج القاصرات.
ومما لاشك فيه أن هذا التفاعل من قبل الجميع يشكل نموذجا للتعاون والتنسيق حرصت رئاسة النيابة العامة على نهجه منذ تأسيسها، إيمانا بفضيلة مد جسور التواصل بين مختلف الفاعلين لتحقيق الالتقائية في البرامج، وتوحيد الرؤى، وهي المقاربة التي دأب صاحب الجلالة نصره الله وأيده على التذكير بأهميتها، ونستحضر في هذا السياق خطابه السامي بتاريخ 29/7/2018 بمناسبة الذكرى التاسعة عشر لتربعه على عرش أسلافه المنعمين، حيث قال جلالته: “…إن تحقيق المنجزات، وتصحيح الاختلالات، ومعالجة أي مشكل اقتصادي أو اجتماعي، يقتضي العمل الجماعي، والتخطيط والتنسيق، بين مختلف المؤسسات والفاعلين …”. انتهى النطق الملكي السامي.
حضرات السيدات والسادة؛
إن تحقيق الرؤية الاستراتيجية القادرة على تنزيل المقتضيات الدستورية في مجال توفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية، واعتبار التعليم حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة، وكذا في مجال مناهضة التمييز ضد المرأة، وتعزيز مبدأ المساواة بين الجنسين والسعي لتحقيق المناصفة، هدف وطني نجاحه رهين بمواجهة التحديات التي يفرضها الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العديد من الحالات، كما يرتبط بشكل وثيق بالإيمان بأن ثروة المستقبل تتجسد في تثمين الرأسمال البشري، الذي تشكل الطفولة حلقة حاسمة في رسم ملامحه المستقبلية. وهو ما يفرض على الجميع المزيد من التعبئة والانخراط قصد حماية حقوق الطفل بمنظور شمولي يستهدف كل المجالات ذات الصلة، والحرص على توخي تحقيق مصالحه الفضلى. وهو ما فتئ صاحب الجلالة الملك محمد السادس يدعو لتكريسه ونستحضر هنا رسالة جلالته بمناسبة إطلاق حملة مدن أفريقية بدون أطفال شوارع في 24 نونبر 2018 حيث قال جلالته ” … فيجب ألا تنحصر جهود حماية الأطفال في الحفاظ على سلامتهم الجسدية والمعنوية والنفسية، بل ينبغي أن تقترن أيضاً بتوفير الشروط الكفيلة بالنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولا تستلزم حماية الأطفال تجنيبَهم أسباب الخوف فحسب، بل تقتضي كذلك تخليصهم من براثن الفاقة والحاجة، ومدهم بكل ما من شأنه أن يكفلَ كرامتهم.
فهذا التحدي، وإن كان جسيماً بحمولته، فهو جدير بأن نخوض غماره من أجل كسب الرهانات المرتبطة به. فالكرامة، والسلم، والحد من الفقر، والقضاء على الجوع، والنهوض بالصحة، وضمان التعليم الجيد للجميع، والمساواة بين الذكور والإناث، وتأمين خدمات الماء الصالح للشرب ومرافق الصرف الصحي، كلها متطلبات على قدر كبير من الأهمية، وهي مرتبطة في جوهرها بحماية الطفولة… ” انتهى النطق الملكي السامي.
حضرات السيدات والسادة؛
لقد عملت رئاسة النيابة العامة كما هو في علمكم منذ تأسيسها على إيلاء حماية الطفولة أهمية قصوى، وجعلتها من بين أولويات السياسة الجنائية التي يتعين الحرص على تنفيذها من خلال تدخل النيابة العامة بمحاكم المملكة، وقد أفردت للموضوع عدة مناشير ودوريات تحث قضاة النيابة العامة على تفعيل الصلاحيات المخولة لهم قانونا للحفاظ على حقوق الطفل، وواكبت ذلك بوضع وتنفيذ برامج للتكوين والتكوين المستمر لقضاة النيابة العامة تعزيزا لقدراتهم وخبراتهم في المجال.
واستكمالا لهذه المجهودات، وإسهاما منها في رفع التحدي الذي انخرطت فيه بلادنا لمواجهة ظاهرة تزويج القاصر باعتبارها من الممارسات التي ينعكس أثرها السلبي على ضمان تمتع الأطفال بحقوقهم الكاملة؛ جعلت رئاسة النيابة العامة مناهضة الزواج المبكر ضمن أولوياتها وفي مقدمة توجيهاتها للنيابات العامة. ويندرج في نفس السياق ورش الوقاية من الهدر المدرسي الذي خاضته رئاسة النيابة العامة بشراكة مع وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة مشكورة، من أجل تفعيل المقتضيات القانونية المضمنة في قانون التعليم الإجباري والذي ينص على أن التعليم الأساسي حق وواجب لجميع الأطفال المغاربة ذكورا وإناثا، وأن الدولة تلتزم بتوفيره لهم مجانا كما يلتزم الآباء والأولياء بتنفيذه إلى غاية بلوغهم الخامسة عشرة من عمرهم بالحرص على تسجيلهم وترددهم بانتظام على المؤسسة التعليمية، كما ينص نفس القانون من جهة أخرى على معاقبة الأشخاص المسؤولين عن الطفل الذين لا يتقيدون بهذه الأحكام. وقد استطاعت هذه الشراكة تحقيق نجاح كبير باسترجاع عدد لا يستهان به من الأطفال والطفلات الذين غادروا الدراسة، كما تم التفاعل مع الأسباب التي أدت إلى انقطاعهم بمسؤولية وإيجابية عالية من قبل كافة المتدخلين سواء تعلق الأمر بحاجة للنقل المدرسي أو الإيواء وغير ذلك من الإكراهات الاجتماعية، ما يؤكد هنا أيضا الحاجة الدائمة إلى التنسيق والتعاون والتقائية التدخلات.
كما عملت رئاسة النيابة العامة على إعداد دراسة تشخيصية شاملة في الموضوع، قاربت من خلالها المعطيات القضائية، وكذا الجوانب الميدانية والاجتماعية المرتبطة بواقع هذه الظاهرة، وخلصت إلى استنتاجات غاية في الأهمية، كانت نتاجا لرصد واقع الممارسة القضائية ذات الصلة بمسطرة زواج القاصر من جهة، وتحليلا للواقع المعيش لفئة مهمة من القاصرات ضحايا هذا الزواج من جهة أخرى.
وقد مكنت المعطيات المستقاة من الدراسة التشخيصية، والتي شكلت نتاجا لاستنطاق واقع تزويج القاصر ببلادنا، من تحديد مجالات التدخل بدقة، كما أظهرت بالملموس أن ظاهرة الزواج المبكر ليست شأنا قضائيا صرفا تنحصر أسبابه في التطبيق العملي لمقتضيات المادتين 20 و21 من مدونة الأسرة؛ بل شأنا مجتمعيا تتعدد أسبابه وتتراوح بين ما هو اجتماعي واقتصادي، وما هو ثقافي، وما هو ديني كذلك في بعض الأحيان ينطوي على تفسير مغلوط للمقتضيات الشرعية، مما يقتضي معه مقاربة الموضوع بشكل شمولي ومندمج بغية كسب الرهان بتطويق الظاهرة في أفق القضاء عليها.
وقد شكل ذلك منطلقا لإعداد خطة بمثابة خارطة طريق للتصدي لهذه المعضلة التي تؤثر على ضمان ممارسة الأطفال لحقوقهم الكاملة وتمحورت هذه الخطة حول أربع مؤشرات جوهرية تتجسد في تغيير العقليات والموروث الثقافي، والسياسات العامة، والإجراءات القضائية، ثم الجانب التشريعي.
وقد عملت رئاسة النيابة العامة بشراكة مع كافة القطاعات المعنية بالموضوع لإعداد هذه الخطة وتملكها من طرف الجميع إثر عدة اجتماعات نظمت لهذه الغاية، وحددت الإجراءات الواجب اتخاذها والمبادرات القطاعية او المشتركة الواجب تنفيذها.
حضرات السيدات والسادة؛
إن حضورنا اليوم لتقديم خطة العمل لمناهضة زواج القاصر، يشكل وبحق لحظة مفصلية تتطلب من كافة المتدخلين المعنيين شحذ الهمم، ورفع التحديات لإنجاح هذه المبادرة النبيلة في عمقها، البليغة في مراميها، في سعي مشترك لتوفير سبل العيش الكريم الذي يضمن للأطفال والفتيات نموا طبيعيا، وتوازنا نفسيا يؤهلهم لبناء الوطن، ومواصلة المسير.
وإذ أعبر لكم عن مدى سعادتي بجو التعبئة الإيجابي الذي لمسته رئاسة النيابة العامة في جميع المتدخلين، أود أن أتقدم من جديد بشكري الخالص لكل القطاعات الحكومية الشريكة، ولأطرها على المجهودات الكبيرة المبذولة من طرفهم، وتجاوبهم الكبير مع رئاسة النيابة العامة، كما لا يفوتني توجيه عبارات الشكر والامتنان للسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل دعمه الكبير لجهود هذه الرئاسة، ومن خلاله أوجه شكري لزملائي قضاة الحكم على انخراطهم الإيجابي ونقاشهم المسؤول في الورشات التي نظمت في الموضوع، كما لا يفوتني التنويه بالمجهودات التي يبذلها قضاة النيابة العامة في هذا الصدد.
والشكر موصول أيضا للسادة المتدخلين في هذا اللقاء الذين لا محالة سيغنون النقاش حول الموضوع واستخلاص الملاحظات المفيدة وإعداد التوصيات الهادفة للدفع قدما بالمشروع موضوع اللقاء، كما أن الشكر موصول لكل من ساهم في تنظيم هذا اللقاء وواكب الإعداد له.
حضرات السيدات والسادة؛
إن انعقاد هذا اللقاء يشكل محطة مهمة لإبراز المنجزات التي تحققت على أرض الواقع، وسيمكن لا محالة من الوقوف عن قرب على حجم الرهانات المنتظرة، والتحديات التي يتعين رفعها في سبيل ذلك، وانسجاما مع رهان النموذج التنموي الجديد الذي يقوده صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بحكمة وتبصر.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير وطننا ومواطنينا، وجعلنا عند حسن ظن سيدنا المنصور بالله جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأعز أمره وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، وأقر عينه بولي عهده الجليل مولاي الحسن وسائر أسرته الشريفة، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
مولاي الحسن الداكي
الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض
رئيس النيابة العامة

قد يعجبك ايضا