المحاكمة عن بعد واقع مفروض وعدل منشود

ذ. محماد الفرسيوي

مقدمة:

يشكل الحق في المحاكمة العادلة[1] أحد الأعمدة الأساسية لدولة الحق والقانون ولحماية الإنسان من التعسف والشطط والتمييز والاعتداء[2]، حيث تحتل المحاكمة العادلة مكانة متميزة في الاتفاقيات الدولية التي تًعنى بحقوق الانسان سواء ذات الطبيعة العالمية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966….، أو ذات الطبيعة الإقليمية كالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لسنة 1981 والاتفاقية الأمريكية لحقوق الانسان 1969، والاتفاقية الأوروبية لسنة 1987 الخاصة بمنع التعذيب أو العقوبة اللاإنسانية أو المهنية وغيرها من الإعلانات و القواعد ذات الصلة.

كما تشكل المحاكمة العادلة ركنا ركينا تستند إليه دولة القانون، وتستمد مشروعيتها من مدى قدرتها على تحصين حريات وحقوق الأفراد في مواجهة أجهزة العدالة الجنائية،[3] وبالتالي فإن حقوق الدفاع وضمانات المتهم تعد إحدى أبرز تمظهرات خروج الإنسانية من حالات سيادة منطق القوة والغلبة القائمة على السلطة الفردية أو الجماعية إلى حالة إقرار القانون واستخدامه بشكل ينسجم مع ضرورة المجتمع في الحفاظ على نفسه، وضرورة الحفاظ على حرية وكرامة أفراده.

وقد اكتست المحاكمة العادلة خلال الأشهر الأخيرة  منعطفا تاريخيا وتطورا مطردا إلى أن أضحت تعبيرا مألوفا يتردد في جل الملتقيات والمنابر العامة، ويعود السبب في  ذلك إلى ما فرضته جائحة كرونا من تدابير استثنائية شملت كل المؤسسات والمرافق التي لم يسلم منها جسم القضاء بكل مكوناته مما فرض وضع قواعد وآليات جديدة في سير هذا المرفق الحيوي  وعلى رأسها المحاكمة عن بعد.

ويقصد بالمحاكمة عن بعد، استعمال الوسائط التقنية الحديثة لإجراء محاكمة قضائية بين أطراف لا يجمعهم حيز مكاني واحد، حيث تجري المحاكمة من خلال تقنية الإتصال عن بعد  videoconference ، أي بمعنى محادثة مسموعة ومرئية بين الهيئة القضائية وأحد أطراف الدعوى لضمان التواصل المباشر رغم التواجد في أماكن مختلفة ومتباعدة[4].

لكن بالعودة إلى قانون المسطرة الجنائية فالمشرع المغربي لم ينظم المحاكمة عن بعد، وهو الأمر التي أقام النقاش القانوني ولم يقعده، وحظيت  بنقاش مستفيض على اعتبار أن الأصل هو المحاكمة الحضورية للمتهم وفق ما تقتضيه نصوص قانون المسطرة الجنائية  وقبلها دستور المملكة لسنة 2011 الذي أحرز تقدما على مستوى التنصيص على مقتضيات مهمة تتعلق بموضوع المحاكمة العادلة، وهو ما يفسر وصفه من جل الحقوقيين والممارسين أنه دستور حقوق وحريات بامتياز، هذا الوصف لم يأتي من فراغ بل هو حقيقة نجدها  أثرها من ديباجته إلى أحكامه الختامية، وهو ما يدفعنا إلى  بسط إشكالية محورية وتتمثل في مدى  قدرة  المحاكمة عن بعد التوفيق بين ضرورة محاكمة الخارجين عن القانون الجنائي وضمان محاكمتهم وفق ما تتطلبه ضوابط ومعايير المحاكمة العادلة ؟

وللجواب عن هذه الإشكالية وتفكيك عناصرها ارتأينا تناول الموضوع وفق التصميم التالي:

المطلب الأول:  المحاكمة عن بعد وسؤال العدالة

  • الفقرة الأولى: مبررات ودواعي اللجوء إلى المحاكمة عن بعد
  • الفقرة الثاني: المحاكمة عن بعد وسؤال الشرعية الإجرائية

المطلب الثاني: المحاكمة عن بعد وحتمية التقنين

  • الفقرة الأولى: مظاهر التوجه نحو إقرار المحاكمة عن بعد
  • الفقرة الثانية: المحاكمة عن بعد ومسألة النجاعة القضائية

 

 

 

المطلب الأول:  المحاكمة عن بعد وسؤال العدالة

إن العدالة الجنائية اليوم هي الغاية المثلى والهاجس الأسمى الذي تسعى جل الدول إلى تحقيقه وذلك من خلال وضع مجموعة من القواعد المسطرية التي تمكن من الوصول إلى كل مجرم وتوقيع العقاب عليه، لكن مع ضمان حقوق وحريات هذا الأخير وكفالة حقوقه في الدفاع وخاصة إذا تعلق الأمر بالمحاكمة عن بعد كسابقة في المغرب، وللحديث عن هذا الموضوع كان لزاما علينا تناول مبررات ودواعي اللجوء إلى المحاكمة عن بعد (الفقرة الأولى) قبل أن ننتقل إلى المحاكمة عن بعد وسؤال الشرعية الإجرائية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مبررات ودواعي اللجوء إلى المحاكمة عن بعد

إن غاية أية قانون هو تحقيق النظام العام داخل المجتمع  ورد أي اضطراب يمسه، وهو مفهوم يتكرر بتداوله باستمرار كونه من الأفكار الأساسية في عالم القانون، وذا ارتباط وثيق بدور الدولة ومهامها المنوطة بها، وبما يحقق مصالحها العليا، رغم الاتفاق على صعوبة وتفاوت تعريفه حتى اليوم من خلال النظريات التي تجاذبته بغية الوصول لمفهوم متفق عليه، ذلك أن فكرة النظام العام  يلتف بها الكثير من الغموض والصعوبة في التحديد الدقيق لنطاقها، كما أن مضمونها يختلف حسب ظروف كل زمان و مكان، ومن ثم فما يعتبر من النظام العام في بلد ليس كذلك في بلد آخر، و أيضا ما يعد من النظام العام في زمن معين ليس بالضرورة كذلك في زمن آخر لكن الأكيد أن فكرة النظام العام لها جذورها التاريخية ولم تظهر فجأة، والمؤكد أيضا أنها فكرة غامضة ومرنة يصعب إن لم نقول يتعذر تحديد مضمونها.

حتى الفقه لا يزال يجد صعوبة في تحديد مفهوم النظام العام، وهذا ما عبر عليه بعضهم بقوله: “إن النظام العام يستمد عظمته من ذلك الغموض الذي يحيط به، فمن مظاهر سموه أنه ظل متعاليا على كل الجهود التي بذلها الفقهاء لتعريفه”.

ومحاولة لتحديد تعريف لنظام العام فيقصد به مجموعة من القواعد القانونية التي تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى، وتعلوا على مصلحة الأفراد الذين يجب عليهم جميعا مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم، حتى وإن حققت هذه الإتفاقات مصالح فردية لأن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة.

وتعد الصحة العامة أحد مكونات النظام العام بالإضافة إلى الأمن العام والسكينة العامة، وبذلك يكون أي مساس بالصحة العامة مساس بهذا النظام العام الذي تسعى الدول إلى استتبابه وإقامته داخل الدولة، وفي خضم استمرار تفشي فيروس كرونا ومخافة توغله  داخل المجتمع رغم استمرار عملية التلقيح ضده، وفي غياب تلك الترسانة القانونية الكفيلة بالتعامل مع هذا التطورات الخطيرة لهذا الفيروس فقد تم اللجوء إلى مجموعة من التدابير والآليات البديلة الأخرى التي تم تسخيرها وإرصادها من لدن الدولة منذ ظهوره إلى غاية اليوم، بغية الحفاظ على النظام العام برمته، والنظام العام الصحي بالخصوص كونه هو المستهدف بهذا الفيروس، وهي التدابير التي شملت مرفق القضاء وذلك بتبني المحاكمات عن بعد مخافة انتقال هذا الفيروس حيث  أصبح النظام العام الصحي في هرم اهتمامات كل القائمين على العملية القضائية.

ومن مبررات اعتماد المحاكمة عن بعد كذلك خطورة فيروس كرونا وجهل كل المعطيات الخاصة به، وكذا تضارب الآراء حول خطورته وأسباب انتشاره ومدى إمكانية الوصول إلى لقاح مضاد، وأمام هذه الضبابية  لم يكن للدولة المغربية وبتوجيهات ملكية  إلا حل وحيد وهو اللجوء إلى المحاكمة عن بعد عوض المحاكمة الحضورية.

كما أنه وبمقتضى مرسوم إعلان حالة الطوارئ[5] شلت حركة التجوال والتنقل بشكل شبه تام وهو ما يمدد أثره إلى المحاكم إن استمر العمل بالمحاكمات الحضورية التي تتسم بمراسيم وطقوس يؤثث مجلسها جهات قضائية ومساعديه وشهود ومعتقلين … وكذلك والعموم، بحيث يستحيل حضورهم  كما كان قبل ذلك.

يتضح إذن أن حماية حياة الأفراد وسلامتهم زأمنهم الصحي كان الدافع الأساسي إلى اعتماد المحاكمة عن بعد كمبرر موضوعي فرض نفسه وأزاح عنه أي بديل آخر، بالإضافة إلى استحالة إرجاء المحاكمات الحضورية إلى أجل غير معلوم لما في ذلك من مساس خطير لحقوق وحريات الأفراد خاصة المتابعين في حالة اعتقال.

 

 

 

 

الفقرة الثاني: المحاكمة عن بعد وسؤال الشرعية الإجرائية

إذا قلنا أن العدالة تعتبر مرآة التحضر البشري والرقي الإنساني، وهي المعيار الدال على الإحترام المكفول لآدمية الإنسان وإنسانيته[6]، فإن تحقق العدالة لا يتأتى إلا بوجود قضاء كفء، نزيه وعادل، وهذا الأخير مرهون بسيادة المناخ القانوني الذي تُضمن تحت رايته الحقوق أو بالأحرى ضمانات لكل ما يُوجهُ إليه الإتهام من قبل السلطة المختصة، بدعوى قيامه بفعل مجرم[7]، ولا يتوفر كل هذا إلا في جو يسود فيه الإحترام الكامل للحقوق والحريات .

إلا أنه، وما إن تم إقرار المحاكمات عن بعد  حتى ثار نقاش قانوني وحقوقي حول  المحاكمات عن بعد ومسألة حماية الحقوق والحريات، على اعتبار أنها سابقة في تاريخ القضاء المغربي، وما زاد من حدة هذا النقاش هو أنها جاءت دون سابق إنذار وفرضت علينا نفسها بغتة  دون مساومة مع أي جهة كانت.

وأول ما عرض على المساءلة والإنتقاد مبدأ الشرعية الإجرائية باعتباره قاعدة ذهبية في المادة الجنائية، وذلك انطلاقا من قاعدة ” لا متابعة ولا محاكمة إلا بنص”، بحيث إن كل إجراء لا يجد له سند في قانون المسطرة الجنائية والقواعد الإجرائية الخاصة يعد باطلا ويعتبر ارتجالا و تجاوزا للقانون يستوجب المساءلة والعقاب.

وانطلاقا من قاعدة أن عدالة الشكل أعظم وأقدس من عدالة الموضوع، فقد تعرضت هذه المحاكمات إلى وابل من الانتقادات  بخصوصه مدى انسجامها مع مبادئ وضوابط المحاكمة العادلة كما هو متعارف عليها كونيا، أوصلت البعض إلى حد المطالبة بالدفع بعدم دستوريتها لتجاوزها روح  الدستور.

إذ أن المسلم به في المحاكمات الجنائية هو حضور المتهم لأطوار المحاكمة، فإذا كان غياب الطرف المدني أو المسؤول المدني لا تأثير له على مواصلة إجراءات المحاكمة  إلا أن غياب المتهم عن حضور المناقشة في القضايا الجنائية يكون له تأثير كبير على المحاكمة، لما يكتسيه الفعل الجرمي المقترف من خطورة في حق المجتمع، ورغم التواصل عن بعد مع المتهم وحضوره الإفتراضي  فإن ذلك فيه مساس بحقوق المتهم  وطقوس وعنفوان المحاكمة التي يساهم فيها الجميع في نسج خيوط وجدان وقناعة المحكمة على  ضوء تلك المناقشات الحضورية  بين أطراف الخصومة الجنائية أمام مجلس القضاء.

لنعود ونؤكد على أن  خضوع المتهم للقانون  لا يعني أن مركزه ضعيف وخارج الحماية الحقوقية، بل إن من واجب الدولة باعتبارها تنظيما ديمقراطيا أن تحميه بمبدأ الشرعية الجنائية بشقيه الموضوعي والإجرائي، وأن تحيط حقوقه الأساسية بسياج متين من الضمانات تضمن الموازنة بين مطامح الفرد التي لا تعرف القناعة وبين الكيان الاجتماعي الذي تعد تلك الضمانات وسيلة الحفاظ على قيمه الأساسية، والموازنة بين حق المجتمع – أي المصلحة العامة التي تقتضي مكافحة الجريمة والحفاظ على الأمن والاستقرار- وبين حق المتهم في محاكمة عادلة تتحقق بإتباع إجراءات قانونية شرعية سليمة وتامة، لذلك فالتنازع بين حق الدولة في العقاب وحق المتهم في الحرية لا يعبر عن أي تعارض وإنما هو تعبير عن وجهين لعملة واحدة لأن عقاب الجاني هو تأكيد للحرية الفردية للبريء[8].

وإذا كان للمجتمع حق اقتضاء العقاب فإنه تقابله مصلحة المتهم في حماية حقوقه وخاصة حقوق الدفاع، ومن هذا المنطلق يقاس نجاح أي نظام قانوني بمدى التوافق بين مصلحة المجتمع في استيفاء حقه في عقاب الجاني وبين مصلحة الفرد في إثبات براءاته[9]، لذلك أحاط المشرع المتهم بضمانات معينة إزاء كل الإجراءات التي يتخذها القانون ضده في كل المراحل خاصة مرحلة المحاكمة التي تعد المرحلة الحاسمة في رحلة البحث عن تحقيق العدالة، والقضاء الجنائي لا يعرف الحلول الوسطى[10] فإنما يكون المتهم قد ارتكب الجريمة وتم توجيه الاتهام له وفقا لإجراءات سليمة فتحكم المحكمة بإدانته، وهي في ذلك قد تستخدم ظروف التخفيف أو قد تشدد بظروف التشديد كحق للقاضي، كما يمنح القانون فرصة الطعن في حكمها كحق للمحكوم عليه، وإما نفي الاتهام عن المتهم والقضاء ببراءته.

نخلص مما سبق أنه إذا ما اعتبرنا الإجراءات الحضورية للمحاكمة أمرا أساسيا لعدالتها، فإن المحاكمة عن بعد  تظهر كعائق للاستفادة من أهم الضمانات التي يضمنها الحضور الفعلي للمتهم، لأن غيابه عن أطوار محاكمته حضوريا يعيق تطبيق كل ما من شأنه ضمان حقوق المتهم المتفق على تفعيلها كونيا.

المطلب الثاني: المحاكمة عن بعد وحتمية التقنين

إذا كان الأصل في التشريعات الجنائية هو أن يحضر المتهم بشخصه أمام القضاء الجنائي كحق من حقوقه، حتى يتسنى له إبداء أوجه دفاعه بشأن الجريمة المتهم بها من أجل تبرئة نفسه، وإعمالا للقاعدة الجنائية ” لا إدانة لأحد قبل سماع أقواله وإبداء دفاعه”، فإن التوجه اليوم  نحو المحاكمة عن بعد أصبح يفرض نفسه وهذا ما سنتطرق له من خلال إبراز بعض مظاهر التوجه نحو إقرار محاكمة عن بعد ( الفقرة الأولى)، لنتحول بعده إلى الحديث المحاكمة عن بعد  ومسألة النجاعة القضائية  ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مظاهر التوجه نحو إقرار المحاكمة عن بعد

لا شك أن إصلاح منظومة العدالة ككل يمثل دعامة وركيزة أساسية لتوطيد الشفافية والمصداقية في المؤسسات وبناء مجتمع ديمقراطي يقوم على أساس الحق والقانون، فالمغرب أبان في أكثر من  مرة ومناسبة  عن إرادة  قوية في المضي نحو قضاء أفضل يواكب كل التطورات التي تعرفها الساحة الوطنية والدولية .

وقد كان موضوع استعمال تقنيات الاتصال عن بعد من أهم المواضيع التي  حضيت بنقاش مستفيض خلال الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة وهو ما تم تنزيله في توصيات هذا الميثاق الذي جعل من  تحديث وعصرنة القضاء إحدى الأوراش التي تسعى الترسانة القانونية تأطيرها وتنزيلها من خلال التعديلات المرتقبة سواء على مستوى القانون الموضوعي أو القانوني الإجرائي.

بحيث تدارك المشرع ذاك الفراغ الحاصل في قانون الحالي من خلال مشروع قانون المسطرة الجنائية وأوجد للمحاكمة عن بعد نصوصا تستند عليها ولو كإجراء استثنائي ومن ضمن هذه المقتضيات ما أوردته المادة 133 من المشروع التي تعطي لقاضي التحقيق امكانية الاستماع  إلى الشهود عن طريق وسائل التواصل عن بعد.

نجد كذلك ما نصت عليه المادة 1 ـ 193 والتي سمحت لقاضي التحقيق إذا كانت هناك أسباب جدية تحول دون حضور الضحية أو الشاهد أو الخبير أو المطالب بالحق المدني لبعدهم عن المكان الذي يجري فيه التحقيق امكانية تلقي تصريحاتهم عبر تقنية الاتصال عن بعد إما تلقائيا أو بناء على ملتمس من النيابة العامة أو الأطراف أو من ينوب عنهم.

كذلك نجد أحكام المادتين 4 ـ 347 التي نصت على انه:

” إذا كانت هناك أسباب جدية تحول دون حضور المتهم أو الضحية أو الشاهد أو الخبير أو المطالب بالحق المدني لبعده عن المكان الذي تجري فيه المحاكمة، أمكن للمحكمة تلقائيا أو بناء على ملتمس النيابة العامة أو أحد الأطراف أو من ينوب عنهم تطبيق مقتضيات المادة 1ـ 193 من هذا القانون”.

وما يمكن أن نسجله بخصوص هذه المواد  وأخرى هو أنها مزالت خجولة لم تتجرأة بعد عن الإقرار الفعلي  للمحاكمة عن بعد، إذ جاءت مقتصرة على جهات دون أخرى خاصة المتهم باعتباره المخاطب الأصلي بهذه المحاكمة إلى جانب تطلب شروط قد لا تسعف القضاة، ولما كانت المشروع لم يدخل حيز التنفيذ بعد  فالأمل اليوم معقود عليه خاصة إذا استحضر هذه التجربة  التي فرضتها حالة الطوارئ  لإعطاء الشرعية لهذه المحاكمة بما يضمن محاكمة عادلة.

 

الفقرة الثانية: المحاكمة عن بعد  ومسألة النجاعة القضائية

إن ما يميز القاعدة القانونية من مهدها إلى لحدها هي أنها دائما تواكب تطور المجتمع الذي تسري أحكامه فيه، وذلك تبعا لحاجياته ومتطلباته وما استجد داخله وهذا هو ما وقع للقاعدة الجنائية إبان ظهور وباء كرونا حيث أملت تلك الإجراءات المتخذة من قبل الدولة تعطيل مجموعة من القواعد والمبادئ القانونية الجنائية الراسخة التي كانت سائدة، وإحلال قواعد جديدة مكانها خاصة فيما يهم الشق الإجرائي، الأمر الذي فتح نقاشا حول ضمانات المحاكمة العادلة في ظل المستجدات التي فرضتها حالة الطوارئ .

على اعتبار أن الحق في محاكمة عادلة بكل ضماناتها وفي مقدمتها احترام حقوق الدفاع، ضرورة لاستكمال دولة الحق والقانون وترسيخ الديمقراطية ولبنة لإرساء مجتمع العدالة والمساواة، إنها جزء هام من حقوق الإنسان التي ترتبط بالعديد من حقوقه الطبيعية كالحق في الحرية وفي الكرامة والحق في العدالة والمساواة كقيم إنسانية وأخلاقية ثابتة تسكن ضمير الإنسان عبر الزمان وفي كل مكان، وتستمد مرجعيتها من عالمية حقوق الإنسان التي حسم فيها المجتمع الدولي بإحلالها مكانة متميزة ضمن المواثيق الدولية.

ولعل هذا ما يفسر موجة الإصلاحات التي عرفتها قوانين المسطرة الجنائية في العديد من الدول، ليس فقط تلك العريقة بل حتى الحديثة العهد بالديمقراطية، وهذا ما جعل التوسع في مفهوم هذه الحقوق وفي ضمانات احترامها الفعلي، معيارا تقاس به درجة احترام الحريات ومستوى التقدم الديمقراطي للدول والمرجع في ذلك للدساتير وقوانين المسطرة الجنائية التي تمثل أهم المصادر الوطنية في هذا الصدد.

بحيث ينص الفصل 120 من دستور المملكة لسنة 2011 على أنه لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم، وضمان هذه المحاكمة العادلة مرتبط بسرعة الإجراءات والفصل في الدعوى الجنائية، ولكن ليس المقصود بالمحاكمة العاجلة اتخاذ إجراءات مستعجلة تهضم سرعتها حقوق المتهم، وإنما المقصود عدم التماطل في دراسة القضية وكثرة التأجيلات بدون سبب مقنع لهذا ولذلك  فالمحاكمة عن بعد يمكن لها أن توفر الجهد والزمن في هذا الصدد.

وحيث إن المناسبة شرط كما يقال فإننا ندعوا  في هذا الصدد من المشرع المغربي أخد الدرس من هذه التجربة وبالموازة مع ذلك الانفتاح على التجارب المقارنة  التي كان لها السبق في تبني المحاكمة عن بعد، وكيف يمكن أن تكون المحاكمة عن بعد مدخلا من مداخل تحقيق النجاعة القضائية وتجويد العمل القضائي  من خلال  تدبير وترشيد الزمن القضائي  وتقليص تكاليف وأعباء المحاكمات الحضورية، لكن دون تغليب هاجس الأرقام على حساب حقوق وحريات الأفراد، وهذا المطلب أو الغاية لن تتأتى إلا بتظافر الجهود وتكثيف التعاون بين كل الجهات المتدخلة في العملية القضائية لجعل  القضاء في خدمة المواطن فعلا لا شعارا على جدران المحاكم.

ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن النجاعة القضائية أو الفعالية في الأداء القضائي أو المردودية القضائية أسماء مختلفة لمعنى واحد يتمثل في سلوك أيسر المساطر القانونية في أسرع الآجال لتحقيق العدالة وتوزيعها على المتقاضين إنهاء للخصومة القضائية مما تكون معه النجاعة القضائية أسلوب عمل يتضمن هدفا أو غاية، فأما الأسلوب فيجب أن يكون ميسرا، سريعا، و أما الغاية فهي إنهاء الخصومة في أسرع وقت ممكن وفق قواعد قانونية عادلة .

ويشكل الرفع من النجاعة القضائية في العشرية الأخيرة مطلب ينادي به الجميع، ويأمل في تحقيقه الكل و لذلك فالجهود متضافرة لتحقيقها و قد ابتدأ مسلسل إصلاح منظومة العدالة بمشاركة أغلب الفاعلين الحقوقيين والمهتمين بالشأن القانوني كرهان دولة تسعى إلى حماية حقوق مواطنيها و تفعيل دور العدالة إيمانا منها بأن العدل أساس الملك حتى تتمكن المملكة المغربية من خلق نموذج ديمقراطي تنموي متميز يحق للمغاربة التشبث به.

 

 

الخاتمة:

لا يتألم الإنسان لأي شيء قدر تألمه لظلم يقع علئ برئ أو يحكم على أي شخص بجزاء نتيجة محاكمة لا تتوفر له فيها حرية الدفاع عن نفسه، أولا تتاح له كافة الوسائل الللازمة لإثبات براءته، أو يوقع عليه عقاب قبل ثبوت إدانته بمقرر قضائي صحيح، أو يكون العقاب الموقع على الشخص زيادة عن الجزاء المقرر عقابا للجريمة التي ارتكبها.

وفي ذلك  ضمان وأمان لحرية الإنسان، وحفاظا على مصالحه، وعدم استبداد أحد به، وبفضل هذه المرجعية العظيمة؛ يسود العدل، وتتحقق المساواة، وينتشر الخير بين الناس؛ لأن إعطاء سلطة التشريع والأمر لأحد من الناس يؤدي في الغالب إلى الإستبداد والظلم، أو الطغيان والتعسف، وفيه إهدار لحرية الإنسان وكرامته، مهما حاول أصحابها تزيينه، وفي الواقع والنظام العالمي المزعوم اليوم خير برهان على ذلك.

 

الإحالات والمراجع:

 

[1] ـ نص دستور المملكة المغربية على هذا الحق في مقتضيات الفصل 120 منه:

” لكل شخص الحق في محاكمة عادلة…”

[2] ـ مريم فايز، ضوابط المحاكمة العادلة بين قانون المسطرة الجنائية والدستور المغربي لسنة 2011، بحث نهاية التمرين للملحقين القضائيين الفوج 39، ص 2.

[3]  ـ أحمد فتحي سرور، الضمانات الدستورية للحرية الشخصية في الخصومة الجنائية، مجلة مصر المعاصرة، س 3 العدد 348 أبريل 1972 ص : 146 [3]

[4] ـ هشام البلاوي، المحاكمة عن بعد وضمانات المحاكمة العادلة، مجلة رئاسة النيابة العامة، العدد الأول، 2020، ص 11.

[5] ـ مرسوم بقانون 2.20.292 صادر في 28 من رجب 1441 ( 23 مارس 2020) يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها.

[6] ـ حاتم بكار، حماية حق المتهم في محاكمة عادلة، دراسة تحليلية تأصيلية انتقادية مقارنة في ضوء التشريعات الجنائية ـ المصرية ـ الليبية ـ الفرنسية ـ الإنجليزية ـ الأمريكية والشريعة الإسلامية، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1997، ص1.

[7] ـ وتأكيدا لذلك لقد جاءت المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واضحة في التنصيص على: “لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أيه تهمة جزائية توجه إليه”

[8]– الشايب محمد رشاد، الحماية الجنائية لحقوق المتهم وحرياته دراسة مقارنة، مطبعة الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012، ص 35.

[9]-الدايمي جلال حماد عرميط، ضمانات المتهم في إجراءات التحقيق الابتدائي المقيدة لحريته والماسة بشخصه، – دراسة مقارنة- الطبعة الأولى، مطبعة الحلبي الحقوقية، لبنان، 2015، ص 12.

[10]– نصر محمود، السلطة التقديرية وضمانات المتهم في الإجراءات الجنائية، دار الطباعة، منشأة المعارف، الاسكندرية، 2010، ص 10.

قد يعجبك ايضا