العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية وعدالة الأحداث / ذ. مولاي الحسن الداكي

كلمة السيد مولاي الحسن الداكي الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة بمناسبة الندوة الدولية المنظمة حول موضوع:”العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية وعدالة الأحداث:

 

الرباط- 30-28 يونيو 2022

 

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين و على  آله وصحبه أجمعين

-السيد وزير العدل؛

-السيد رئيس جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية؛

-السيد الأمين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ممثل السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛

-السيد وسيط المملكة؛

-السيدة ممثلة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛

-السيد رئيس النيابة العامة بالمملكة الأردنية الهاشمية؛

-السيد النائب العام بمملكة البحرين؛

-السيد ممثل المدير العام للإدارة العامة للأمن الوطني ؛

-السيد ممثل المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج؛

-السيد ممثل قائد قيادة الدرك الملكي؛

– السيدة ممثلة منظمة الأمم المتحدة للطفولة بالمغرب (UNCEF)؛

-السيد ممثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات؛

-السيدات والسادة السفراء والسيدات والسادة ممثلو الهيئات القضائية العربية والمؤسسات والمنظمات الدولية والاقليمية؛

-السادة المسؤولون القضائيون؛

-السيدات والسادة قضاة التحقيق والاحداث وقضاة النيابة العامة؛

-السيدات والسادة ضيوف المملكة المغربية الأفاضل؛

-حضرات السيدات والسادة كل باسمه وصفته والتقدير الواجب له.

يطيب لي ابتداءً أن أعرب لكم عن اعتزاز رئاسة النيابة العامة بتنظيم هذا الملتقى العلمي المتميز بشراكة مع جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بدعم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف”، والذي اختير له موضوع “بدائل العقوبات والتدابير السالبة للحرية”. وهو كما يعلم الجميع من المواضيع المهمة التي تحيل مناقشتها على مقاربات دستورية وحقوقية وقضائية تتصل بمسار دولي يهدف إلى أنسنة العقوبات الجنائية وتعزيز حقوق الإنسان.

وبهذه المناسبة، يطيب لي أن أتوجه بخالص الشكر وجزيل الثناء إلى كل القائمين على تنظيم هذا اللقاء العلمي المتميز، وخاصة السيد رئيس جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية وكل أطرها وأساتذتها، كما أوجه الشكر الخالص إلى منظمة اليونيسف على دعمها المتواصل لجهود رئاسة النيابة العامة من أجل التكوين وتعزيز قدرات السادة القضاة في مجال عدالة الأحداث وحماية الطفولة عموماً ببلادنا.

كما أغتنم هذه الفرصة لأرحب بجميع ضيوفنا الكرام من مختلف الهيئات القضائية والمؤسسات العربية والمنظمات الدولية والإقليمية، وأقول لكم: حللتم أهلا، ونزلتم سهلا في عاصمة المملكة المغربية مدينة الرباط رمز الحضارة وعاصمة الأنوار التي اعتبرتها منظمة اليونسكو منذ سنة 2012 “تراثاً مشتركاً” مندرجاً في قائمة التراث العالمي.

حضرات السيدات والسادة؛

تحظى حرية الأفراد بقدسية خاصة، جعلتها تتبوأ منذ القدم مركزا متميزا في المواثيق والأوفاق الدولية، والتي حَفٌَت المساس بها بضمانات عديدة، تصبو في مجملها إلى جعل القضاء هو الجهة الوحيدة القادرة على سلبها، بعد احترام ضوابط المحاكمة العادلة وتمتيع المشتبه فيه بكامل حقوقه الدستورية والكونية بحيث يكون سلب الحرية هو الحل الوحيد لردع الجاني وتحقيق الانصاف.

وإذا كانت العقوبات السالبة للحرية تعرف انتشارا عالميا كجزاء تقره القوانين لتحقيق الردع العام والخاص، فإن الدراسات والتقارير الدولية الصادرة عن الهيئات الأممية كمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات، واللجنة الدولية للعدالة الجنائية والوقاية من الجريمة تؤكد أنه على مستوى الممارسة فإن اللجوء العام إلى عقوبة السجن يتصاعد، دون إمكانية البرهنة على أن ذلك ينتج عنه تحسن في مؤشرات الأمن والسكينة العامة. ففي العالم حاليا ملايين السجناء، يتوزعون ما بين معتقلين احتياطيين ومدانين نهائيين، ولا شك أن الأرقام التي لا زالت تسجل سنويا ترسم خطا تصاعدياً في معظم البلدان، كانعكاس موازٍ للدينامية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي يعرفها عالم اليوم إلى جانب ارتفاع الكثافة السكانية ومعدلات الجريمة.

وإذا كانت آثار السجن عموما وخيمة وتغرق الدول والأفراد في أعباء مختلفة منها ما هو مادي واقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي وأسري، فإن هذه الآثار تكون أكثر شدة إذا انصب سلب الحرية على طفل متورط في ارتكاب جرم، فإصلاح الأحداث ورعاية مصلحتهم الفضلى يقتضي أن يكون تدبير الاعتقال أبعد ما أمكن عن عدالة الأحداث.

وتحتل اليوم بدائل الاعتقال الاحتياطي والتدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية مكانة متميزة في تنفيذ السياسة الجنائية المعاصرة، خاصة وانها أصبحت محل توافق حقوقي دولي ومطلب قضائي عملي، من شأن إدراجها في التشريعات الوطنية وتفعيلها على الوجه المطلوب أن يسهم في تخفيف وطئ العقوبات الحبسية قصيرة المدة واثارها السلبية، لا سيما تلك المرتبطة بتفاقم مشكلة الاكتظاظ السجني الذي أضحى ظاهرة عامة تشهدها العديد من النظم العقابية.

وتزداد حتمية هذا النقاش عندما يتعلق الأمر بأحداث دون سن المسؤولية، حيث تقضي فلسفة عدالة الأحداث اعتبار جميع الأطفال في تماس مع القانون، سواء كانوا ضحايا أو جانحين أو في وضعية صعبة أطفالاً محتاجين للحماية، وهم على اختلاف أوضاعهم يعتبرون ضحايا عوامل وظروف شخصية واجتماعية ساقتهم إلى التماس مع القانون، وينبغي لآليات العدالة أن تتقصى مصلحتهم الفضلى عند اختيار التدبير الأنسب لهم.

ومما لا شك فيه أن الإيداع بالمؤسسات وسلب الحرية يجب أن يكون آخر ملاذ يتم اللجوء إليه، وعلى نظم العدالة توخي أنجع السبل لتكييف الإجراء القانوني مع الظروف الخاصة للطفل، والحرص أولا وأخيراً على إبقائه في كنف أسرته ووسطه الطبيعي.

لذا فإن خيار البدائل بالنسبة للأطفال هو أكثر إلحاحاً إذ يضعنا أمام رهان تحقيق المصلحة والإصلاح والتأهيل والإدماج دون اللجوء إلى سلب الحرية، وذلك باعتماد آليات معترف بها دولياً كالعدالة التصالحية ونظام تحويل العقوبة وبدائل أخرى أثبتت فعاليتها كالعمل لفائدة المنفعة العامة أو التدابير الرقابية الخاصة بالأحداث.

حضرات السيدات والسادة؛

لم يغب موضوع بدائل العقوبات السالبة للحرية بشكل عام عن النقاش الوطني ذي الصلة بإصلاح منظومة العدالة وآلياتها ببلادنا،  فقد أفضت التشخيصات الدقيقة التي أجريت في عدة محطات كبرى، أبرزها الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، إلى ترسيخ القناعة بتبني إصلاح جذري عميق يستشرف مستقبلاً يواكب التوجهات الحديثة للسياسة الجنائية، الرامية في جزء مهم منها إلى تنويع رد الفعل العقابي تجاه الجريمة، من خلال سن خيارات تشريعية بديلة ومتنوعة، تمكن من تفادي وتجاوز سلب الحرية واعتماد تدابير بديلة، سواء قبل المحاكمة أو خلال النطق بالعقوبة أو في مرحلة تنفيذها. وهو ما أكده جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في خطابه السامي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2009، الذي حدد المجالات ذات الأسبقية لإصلاح منظومة العدالة والتي من بينها تحديث المنظومة القانونية، لاسيما ما يتعلق بضمان شروط المحاكمة العادلة وبدائل العقوبات والطرق القضائية البديلة، حيث قال جلالته: (وهو ما يتطلب نهج سياسة جنائية جديدة، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية، ومواكبتهما للتطورات، بإحداث مرصد وطني للإجرام، وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية. وبالموازاة مع ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة، وإعادة النظر في قضاء القرب). انتهى النطق الملكي السامي.

ولئن كان الرهان مطروحا منذ مدة على عاتق الهيئات القضائية في مجال تقييم مدى تفعيلها لبدائل التدابير السالبة للحرية المتاحة قانونا، فإن التسليم بهذا المعطى لا ينبغي أن يحجب حاجة كل الدول، ومنها بلادنا إلى إطار تشريعي متكامل يعزز صلاحيات أجهزة العدالة الجنائية، عبر تنويع التدابير البديلة وتوسيع هامش تطبيقها حتى نتمكن من بلوغ الأهداف العامة المرجوة بقدر كبير من الفعالية.

وأود بهذه المناسبة أن أشيد بمشروع قانون العقوبات البديلة الذي تفضل السيد وزير العدل المحترم، بإحالته على مكونات السلطة القضائية في إطار تعزيز التعاون والتنسيق بين سلطات الدولة، قصد إثراء النقاش بشأنه قبل تقديمه للمسطرة التشريعية. وهو مشروع طموح يروم تحديث الترسانة التشريعية الوطنية بغية ملاءمتها مع المعايير المعتمدة دولياً، وتعزيز عمل السلطات القضائية ومؤسسات العدالة الجنائية لتحقيق مكافحة ناجعة لأنواع محددة من السلوك الإجرامي، وفق مقاربات مندمجة ومتكاملة.

ومن شأن اعتماد هذا المشروع أن يوفر بدائل للعقوبات السالبة للحرية في مرحلة النطق بالحكم، وهو ما سيتيح للهيئات القضائية هامشا أرحبا في تقدير مدى إعمال العقوبة الحبسية من عدمه بحسب ظروف القضية وملابساتها، كما سيشكل دعما إضافيا للجهود التي تبذلها اليوم النيابات العامة وقضاة التحقيق من أجل ترشيد الاعتقال الاحتياطي.

وقد سبق لرئاسة النيابة العامة في تقاريرها السنوية الصادرة منذ سنة 2017 أن دعت إلى التعجيل باعتماد العقوبات البديلة، خاصة الخيارات المطروحة حاليا والتي تشمل العمل لأجل المنفعة العامة والغرامات اليومية والمراقبة الالكترونية وتقييد بعض الحقوق والحريات، والتي ستكون بداية حسنة لانطلاق ورش تنفيذ العقوبات البديلة بحقل العدالة الجنائية على المستوى الوطني.

حضرات السيدات والسادة؛

إن المضامين الأساسية لهذه الندوة، ستشكل بما تشمله من محاور ومداخلات فرصة لتبادل الخبرات بين تجارب قضائية رائدة ومتنوعة على المستوى العربي والدولي. ومناسبة لاستلهام الممارسات الحسنة في الأنظمة القضائية المقارنة التي يمكن إدراجها ضمن القوانين الوطنية، لذا فإن المأمول من المشاركين من قضاة النيابة العامة المغربية الحرص على التفاعل مع العروض المقدمة، والإقبال على المناقشات التي ستجري خلال هذين اليومين، سيما بالنظر للمستوى العالي للخبراء المؤطرين لهذه الندوة.

وفي ختام هذه الكلمة أود أن أجدد الشكر لكل الوفود ومرافقيهم الذين حلوا ضيوفا أعزاء في بلدهم الثاني. وإلى كل من ساهم في إعداد وتنظيم هذا اللقاء العلمي المبارك،  متمنيا أن تتكلل أشغال هذه الندوة بالتوفيق والنجاح، وأن يستمر التعاون بين مؤسستينا في المجالات العلمية والعملية ذات الاهتمام المشترك، هذا التعاون الذي يشكل السمة البارزة لاستراتيجية رئاسة النيابة العامة في انفتاحها على محيطها الوطني والدولي، بهدف الاطلاع على التجارب الفضلى في مجال العدالة واعتمادها في بلورة عدالة منصفة وناجعة تعتمد بالإضافة إلى القوانين الوطنية على المبادئ الكونية والأوفاق الدولية لحماية حقوق الإنسان وتتحقق فيها شروط المحاكمة العادلة وفقاً لمضامين دستور المملكة وللتوجيهات التي ما فتئ يؤكد عليها في العديد من المناسبات جلالة الملك محمد السادس دام حفظه ونصره وأقر علينه بولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بصنوه السعيد الأمير مولاي رشيد وكافة أسرته الشريفة، إنه سميع مجيب الدعاء.

وفقكم الله جميعا.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

قد يعجبك ايضا