أي حــمــايــة قـانـونـيـة لـمـفـتـشي الـشـغـل ؟

عدنان بوشان

“مفتش الشغل الجندي المجهول”  –   “مفتش الشغل جندي بلا سلاح”

هي مقولتين لبعض الفقه المغربي المتخصص في القانون الاجتماعي، توضحان باختصار المشاكل التي يعاني منها مفتش الشغل، فهو من جهة جندي مجهول، لا يعرف مشاكله أحد ولا يشاركه فيها أحد وهو بذلك يبقى مجهول الحماية القانونية، وهو من جهة أخرى جندي بلا سلاح، لا تتوفر له الإمكانيات التي من شأنها مساعدته على القيام بمهامه الكثيرة والمتشعبة، وبتعدد هذه المهام وضعف آليات العمل يبقى بعيدا عن الحماية القانونية اللازمة التي تغطي جميع الجوانب التي يتدخل فيها مفتش الشغل.

لا شك أن الموضوع يكتسي أهمية كبرى نظرا لارتباطه بجهاز رقابي وقائي واستشاري وتقييمي وتنموي، ونضيف إلى كل ذلك أنه جهاز حمائي، وبالتالي ينبغي أن نقف عند الحماية القانونية المخولة لهذا الجهاز، وطرح هذا الموضوع يعني أن هناك ما ينبغي أن نحمي منه جهاز تفتيش الشغل، بعبارة أخرى هناك مخاطر قانونية وأخرى واقعية تتهدد الأشخاص الممارسين لمهام جهاز تفتيش الشغل، وعليه يتوجب توفير مجموعة من الضمانات القانونية التي ستشكل بلا شك منظومة حمائية لهذا الجهاز، من أجل النهوض بالأدوار الملقاة على عاتقه على أحسن حال، فنوع الحماية يعكس نوع الاهتمام كما يعكس جدية البحث عن قيام هذا الجهاز بوظائفه على أكمل وجه.

فهل فعلا وفرت المنظومة القانونية المغربية ضمانات حمائية لمفتشي الشغل وهم بصدد مباشرة مهامهم على اختلافها ؟

إن الجواب المباشر لهذا التساؤل هو أنه ليست هناك أي حماية قانونية لهذا الجهاز، بمعنى عدم وجود منظومة حمائية متكاملة، تراعي الدور الكبير الذي يقوم به مفتشوا الشغل، وإذا أردنا أن نكون دبلوماسيين مع المشرع حق لنا القول بأن هناك بعض بوادر الحماية لكنها تتهاوى ببساطة.

مما يقتضي منا الأمر البحث عن الأسباب التي أدت إلى عدم توفير هذه الضمانات الحمائية، فهل الأمر راجع إلى سياسة تشريعية مقصودة، أم راجع إلى تشابك المهام التي يقوم بها جهاز تفتيش الشغل.

للجواب على مجموع هذه التساؤلات سنحاول التطرق في نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى: ضمانات حمائية ضعيفة على مستوى تشريع الشغل الدولي

الملاحظ أن تشريع الشغل الدولي قد اهتم بمجال تفتيش الشغل ويتجلى ذلك من خلال المواثيق الدولية التي وضعها لهذا الجهاز، حيث نجد اتفاقية العمل الدولية رقم 81 بشأن تفتيش الشغل في الصناعة والتجارة لسنة 1947، و اتفاقية العمل الدولية رقم 129 بشأن تفتيش العمل في الزراعة لسنة 1972، إلى جانب مجموعة من التوصيات رقم 5 ، 20، 28، 54، 59، 81، 82، 133، 158، 185.

والتي أجمعت كلها على أن الدور الأساسي لجهاز تفتيش الشغل هو الرقابة، وأنه لا ينبغي أن يتم إسناد مهام أخرى قد يكون لها تأثير  على هذه المهمة، من شأنها أن تضعف من دور الجهاز في فرض سلطته على كل مخالف للمقتضيات القانونية المتعلقة بتشريع الشغل والتشريعات الأخرى التي أسندت له مهمة الرقابة بشأنها، غير أنه نجد أن من بين أهم الضمانات التي يمكن أن نتطرق إليها من خلال ما جاء في معايير العمل الدولية، ما يتعلق بضرورة توفير تعاون فعال بين إدارات التفتيش وغيرها من الإدارات العمومية، وخاصة التنسيق بين جهاز  تفتيش الشغل وإدارة وزارة العدل وكذلك رئاسة النيابة العامة، حتى يتم تجاوز مجموعة من الإشكالات التي تعتري عمل الجهاز، خاصة ما يتعلق بإحالة محاضر المخالفات، وما يتعلق بمخالفات عرقلة عمل مفتش الشغل.

وغير بعيد عن ذلك فإن موضوع استقلالية مفتش الشغل له أهمية كبرى، أكدت عليها مواثيق العمل الدولية، إذ اعتبرت أن استقلالية مفتش الشغل لابد من توفيرها حتى يمكن هذا الأخير من أداء مهامه بعيدا عن أي تغييرات حكومية أو أي تأثيرات خارجية غير سليمة من شأنها أن تؤثر على وظيفته، وتعرقل بالتالي سلامة الإجراءات التي يقوم بها مفتش الشغل وهو بصدد قيامه بمهامه، خاصة وأن مفتش الشغل يواجه فئة المقاولين، التي تتوفر على لوبيات اقتصادية وسياسية يصل مداها حد التأثير على السياسة التشريعية وغيرها من المجالات.

ونجد كذلك أن من بين الضمانات التي قررتها اتفاقيات العمل الدولية، تلك المتعلقة بوجوب التفرقة بين المفتشين الرجال والنساء في إسناد واجبات كل جنس، بحيث أن هناك مجالات أو قطاعات يصعب على المرأة الاضطلاع بها، نظرا للصعوبات التي قد تعترضها والمخاطر التي تكون محاطة بهذه القطاعات، كالرقابة على الضيعات الفلاحية، وبعض الملاهي الليلية، والمقاهي، والمطاعم والكازينوها، وغيرها من القطاعات التي غالبا ما تتسم بمخاطر جمة.

غير أنه يبقى من أبرز ما تطرقت له اتفاقيات العمل الدولية فيما يخص أداء مفتش الشغل مهامه، ما يتعلق بضرورة توفير الإمكانات المادية للمفتشين من أجل القيام بوظيفتهم على أكمل وجه، كوسائل التنقل وبعض الأجهزة التقنية التي تساهم في تسهيل عملهم، وتزويد بعضهم بالجيبئيس حتى يمكن التعرف على مكان مفتش الشغل في حالة خروجه لزيارة من الزيارات البعيدة عن المحيط الحضري، لأنه هناك بعض الحوادث التي كان ضحيتها بعض المفتشين من قبيل التعرض لهم بالكلاب في بعض الضيعات أو تعريضهم لتهديدات ومحاولة احتجازهم.

وتبقى من أهم المواضيع التي تشغل السادة مفتشي الشغل، مسألة توضيح الشروط العملية التي يجب أن تجرى بصددها زيارات التفتيش، من خلال تحديد إجراءات الزيارات ووسائل البحث والتحقيق داخل المقاولة، وهو ما لا نجده في التشريع المغربي إذ أن الزيارات حاليا غالبا ما تخضع لتقدير المفتش، وتتدخل فيها عناصر خارجية عن القانون، كشخصية المفتش ومعرفته بالمشغل وغيرها من المسائل الواقعية التي يستند عليها المفتش في زياراته.

كما تجدر الإشارة معه إلى أن اتفاقيات العمل الدولية قد نصت على توفير سلطة اتخاذ تدابير التنفيذ الجبري العاجل عند وجود خطر وشيك على صحة الأجراء وسلامتهم، وهو ما لا نجده لدى مفتشي الشغل بالمغرب، إذ تبقى سلطتهم في هذا الإطار مكبلة وهو ما من شأنه أن تتمخض عنه في بعض الحالات حوادث أو كوارث مميتة قد يتحمل مسؤوليتها مفتش الشغل في الأخير، إلى جانب ذلك نجد المواثيق الدولية تؤكد على وجوب تضمين القوانين الوطنية العقوبات المناسبة في حالة عرقلة مفتشي الشغل عن أداء مهامهم، وهو أمر لم تعالجه المدونة بالشكل المطلوب.

ليبقى التساؤل مطروحا هل استجاب التشريع لمعظم هذه النقط، وهل يمكن في إطار الحوار الاجتماعي الذي وضع من بين التزاماته الانكباب على تعديل مقتضيات مدونة الشغل أن تجد مسألة الضمانات القانونية لمفتش الشغل موقعا لها في هذا التعديل المترقب ؟

 

 

 

 

النقطة الثانية: ضمانات حمائية هشة على مستوى تشريع الشغل الوطني

إن مناقشة حماية مفتش الشغل لن نتطرق لها من خلال ما يتوفر له من حماية عامة تتعلق به باعتباره موظفا عموميا، من خلال ما ورد النص عليه سواء في النظام الأساسي للوظيفة العمومية، أو ما ورد بمجموعة القانون الجنائي، وإنما لابد من بحث الحماية القانونية المرتبطة بمفتش الشغل بصفته هاته، وللبحث عن هذه الحماية لابد من مناقشة مقتضيات كل من النظام الأساسي لمفتشي الشغل، وكذلك مقتضيات مدونة الشغل خاصة الكتاب الخامس منها.

  • تشعب مهام مفتش الشغل سبب هشاشة الحماية القانونية

نجد أن مفتش الشغل يتحمل مجموعة من المهام التي غالبا ما يكون لها تأثير على الحماية المقررة له، فمن الناحية القانونية المنطقية كان لابد أن تتوفر عن كل مهمة ضمانات قانونية تحمي مفتش الشغل وهو بصدد قيامه بهذه المهمة.

  • على مستوى النظام الأساسي الخاص بهيئة تفتيش الشغل:

تطرق هذا النظام لمهام مفتش الشغل إلى جانب التوظيف والترقي ونظام التعويضات، دون أن يذكر أي شيء عن الحماية القانونية لمفتش الشغل، وهو بذلك يبقى نظاما غير أساسي وإنما ثانوي لأنه أغفل مجموعة من المواضيع التي تهم الجهاز، ويمكن إجمال مجموع المهام التي يتولاه مفتش الشغل حسب هذا النظام الأساسي والتي تقتضي توفير حماية قانونية فيما يلي:

مهمة رقابية: السهر على تنفيذ المقتضيات القانونية والتنظيمية والتعاقدية داخل المقاولة، (مدونة الشغل، نظام الضمان الاجتماعي، حوادث الشغل والأمراض المهنية، مدونة التغطية الصحية، قانون العاملات والعمال المنزليين، والقائمة طويلة……).

مهمة تصالحية: إجراء محاولات التصالح في نزاعات الشغل الفردية والجماعية.

مهمة استخبراتية: التتبع المستمر للإضرابات وموافاة المصالح المعنية من سلطات محلية ومركزية بتطور جميع النزاعات.

مهمة إرشادية وتوجيهية: إسداء النصح والإرشاد للفرقاء الاجتماعيين في ميدان التشريع الاجتماعي والعلاقات المهنية، إلى جانب مرافقة ومساعدة المقاولات في عملية التأهيل التي تحتمها تحديات العولمة وتحرير السوق، إبداء رأي استشاري بخصوص فصل الأجراء وإغلاق المقاولات لأسباب اقتصادية أو تكنولوجية.

مهمة استطلاعية تقييمة: إبلاغ السلطات المعنية بصعوبات وثغرات تطبيق مدونة الشغل.

مهمة إدارية: منح عدد من التراخيص والتأشيرات والموافقات كالترخيص بتشغيل الأحداث في بعض الأشغال، وباتخاذ العقوبات التأديبية ضد الأجراء المحميين.

فهل تطرقت المدونة لأي ضمانة قانونية بخصوص مباشرة مفتش الشغل لمهامه ؟

  • على مستوى مقتضيات مدونة الشغل

من خلال قراءة مقتضيات المدونة نجد أن ضمانات حماية مفتش الشغل يمكن إبرازها من خلال ما يلي:

1) تخويلهم الصفة الضبطية أي ضبط المخالفات

بحيث يعترف لهم القانون ببعض مهام ضباط الشرطة القضائية، وهي مهمة التثبت من بعض الجرائم وجمع الأدلة عنها وتحرير محاضر بشأنها، أي أنه يتولى مهمة ضبط الجرائم المرتبطة بمجال الشغل دون غيرها، فإذا كان ضابط الشرطة القضائية له الولاية العامة بشأن التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها (جرائم الحق العام)، فإن مفتش الشغل تقتصر مهامه على مراقبة الجرائم المتعلقة بالشغل، وضبطها وتحرير محاضر بشأنها دون غيرها (الجرائم المتعلقة بتشريع الشغل).

إلا أن ذلك لا يعني حمل مفتش الشغل لصفة ضابط شرطة قضائية، وبالتالي هو ليس عنصرا من عناصر الشرطة القضائية، فلا يخضع لسلطة النيابة العامة ولا لمراقبة الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف، ولا تتوفر له ضمانة أساسية وهي الاختصاص الاستثنائي أو ما يطلق عليه فقها بالامتياز القضائي (م 268 من ق م ج)، وبالتالي يمكن القول بأن من أبرز مداخل ضعف الحماية القانونية لمفتشي الشغل في هذا الإطار هو عدم توفرهم على صفة ضباط الشرطة القضائية.

لماذا لأن ضباط الشرطة القضائية يخضعون لسلطة النيابة العامة فيأتمرون بأوامرها ويقومون بدورهم ومهامهم تحت إشرافها وتعليماتها وتوجيهاتها، وهو أمر يعطيهم نوعا من الحماية القانونية في مواجهة إمكانية الطعن في محاضرهم ما دامت هذه الأخيرة لا تخرج عن صيرورة أو نتيجة للتنسيق بين الجهة الإدارية التي يتبع لها من يتوفر على صفة ضابط الشرطة القضائية، وبين الأخذ بتعليمات وتوجيهات النيابة العامة بشأن تحرير المحاضر، فالنيابة العامة عندما تتوصل بالمحاضر لا تكلف عناء إعادة قراءة المحضر والتأكد من مدى سلامته، وإنما تكيف الوقائع وتثير المتابعة مباشرة نظرا لما سبق ذلك من تعليمات وتوجيهات أعطتها وكذلك لكثرة المحاضر المحالة عليها.

2) ضمانة حجية محاضر مفتشي الشغل

تنص المادة 539 من مدونة الشغل على أنه “يقوم الأعوان المكلفون بتفتيش الشغل، بمعاينة المخالفات المتعلقة بأحكام هذا القانون، والمقتضيات التنظيمية الصادرة بتطبيقه، وتثبيتها في محاضر يوثق بمضمونها إلى أن يثبت عكس ما فيها.”

فيما تنص المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية على أن “المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات، يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات”.

بمعنى أن محاضر مفتش الشغل لها نفس القوة التي لمحاضر ضباط الشرطة القضائية، لكن هذه الحجية قد تتهاوى في أي لحظة فيتحمل مسؤوليتها مفتش الشغل وذلك للأسباب التالية:

– إمكانية إثبات عكسها بسهولة: ذلك أن الفرق بين المحضرين هو في كيفية إثبات عكس ما فيها، فنجد المادة 290 من ق م ج تصرح بأن إثبات العكس يكون بأي وسيلة من وسائل الإثبات، بينما نجد المادة 539 من م ش سكتت عن الأمر، وهو ما يفتح المجال للتساؤل عن الوسائل المعتمدة لإثبات العكس بالنسبة لمحاضر مفتشي الشغل، فهل نبحث عن الجواب في مقتضيات مدونة الشغل نظرا لأنه قانون خاص ترجح أحكامه عن القواعد العامة أم نرجع لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية باعتبارها قانونا عاما ؟

من وجهة نظري أنه يجب البحث عن الجواب ضمن مقتضيات مدونة الشغل لأن قواعد قانون الشغل تتسم بخصوصية كبيرة تقتضي أخذها بعين الاعتبار، فإذا كان ضابط الشرطة القضائية يحرر محضر المخالفة بمجرد وقوفه على المخالفة، مما لا يفتح أي مجال للمخالف من أجل حماية نفسه، وتبرير أسباب هذه المخالفة، والوقائع التي قد تكون رافقت ارتكابه للمخالفة، وبالتالي وجب فتح المجال أمامه لإثبات العكس بأي وسلية، مراعاة لما قد يكون وقع فيه الضابط من سوء تقدير للوقائع المحيطة بالمخالف التي جاءت فجأة وعلى غفلة، فإن العكس خلاف ذلك بالنسبة لتحرير محاضر مخالفة مقتضيات مدونة الشغل، التي لا تأتي فجأة وبمجرد معاينة المخالفة من طرف المفتش (إذا كان ضابط ش ق يكون قد خالف ما تستوجبه عليه مهامه في حالة ما إذا عاين أو وقف على مخالفة وغض الطرف عنها، فإن الأمر خلاف ذلك بالنسبة لمفتش الشغل)، وإنما لابد لمفتش الشغل من سلوك مسطرة التنبيه أو الملاحظة للمخالف، من أجل تجاوز أو تصحيح المخالفة وإرجاع الحالة للوضع السليم، كما أن المشغل ملزم بمسك سجل خاص يوضع رهن إشارة مفتش الشغل من أجل تضمين التنبيهات والملاحظات التي وجهها للمخالف، كما أن المشغل له إمكانية صنع دليل يساعده على إضعاف ضمانة الحجية، وبالتالي نجد أن تحرير المحضر هنا لا يأتي إلا بعد مراحل تستهدف استجابة المخالف للمقتضيات القانونية، أو إن صح التعبير  المصالحة مع القانون، وهنا لابد من جعل وسيلة إثبات عكس ما تضمنه محضر مفتش الشغل في حق المخالف غير مفتوحة على مصراعيها، وإنما غلق هذا الباب وقصره على الوسائل الكتابية، من خلال الدفتر الذي يمسكه المخالف أو من خلال التنبيهات والملاحظات ومدى استجابة المخالف لها، دون غيرها من الوسائل المتاح للمشغل صنعها.

وتجدر الإشارة إلى أن الهدف من إثبات عكس ما جاء في المحضر هو منع هذا الأخير من أن يرتب آثاره وهي طبعا عدم متابعة المخالف، والحكم بالبراءة لعدم ارتكاب المعني لأي مخالفة، بمعنى أن إثبات العكس يكون في شكل دفع يدفع من خلاله المخالف بأنه لم يرتكب أي مخالفة، وبالتالي استبعاد المحضر كوسيلة للمتابعة، بخلاف الطعن في المحضر بالتزوير الذي يقتضي أن تكون في شكل شكاية تروم متابعة المعني بجريمة تزوير في محرر رسمي.

غياب أي شروط أو ضوابط لتحرير محاضر المخالفات: إذا عقدنا مقارنة بين حجية محاضر مفتش الشغل، باعتباره يقوم ببعض مهام ضباط الشرطة القضائية، وبين محاضر ضباط الشرطة القضائية، سنجد أن كلاهما يتوفر على حجية ثبوتية بحيث يوثق بمضمنها إلى أن يثبت عكس ما فيها، لكن الإشكال في كيفية تحرير هذه المحاضر، وتأثير ذلك على هذه الحجية، فإذا كانت محاضر ضباط الشرطة القضائية وضع لها قانون المسطرة الجنائية ضوابط معينة من أجل تحريرها، بما في ذلك وضع محاضر نموذجية، فإنه خلاف ذلك هو ما نجده بشأن محاضر مفتشي الشغل التي تخضع لتقدير كل مفتش على حدا، وبالتالي من شأن ذلك أن يؤثر على حجيتها خاصة في حالة تخلف أحد البيانات الأساسية في تحرير هذه المحاضر، مثلا هوية المخالف بحيث يعتبر القضاء في هذه الحالة المحضر مجرد بيان لا يرقى إلى درجة محضر بالمعنى القانوني للمحضر.

زد على ذلك أن مفتشي الشغل خلال تحريرهم للمحاضر غالبا ما يبالغون في تحري الدقة والبحث عن تحصين المحضر، مخافة الانزلاق في متاهات الزور وما قد يترتب عن ذلك من مشاكل، وبذلك يكون كل مفتش شغل يبحث لنفسه عن حماية قانونية خلال تحريره للمحضر، لأنه لا يتوفر على ضمانات تشريعية لا موضوعية ولا إجرائية، وهو ما أدى بغالبية المفتشين إلى التواني عن تحرير المحاضر، بل إن بعضهم ترك مهامه الرئيسية متواري وراء العمل الإداري المحض خوفا من أن يكون ضحية نفسه في أحد الأيام.

بل الأكثر من ذلك يتساءل البعض عن مدى أهمية تحرير المحضر، ما دام أن وضعية الشغل غير القانوني أو القطاع غير المهيكل ووضعية الأجراء لن تعرف أي تغيير، وسيبقى الحال على ما هو عليه، ما سيتغير هو أن خزينة الدولة سيضاف في حسابها مبلغ بموجب الغرامة إن تم الحكم بها، على حساب وضعية الأجراء وعلى حساب الاقتصاد المنظم، بمعنى آخر نجد أنفسنا قد استفدنا من خرق القانون.

ويطرح التساؤل عن مدى توفر تقارير الزيارة على نفس حجية المحاضر ؟

إذا كانت التقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية لها نفس الحجية التي للمحاضر المحررة من قبلهم بموجب منطوق المادة 290 من  ق م ج، فإن التساؤل يثار حول حجية التقارير التي يحررها مفتش الشغل ما دامت المادة 239 من المدونة لم تشملها بالحجية كما هو حال المحاضر ؟

مفتش الشغل اليوم أمام متناقضين فإما أن يقوم بدوره الرقابي من خلال الوقوف على المخالفات وتحرير محاضر بشأنها، فيكون بذلك أدى وظيفته وفق ما يطلبه القانون، وهو إذ ذاك يكون أمام مشاكل قانونية تعترضه منها إمكانية متابعته في أي لحظة بالتزوير في محرر رسمي، ذلك أن مجال الشغل والتشغيل مجال اقتصادي متغير من فترة إلى أخرى، فما قد يعتبر مخالفة عند تحرير المفتش لمحضر بشأنه قد يصير  غير ذلك بعد فترة، ولا أدل على ذلك مثلا الأوراش التي يقوم مفتش الشغل بزيارتها بحيث تصير بنايات مكتملة في رمشة عين، ونجد أن الملفات التي توبع من خلالها مفتشوا الشغل بالتزوير هي من هذه الطينة من الوقائع، كما يساهم في ذلك عدم وجود أي تنسيق بين الوزارة الوصية وباقي القطاعات الأخرى كوزارة العدل ووزارة المالية والداخلية ورئاسة النيابة العامة.

هذه الصعوبات غالبا ما يجد مفتش الشغل نفسه أمام واقع مُر يدفعه إلى عدم تحرير محاضر المخالفات، وهو ما من شأنه وضع صورة مخالفة للواقع، وإعطاء تصور بأن واقع الاستجابة لمقتضات مدونة الشغل من طرف المشغلين في أحسن أحواله، وأن تطبيق هذه المقتضيات جيد على العموم، وأن المغرب يستجيب للمعايير الدولية، وأن فئة الأجراء تعيش ظروف جيدة، وغيرها من الأمور غير الواقعية وهي الصورة التي تريدها الإدارة المركزية في الغالب الأعم لتلميع الصورة أمام المنظمات الدولية ويريدها المشغليين.

لكن قد تنفجر هذه الوضعية في أي لحظة ويتحمل مسؤولية هذا الانفجار طبعا مفتش الشغل لوحده دون أي جهة أخرى، كما لو حدثت إحدى الوقائع لقدر الله كانفجار داخل المقاولة أو حريق أو غيرها، والتي قد يذهب ضحيتها أرواح كثيرة كما حدث في واقعة مصنع طنجة، فهنا سيكون مفتش الشغل مسؤولا عن عدم قيامه بواجبه على أكمل وجه، فيواجه بسؤال لماذا لم تقم بالزيارة، ولماذا لم تحرر محضر بالمخالفة ولماذا ولماذا ولماذا …..

3) جريمة عرقلة عمل مفتش الشغل

تطرقت المادة 546 من مدونة الشغل إلى تحديد الفعل المجرم وعقوبته المتمثل في الحلول دون تطبيق مقتضيات هذا القانون بجعل مفتش الشغل في وضع يستحيل عليه معه القيام بمهامه، دون تحديد الشخص المكلف بتحرير محضر هذه المخالفة، (غرامة 25.000 إلى 30.000 درهم).

هل يمكن لمفتش الشغل تحرير محضر مخالفة تتعلق بجعله في وضع يستحيل عليه معه القيام بمهامه كعدم حضور المشغل أو عدم استجابته لأوامر مفتش الشغل أو منع مفتش الشغل من دخول مقر العمل؟

للجواب عن هذا السؤال لابد من طرح سؤال آخر، هل تعتبر عرقلة عمل مفتش الشغل مخالفة من مخالفات تشريع الشغل ؟

الملاحظ أنه ما دام أن مدونة الشغل هي التي تناولت هذه الجريمة بالنص، فعلا مجرما وعقوبة، وبالتالي فهي تعتبر جريمة تدخل في إطار القانون الزجري للشغل، والذي يتولى مهمة تحرير المحاضر بشأنها مفتش الشغل طبعا، غير أن الفعل المجرم يقتضي حسب المشرع المغربي أن تتحقق فيه استحالة قيام مفتش الشغل بمهامه وليس مجرد وجود صعوبات معينة، والفرق واضح بين الاستحالة والصعوبة، وبذلك سيبقى تحرير هذا المحضر متعذرا من جهة القانون ومن جهة الواقع، الأولى تتطلب الاستحالة، والثانية تتطلب التوفر على الهوية الكاملة للمشغل المخالف.

وقد أشارت المادة 542 من المدونة إلى مقتضى قريب مما قلناه أعلاه، يتمثل في الحالة التي يوجه فيها مفتش الشغل تنبيها بدون أجل للمشغل، من أجل اتخاذ التدابير اللازمة لتصحيح المخالفة التي تعرض صحة الأجراء وسلامتهم لخطر حال، ففي حالة رفض أو امتناع أو إهمال المشغل الامتثال للتدابير  المبينة في التنبيه الموجهة له من طرف مفتش الشغل، فإن لهذا الأخير تحرير محضر امتناع عن الامتثال لمضمون التنبيه.

وبالتالي نلاحظ هنا أن المشرع اعتبر عدم الامتثال في مجال حفظ الصحة والسلامة ليس مخالفة، لأنه لم يحدد له عقوبة تذكر، وأن تحرير المحضر إنما هو محضر معاينة لا غير وليس محضر مخالفة، على اعتبار أنه ربطه بضرورة توجيهه إلى رئيس المحكمة بصفته قاضيا للأمور المستعجلة مرفقا بمقال (أصبح مفتش الشغل طرفا في الدعوى)، حيث يقضي قاضي الأمور المستعجلة بالتدابير اللازمة لإيقاف الخطر الحال، (انتقلنا من الشق الزجري إلى الشق المدني الاستعجالي)، وقد لا يقوم المشغل بالاستجابة للتدابير التي أمر بها قاضي الأمور المستعجلة على ما أشارت إليه المادة 545 رغم ما تتمتع به الأوامر الاستعجالية من ميزة التنفيذ المعجل بقوة القانون، بحيث نعود من جديد إلى مفتش الشغل من أجل تحرير محضر بالمخالفة يوجهه إلى وكيل الملك، (رجعنا مرة أخرى إلى الشق الزجري).

جريمة رفض المشغل الانصياع لأوامر مفتش الشغل

نصت المادة 547 من مدونة الشغل على أنه “يعاقب بغرامة من 2000 إلى 5000 درهم عن المخالفتين التاليتين:

-عدم فتح سجل ا إنذارات المنصوص عليه في المادة 536 ؛

– عدم الامتثال لمقتضيات المادتين 537 و 538.”

ذلك أن رفض المشغل الإدلاء بجميع الدفاتر والسجلات والوثائق الواجب مسكها عند طلب مفتش الشغل له بها، أو امتناع المشغل عن الإدلاء بوثيقة تعرف بهويته، تعتبر انصياعا من المشغل عن الامتثال لتوجيهات مفتش الشغل والتي عاقب عليها المشرع بغرامة من 2000 إلى 5000 درهم.

ونجد أن وجوب إدلاء المشغل أو من ينوب عنه بوثيقة تعرف بهويته الكاملة،جعله المشرع رهينا بمناسبة تحرير مفتش الشغل لمحضر، حيث جاء في المادة 537 من المدونة “عند تحرير المحضر”، كما أن المفتش سيكون مواجها في حالة رغبته بتحرير محضر مخالفة عدم الانصياع بتخلف هوية المشغل المخالف.

وكان الأجدر اعتبار امتناع انصياع المشغل لمفتش الشغل، بعدم الإدلاء بوثيقة تثبت هويته أو رفض الإدلاء بالوثائق الواجب عليه مسكها، بمثابة فعل إهانة وتحقير لمفتش الشغل باعتباره موظفا عموميا، المعاقب عليها بموجب الفصل 263 من مجموعة القانون الجنائي المعاقب عليها بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من 250 إلى 5000 درهم، وهو ما يجعلنا أمام مرونة حتى في إهانة مفتش الشغل، إهانة مقرونة بغرامة بدل إهانة مقرونة بالحبس، وكان الأجدر على مدونة الشغل النص على عقوبات حبسية تحيط جهاز تفتيش الشغل بنوع من الهيبة والقوة، التي تجعل الطرف القوي في العلاقة الشغلية يهابه كما يطمئن الطرف الضعيف في هذه العلاقة لهذه الهيبة والقوة في ضمان حقوقه.

خلاصة القول أن المهام المنوطة بجهاز تفتيش الشغل والالتزامات الملقاة على عاتقه أكبر بكثير من الضمانات الحمائية المخولة له، مما يقتضي إعادة النظر في هذا الوضع المزري وغير اللائق، لأنه لا يعقل أن يكون الدور الأساسي لمفتش الشغل هو حماية فئة الأجراء، وهو أصلا لا يتوفر على أي حماية توازي المهام المتشعبة التي يضطلع بها.

 

معلومات حول الكاتب:

عدنان بوشان

باحث في القانون الاجتماعي والعلاقات المهنية

قد يعجبك ايضا