المنظومة القانونية للتعمير والبناء في ضوء الممارسة العملية والعمل القضائي / كلمة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للقضاء بمناسبة ندوة وطنية

كلمة السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة افتتاح أشغال الندوة الوطنية المنظمة حول موضوع : “المنظومة القانونية للتعمير والبناء في ضوء الممارسة العملية والعمل القضائي”

ألقاها بالنيابة السيد مصطفى الابزار، الأمين العام للمجلس
الرباط، يومي 15- 16 يونيو 2022
بالقاعة الكبرى للمجلس الأعلى للسلطة القضائية

بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين؛
حضرات السيدات والسادة الكرام، كل باسمه وصفته؛

أتشرف نيابة عن السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمشاركة في افتتاح أشغال هذه الندوة الوطنية التي ينظمها المجلس ورئاسة النيابة العامة بشراكة مع وزارة الداخلية ووزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة وكذا الوكالة القضائية للمملكة، حول موضوع: “المنظومة القانونية للتعمير والبناء في ضوء الممارسة العملية والعمل القضائي”.
وكما تعلمون، فقد حظي موضوع التعمير باهتمام خاص من لدن جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، على اعتبار أن الإسكان والتعمير يقعان في مقدمة السياسات العمومية لبلادنا، ومحوراً استراتيجياً للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أطلقها جلالته، ويسهر على تفعيلها. كما أنه يعتبر ركنا أساسيا للمفهوم الجديد للسلطة، القائم على القرب، وتحفيز التنمية، وسيادة القانون. ويشكل دعامة قوية لتوفير السكن اللائق، الذي يعد من مقومات المواطنة الكاملة. وقد أكد جلالة الملك حفظه الله هذه التوجيهات في الرسالة السامية التي وجهها جلالته إلى المشاركين في الملتقى الوطني لانطلاق إعداد مدونة التعمير بتاريخ 03 أكتوبر 2005 حيث ورد فيها: “لقد سبق لجلالتنا في أكثر من مناسبة، توجيه نظر كافة المسؤولين والفاعلين، على المستوى الوطني والمحلي للاختلالات المتجلية في النسيج العمراني، والتي شاهدناها عن كثب، من خلال الجولات التفقدية، التي قمنا بها لمختلف جهات المملكة، وأصدرنا بشأنها تعليماتنا للحكومة، وللمؤتمنين على تدبير الشأن المحلي، من منتخبين وسلطات، من أجل وضع حد لمختلف التجاوزات والمخالفات، وعدم التساهل أو التهاون في زجرها. والتي أضحى استفحالها لا يقتصر على تهديد أمن وسلامة المواطنين فحسب، بل يخل بالبعد العمراني المتناسق، الذي يعد أحد المعالم الأساسية لمشروعنا المجتمعي، الذي نسعى إلى إنجازه، مجددين دعوتنا للسلطات العمومية للتصدي لمختلف الخروقات، والوقاية منها بالتطبيق الحازم للقانون” (انتهت الفقرة الملكية السامية).
وعلى الرغم من أن التشريعات المتعلقة بالتعمير خضعت لمجموعة من التعديلات والتغييرات بهدف خلق الانسجام بينها وبين الواقع الاقتصادي والاجتماعي في بلادنا، ومواكبة برامج التنمية البشرية التي أطلقها جلالة الملك على مر السنوات، فإن تلك التعديلات والمستجدات القانونية أصبحت بدورها تطرح إشكالات عملية في تطبيقها، وهو يَدعو باستمرار إلى تحيين المنظومة القانونية، ومواكبة الاجتهاد القضائي لتطور الطفرة العمرانية التي تشهدها بلادنا، من أجل جعل القانون وتطبيقاته القضائية والإدارية قادرة على الحفاظ على المخطط العمراني الرسمي، بما يمثله ذلك المخطط من حماية للتراث العمراني، والأنماط السكنية وحماية البيئة وجمالية العمارة. بالإضافة إلى المحافظة على أمن البنايات والصحة العامة.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
يندرج تنظيم فعاليات هذه الندوة العلمية المتميزة، في سياق تنزيل محاور المخطط الاستراتيجي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية (2021-2026)، لا سيما فيما يخص مساهمته في الارتقاء بفعالية منظومة العدالة عن طريق جودة التكوين المستمر وتخصصه، وتقوية التواصل وتحسين التعاون والشراكات مع السلطات والمؤسسات. كما أن موضوع هذه الندوة يستهدف تعميق النقاش بشأن الإشكاليات التي تعترض تطبيق قوانين التعمير، كما تمت معاينتها من خلال مواكبة السلطة القضائية لسير قضايا التعمير والنزاعات القضائية المتعلقة بها، سواء في شقها الزجري أو الإداري، وما تطرحه قوانينها من إشكالات عملية قد تحد من فعاليتها. كما أن تنظيم هذه الندوة بشراكة مع وزارة الداخلية، ووزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، يستهدف الاطلاع على ممارسات الجهات الإدارية ذات الاختصاص، والتي يتعامل أطرها وأعوانها باستمرار مع مواضيع البناء والتعمير، من خلال الاضطلاع بمهام التطبيق اليومي لهذه القوانين. بالإضافة مساهمتها المباشرة في إعداد التشريعات المتعلقة بالتعمير والبناء وفي مجال إعداد وثائق التعمير. بالإضافة إلى الوكالة القضائية للمملكة التي راكمت خبرة كبيرة على مدى سنين من الممارسة القضائية للنزاعات المتعلقة بالتعمير والبناء، خاصة في شقها الإداري.
وإذا كانت منازعات التعمير وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء لا تشكل من خلال لغة الأرقام سوى النزر اليسير من أصناف القضايا التي تعالجها محاكم المملكة، فإن أثرها الاجتماعي يستدعي وقفة خاصة؛ ذلك أنها تعكس في أحوال كثيرة مظاهر التشنج في علاقة المواطن بالإدارات المشرفة على هذا القطاع. ويسود الاعتقاد لدى البعض، من منطلق مصالحه الاقتصادية والاجتماعية، عن خطأ أحيانا وعن حق أحيانا أخرى، أن قوانين ونظم التعمير لا تضمن له كافة حقوقه. وقد يتعلق الأمر بتطبيق تلك القوانين، مما يجعل الإدارة من جهة كطرف في بعض المنازعات، والقضاء من جهة أخرى كمعني بالبت فيها، في صلب إشكاليات تطبيق القانون تطبيقاً عادلاً يصون لكافة الأطراف حقوقها، ويحافظ على المصلحة العامة التي توخاها التشريع.
ولقد سبق لجلالة الملك، التأكيد في خطابه السامي، الذي ألقاه نصره الله وأيده، يوم الجمعة 14 أكتوبر 2016 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة على: “أن الصعوبات التي تواجه المواطن في علاقته بالإدارة كثيرة ومتعددة، تبتدئ من الاستقبال، مرورا بالتواصل، إلى معالجة الملفات والوثائق؛ بحيث أصبحت ترتبط في ذهنه بمسار المحارب”. وأضاف جلالته نصره الله وأيده: “فبدون المواطن لن تكون هناك إدارة. ومن حقه أن يتلقى جوابا عن رسائله، وحلولا لمشاكله، المعروضة عليها. وهي ملزمة بأن تفسر الأشياء للناس وأن تبرر قراراتها التي يجب أن تتخذ بناء على القانون”. (انتهى النطق الملكي السامي).
وفي هذا السياق، لا أحد ينكر ما للضمانات القضائية من فوائد على المستوى القانوني والاجتماعي والاقتصادي والنفسي أيضا. فالقضاء، بقطبيه الجالس والواقف، يكون مطالبا من موقع وظيفته في حماية الحقوق والحريات، وتحقيق الأمن القضائي، وتطبيق القانون، باتخاذ إجراءات مطابقة للقانون وإصدار أحكام عادلة، سواء عند مناقشته للمخالفات في شقها الزجري. أو عند بته في الدعاوى الإدارية التي ترفع في مواجهة القرارات الإدارية، أو نتيجة إثارة مسؤولية مرفق من مرافق الدولة في مجال التعمير والبناء. وبالتالي، فكلما كانت الإجراءات والأحكام القضائية الصادرة بهذا الخصوص على درجة عالية من مطابقة القانون ومن تحقيق العدل، كلما ساهمت في تحقيق السلم الاجتماعي وفي الحفاظ على هيبة الدولة ومؤسساتها وفي تعزيز ثقة المواطنين وارتباطهم بمؤسساتهم.
ومن هذا المنطلق، فإن هذه الندوة العلمية ستكون،
لا محالة، فرصة سانحة لفتح حوار شفاف ومسؤول، ولتبادل الآراء القيمة وتمحيص الإشكالات المطروحة، والبحث عن سبل حلها. بكيفية توازن بين حقوق المواطنات والمواطنين وبين المصلحة العامة، والحفاظ على النظام العام في مجال التعمير والبناء. وستساعد مخرجاتها وتوصياتها على إيجاد حلول لبعض الإشكاليات العملية التي تعترض المطبقين للقانون والمتقاضين.
وإذ أنوه بعمل اللجنة التنظيمية، واختيارها للمحاور الدقيقة والمنسجمة لهذه الندوة الوطنية، في إطار مقاربة تشاركية، تعكس الإرادة القوية لبناء جسور التواصل والتعاون البناء مع مختلف الفاعلين في هذا المجال. فإن مستوى المتدخلين بقدرهم العلمي والمهني، وبنوعية المواضيع المطروحة للنقاش، وباستحضار المقاربات العلمية والعملية، من جهة ثانية، والفعاليات القضائية والإدارية المشاركة ستساهم بلا شك في إنجاح أعمالها إن شاء الله.
كما أؤكد على عزم المجلس الأعلى للسلطة القضائية المضي قدماً في الانفتاح على جميع الفعاليات الرسمية والمجتمعية، واستعداده الدائم للإنصات والحوار، والتحليل والتقييم المُشْتَرَكيْن، بهدف تذليل الصعوبات المطروحة، وترسيخ الممارسات الإدارية والقضائية الفضلى، تدعيما لدولة القانون والمؤسسات، وحفاظا على الحقوق والحريات، ومساهمة في تعزيز مكتسبات النموذج الديمقراطي التنموي المغربي، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.
وفقكم الله جميعا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قد يعجبك ايضا