كلمة ذ. الحسن الداكي في ندوة وطنية حول موضوع: المساواة والعدل في الأسرة المغربية

كلمة السيد مولاي الحسن الداكي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة بمناسبة الندوة المنظمة من طرف وزارة العدل حول موضوع: “المساواة والعدل في الأسرة المغربية”

يومي الخميس والجمعة 27 و28 أكتوبر 2022

بفندق ماريوت بالرباط

بسم الله الرحمان الرحيم وبه أستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

حضرات السيدات والسادة.

إنه لمن دواعي السرور والاعتزاز أن أفتتح وإياكم هذه الندوة الهامة التي تتمحور حول موضوع: “المساواة والعدل في الأسرة المغربية”، والتي يشارك فيها ثلة من نساء ورجال القانون من الكفاءات المغربية ليتدارسوا وبكل مسؤولية القضايا المحورية التي يلامسها الموضوع، والتحديات التي يطرحها.

وأغتنم هذه الفرصة لأهنئ السيد وزير العدل على إشرافه على تنظيم هذا اللقاء بشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة والمساواة بين الجنسين، وقيادته لهذه المبادرة الرامية إلى إشراك الكفاءات الوطنية في المجال القانوني، في إغناء النقاش العمومي حول قضايا الأسرة.

كما أؤكد بنفس المناسبة انخراط رئاسة النيابة العامة في إنجاح هذا اللقاء، وفي جميع المبادرات الرامية إلى الرقي بوضعية الأسرة عموما، وذلك من منطلق تحمل المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق النيابة العامة، والذي عززته مدونة الأسرة بجعلها من خلال المادة الثالثة طرفا أصليا في قضايا الأسرة.

حضرات السيدات والسادة؛

إن من حق وواجب بلادنا التي تواصل جهودها بدون كلل في معركة البناء الديمقراطي الحداثي ودولة القانون والمؤسسات، القائم على ترسيخ قيم العدل والمساواة وحقوق الإنسان؛ أن تقف وقفة تعيد فيها قراءة إنجازاتها الكبرى، وتقييم مسارها وتقويمه وتطويره، وتحسين أدائها بما يحقق الأهداف التي رسمت لها.
ومن هذا المنطلق فإن اختيار موضوع هذه الندوة الذي يندرج في سياق النقاش الذي تشهده بلادنا حول مدونة الأسرة، والذي تمخض عن التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطاب جلالته بمناسبة الذكرى 23 لاعتلاء عرش أسلافه المنعمين حيث قال جلالته: “وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها……..والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال.
لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية. كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك…وعلى الجميع أن يفهم، أن تمكين المرأة من حقوقها، لا يعني أنه سيكون على حساب الرجل؛ ولا يعني كذلك أنه سيكون على حساب المرأة.” انتهى النطق الملكي السامي.

ويأتي هذا الخطاب السامي لجلالته في سياق حرص مولوي دؤوب على الاهتمام بشؤون الأسرة، ويشكل دعامة ومنطلقا أساسيا للتفكير في مداخل الإصلاح، باستحضار ما واكب التجربة العملية لتطبيق مدونة الأسرة من اختلالات، واستحضارا للمكتسبات الدستورية التي أقرها دستور 2011 فيما يتعلق بتعزيز الجانب المؤسساتي المرتبط بحماية الأسرة على العموم، والمرأة والطفل على وجه الخصوص.

فالدستور أولى مكانة بارزة للأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع، واعتبر أن الدولة تسعى إلى ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية لها، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها.

ومما لاشك فيه أن استحضار الاتفاقيات الدولية، من خلال اعتبار المستجدات الدستورية، وحتمية الملاءمة مع الاتفاقيات المصادق عليها من طرف المملكة باستلهام مبادئها المرجعية ومقتضياتها الكونية، يترجم قدرة بلادنا على تطوير قانون الأسرة بشكل هادئ، وجرأة مسؤولة، والتزام مستمر، في ظل الثوابت الأساسية التي تجعل من الخلية الأسرية أساسا لبناء مجتمع متوازن، قادر على كسب رهان التنمية الذي ننشده جميعا.

وإذا كان تطبيق مدونة الأسرة التي انصرم على دخولها حيز التنفيذ ما يزيد عن 18 سنة، وهي مدة كافية من الناحية العلمية لتقييم هذا النص، يفرض على جميع المهتمين القيام بوقفة تأمل لرصد المكتسبات، والكشف عن مكامن الاختلالات واستحضار المستجدات الوطنية والدولية؛ فإن تحقيق هذا الرهان لن تكتمل معالمه إلا إذا تم تبني قراءة تستحضر أبعاد وآثار هذا التطبيق على المغاربة جميعا، ومكونات الأسرة برمتها من نساء وأطفال ومسنين بمن فيهم من هم في وضعية إعاقة، ذلك أن معيار نجاح قانون الأسرة يتوقف بالضرورة على مقاربته لكافة الإشكالات التي تمس مصالح الأسرة ومراعاته لمبادئ المساواة والعدل والانصاف.

حضرات السيدات والسادة؛

لابد من التذكير اليوم أن رئاسة النيابة العامة عملت منذ تأسيسها على إيلاء حماية الأسرة أهمية قصوى، وجعلتها في مقدمة الأوراش التي يتعين الحرص على تتبعها من خلال تدخل النيابة العامة بمحاكم المملكة، وقد تجلى هذا الحرص منذ صدور أول منشور لرئيس النيابة العامة، الذي اعتبر حماية الأسرة، والفئات الخاصة من أولويات السياسة الجنائية، وخاصة حماية الأطفال والنساء.

وقد واكبت رئاسة النيابة العامة مواضيع الأسرة بحرص شديد سعت من خلاله إلى تفعيل أدوار النيابة العامة في قضايا الأسرة عموما وتعزيز حضورها وحرصها على مصالح أفرادها جميعا وتعزيز مكانتهم القانونية من مقاربة مواكبة ومؤازرة  الطرف المستحق للحماية، كما في قضايا النفقة والحضانة أو الطلاق أو التعدد أو الزواج المختلط ومن مقاربة الحرص على تحقيق مبدأي المساواة والعدل.

وفي نفس السياق شكل موضوع الزواج المبكر إحدى اهتماماتها ذات الأولوية حيث جعلته في مقدمة انشغالها لتعزيز حماية الطفل والأسرة اقتناعا بأن زواج من لا أهلية له تترتب عنه أسرة يخشى على تماسكها كما يخشى من أثر ذلك على المجتمع برمته، وعبرت رئاسة النيابة العامة عن ذلك من خلال سعيها لتطوير دور قضاة النيابة العامة والرفع من قدراتهم المعرفية في هذا المجال، كما سعت إلى طرح الموضوع واسعا للنقاش مع باقي المتدخلين فيه في عدد من اللقاءات الدراسية التي نظمتها، وأصدرت ثلاث دوريات في الموضوع ضمنتها توجيهاتها للنيابات العامة، والتي تهدف بالأساس إلى تفاعلها بإيجابية مع جميع قضايا الأسرة، وإلى استحضار المصالح الفضلى للأطفال وحقوقهم في المقام الأول.

*وهو ما انعكس فعليا بشكل إيجابي ومتزايد على عمل النيابـات العامـة بمختلف محاكـم المملكة، فقد بلغت الملتمسات الرامية لرفض تزويج القاصر برسم سنة 2021 ما نسبته 69,94 في المائة من مجموع الملتمسات المقدمة في الموضوع. في حين شكلت هذه النسبة 36 في المائة سنة 2018، و58,4 في المائة سنة 2019 و 65 في المائة سنة 2020، وقد انعكس هذا المنحى الإيجابي كذلك على مستوى الإحصاء العام لأذونات زواج القاصر، والذي عرف انخفاضا مضطردا برسم السنوات 2018 و2019 و2020 و2021 مقارنة بسنة 2017. بل إن الأرقام والمؤشرات تبشر بإيجابية أكثر سنة 2022 إن شاء الله*.

ومن نفس المنطلق عززت رئاسة النيابة العامة تدخلها لحماية المرأة والطفل من خلال مواكبة حثيثة لدور خلايا التكفل بالنساء والأطفال بالمحاكم، فسعت فيما يتعلق بحماية الأطفال في تماس مع القانون  إلى الحرص على حسن استقبالهم والاستماع إليهم وتوفير أنجع السبل للتكفل بهم أثناء معالجة قضاياهم أمام المحاكم، وجعل عودتهم للوسط الأسري معيارا أساسيا لذلك ما أمكن، وذلك أيا كانت الوضعية القانونية التي ساقتهم أمامها سواء كانوا ضحايا أو في وضعية صعبة أو مخالفين للقانون أو كانوا أطفالا مهملين، وكذا تتبع  أوضاعهم ونجاعة التدابير المتخذة لفائدتهم لاسيما من خلال الحرص على زيارة مختلف مراكز الإيواء والإيداع  التي يوجدون بها

كما تشمل هذه المواكبة بنفس العناية قضايا العنف ضد المرأة، علما أن هذا العنف انتهاك جسيم لحق المرأة في الكرامة الإنسانية لكنه أيضا من الأسباب المهددة لتماسك الأسرة، كما يضرب في العمق مبدأ المساواة الذي يجب أن تقوم عليه الروابط الأسرية، ليس فقط عندما يكون العنف عن طريق الضرب أو غيره وإنما كذلك عندما يشكل طردا من بيت الزوجية أو ما شابهه مما يكون إهانة لكيان الأسرة والمرأة على حد السواء.

لذا عملت رئاسة النيابة العامة على إعداد وتنسيق بروتوكول ترابي للتكفل بالنساء ضحايا العنف بشراكة مع باقي القطاعات المعنية بهذا التكفل في سعي لتوفير أفضل الظروف لحماية النساء ضحايا العنف على المستوى الترابي، وهو البروتوكول الذي تم إعداده تنفيذا لالتزامات إعلان مراكش 2020 الذي تم توقيعه تحت الرئاسة الفعلية لصاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة للامريم.

واستكمالا للجهود الحثيثة التي تبذلها رئاسة النيابة العامة على مستوى التأطير، والتكوين، وتعزيز القدرات المعرفية، وتتويجا لرؤيتها الاستراتيجية والشاملة لحماية الأسرة عموما، وحماية المرأة والطفل على وجه الخصوص، عملت على إعداد دراسة تشخيصية حول زواج القاصر، تم تقديم نتائجها في نونبر 2021، وكانت أرضية لإعداد خطة عمل مشتركة مع كافة المتدخلين لمناهضة الزواج المبكر، كما أعدت دليلا عمليا لتعزيز حماية الأطفال المهملين ودليلا مماثلا للحرص على حقوق النساء والأطفال وحمايتها في مجال العمل المنزلي، في سعي لتوحيد الرؤى وسبل المعالجة بما ينسجم وضرورة الحفاظ على حقوق هذه الفئات.

حضرات السيدات والسادة؛

إن ما تفرضه الظرفية من رهانات وتحديات ترتبط بحجم الانتظارات، والرغبة في تجاوز الإشكالات التي أفرزها التطبيق العملي، يجعل من هذا اللقاء مناسبة للتفكير الجماعي بشكل حر ومسؤول، بما يسمح بتبادل الأفكار، والاستفادة من الخبرات والتجارب المقارنة في الميدان، ومن تم الإسهام كقوة اقتراحية في مسار تطوير قانون الأسرة ببلادنا.

كما يقتضي من جانب آخر خلق آليات جديدة ونهج سياسة أكثر انفتاحا للتعامل مع قضايا الأسرة، بالشكل الذي يراعي الإكراهات، ويسهم في تعزيز الوضعيات القانونية لمكونات الأسرة بشكل انسيابي، ودون عراقيل وفق مقاربة تتسم بالمرونة والتيسير، ورؤية تستوعب المستجدات المتعلقة بالموضوع.

ولا تفوتني المناسبة للتأكيد على الحاجة لتعزيز موقع النيابة العامة تشريعيا في قضايا الأسرة انسجاما مع كونها طرفا أصليا فيها، فعلى سبيل المثال لا الحصر يجب إعطاؤها الحق في الطعن بالاستئناف في عدد من القضايا ذات الصلة الوثيقة بمصالح الأسرة، كالطعن في قرارات إنهاء الزوجية في حالات خاصة كما لو تبين استعمال التزوير في تبليغ أحد الأطراف أو الطعن في المقررات القاضية بتزويج القاصر.

وانعقاد هذه الندوة هو تجديد للعهد وربط للحاضر بالمستقبل في نطاق عمل دؤوب ينسجم مع مسار المملكة الدائم نحو تعزيز الاحترام لحقوق الأفراد والجماعات. ولا شك أن ما سيتمخض عن جمعكم هذا من توصيات وقرارات سيكون له بالغ الأثر على تطوير الإطار التشريعي المدبر لقضايا الأسرة، وجعله في مستوى الرهانات والتطلعات.

وختاما أتوجه مرة أخرى بجزيل الشكر للسيد وزير العدل على اختياره موضوع هذه الندوة ولدعوتنا لحضور أشغالها، كما أتوجه بالشكر لكل من ساهم في تنظيمها والإعداد لها.

وفقنا الله جميعا لما فيه خير عدالتنا ووطننا، وجعلنا عند حسن ظن سيدنا المنصور بالله جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأعز أمره وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، وأقر عينه بولي عهده الجليل مولاي الحسن، وسائر أفراد أسرته الشريفة إنه سميع مجيب.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

مولاي الحسن الداكي
الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة

بالرباط يوم الخميس 27 أكتوبر 2022

قد يعجبك ايضا