تحديث الإدارة القضائية وسؤال المدخل : الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات

بقلم الباحث والإطار بوزارة العدل:

عبد العزيز المساوي

بسم الله الرحمان الرحيم

إن الحديث عن تحديث الإدارة العمومية وتطويرها ورقمنتها هو السائد اليوم في مجال التدبير الإداري، إذ شَعَّت مواضيعه، بِسَيلِ مدادٍ كثير بخصوص الموضوع، من طرف الأساتذة الباحثين والمهتمين، والمهنيين المختصين.

وحيث إن هذه السطور تتوخى ملامسة الجواب عن سؤال المدخل لتحديث الإدارة القضائية بشكل خاص، بل إثارته، من منطلق أن الإصلاح الشمولي لمنظومة العدالة يبقى تطلعاتٍ غير ممكنة التَّحقيق دونما رقي تكاملي مبني على الإشراك والمشاركة الفاعلة لجميع المتدخلين بالقطاع من قضاة، وأطرِ وموظفي الإدارة القضائية، ومنظمات نقابية وجمعوية قطاعية، وهيئات مساعدة للقضاء، وبالنظر للعنصر البشري الذي تزخر به الإدارة القضائية من حيث كفاءاتُهم ودرجاتُهم المتنوعة، إذ يُقدَّر عددهم بنسبة 3.61% من مجموع موظفي الدولة سنة 2016، حسب الإحصاء الرسمي المنشور بموقع وزارة الانتقال الرقمي وتحديث الإدارة. أي ما يقدر بالعشرين ألف موظف وإطار اليوم تقريبا، فإننا نجد أنفسنا أمام إدارة قضائية تشكل محور ارتكازٍ لكل إصلاح أو تغير منشود، ولو تم تجاوز ذلك تشريعيا في لحظة زمنية معينة، فحتما تستعيد عقارب ساعة الإصلاح تموضعها الطبيعي، طال الزمن أم قصر؛ إنها محور ارتكاز.

يعلم جميع المهتمين الدورالأساسي والمحوري لأطر وموظفي الإدارة القضائية في العملية القضائية برمتها، فلا أحد يمكنه التبخيس ولا التنقيص من العمل الموكول إليها من وظائف منوطة بها، إدارية كانت أومالية أوشبه قضائية، أو قضائية نص عليها صراحة قرار المحكمة الدستورية 89/19. هذه الوظائف والمهمات الجمَّة التي تتطلب اليوم توصيفا دقيقا علميا وعمليا وواقعيا بعيدا عن السباحة في فلك النظريات العامة، مبرزا لهوية العنصر البشري اللائق بالمهمة الدقيقة المحددة من ألفها إلى يائها.

فاحترام التخصصات والمؤهلات العلمية والتجريبية بات مفروضا أكثر من أي وقت مضى، ومضى معه كثير من الأسف على الوضع الإداري التدبيري الذي تعرفه الإدارة القضائية واقعا، واسأل به خبيرا مُمَارسا مُتمَرسا. فمن غير المقبول عقلا ونقلا إسناد جميع الوظائف والمهمات التي يمكن وصفها تدقيقا من خلال آلاف الصفحات لجميع الموظفين والأطر دون تخصيص، واحترامٍ لمبدأ “الشخص المناسب في المكان المناسب”. فالإطار المؤهل لشغل منصب مالي محاسباتي، عبر صندوق المحكمة أوعبر مصلحة تحصيل الغرامات أو ما شابه، ليس بالضرورة مؤهلا لمنصب إداري لا يُثقنه، أو منصب قانوني إجرائي على مستوى الإدارة القضائية كتأمينها على مستوى الجلسات مثلا، وليس خبيرا إجرائيا على مستوى قسم التبليغات والتنفيذات القضائية، وكذلك التخصص الدقيق للمساعدين الاجتماعيين وغيرهم من التكوينات الخاصة، وقس على ذلك.

إن توصيف المهام والوظائف على مستوى الإدارة القضائية أخذ حيزا زمنيا كبيرا للنقاش والتداول، في محطات متعددة، ومن جهات معنية متعددة، مساهمة منها في تنزيل الأوراش الكبرى التي تروم إصلاح منظومة العدالة وانخراطها العملي في ذلك، ذاك الانخراط الذي يفترض أن يكون نابعا من الإيمان بالموقع الحيوي لأطر وموظفي الإدارة القضائية، ودورهم في النهوض بمنظومة العدالة، وتعميق التواصل، وتلاقح الأفكار وتبادلها، والتعريف بهوية الإدارة القضائية فكريا وعمليا ودورها المحوري في هذا النهوض، من خلال صناعة التصورات وبناء مشاريع القوانين ذات الصلة.

ينبغي أن يكون هذا الإيمان هو شأن كل مكونات العدالة اليوم، دون استغناء أو إقصاء، نظرا لضرورة الإشراك والمساهمة، فالظرفية لا تحتاج الْبَتة مزيدا من التمزق في جسم الإدارة القضائية، التي تتوخى التحديث والتطور والرقي الناجع، نجاعة ترتبط مباشرة بسؤال الموارد البشرية وتكوينها وتنميتها، وما لذلك من أهمية بالغة.

يبقى محمودا ما تنشده وزارة العدل نظريا اليوم من دفع بالتكوين الأساسي منه والمستمر إلى المستوى المطلوب. فالتكوين كما يعلم الجميع، هو مستويات ودرجات، مما يفسر الفلسفة القانونية التي ينبني عليها مفهوم الترقية مثلا. ويكون جميلا من الناحية العملية أن تصبح الشواهد التكوينية التي يُحصلها الموظف والإطار ذات قيمة تنقيطية معيارية تُحْتَسَب إضافية للترقية، تكريسا لمفهوم صناعة الكفاءات التجريبية والعلمية، والحفاظ عليها، ضمانا لحسن التدبير الإداري والمالي وشبه القضائي. وكي يتسع المجال أيضا لاختيار مسؤولين أكفاء وتخصصيين.

حينها، يمكن الحديث عن المردودية وعن حسن التدبير، حيث لا يقبل حديث في هذا الباب دون إعمال لقاعدة «من يفعل ماذا؟ – ?Qui fait Quoi»، وهذا الأمر مُغيب بشكل شبه تام إلى حد كتابة هذه السطور على مستوى الإدارة القضائية.

هي قاعدة لم يتم إعمالها، لكن الحديث عنها والتشويق لها، وحتى التسويق لها جارٍ منذ زمن، بالحديث عن الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات، الذي انطلق قبل حوالي عقدين من الزمن، بعد صدور منشور الوزير الأول عدد 2004/8، الذي نص على ضرورة إعداد هذه الدلائل المرجعية. وأقيمت لذلك موائد مستديرة وجامعات ربيعية وصيفية وشتوية وندوات محلية ووطنية، وخصصت لجان متعددة على مستويات عدة لصياغة المشروع الذي استأنس للرفوف أخيرا.

ونظرا لاعتبار هذا المشروع المسكوت عنه اليوم مدخلا رئيسيا للإصلاح المنشود، والنهضة المرجوة، وأساسها، لكونه من أهم سمات الإدارة الحديثة التي تنبني على رسم بَينٍ لواجبات ومسؤوليات الوظائف وحدودها التنظيمية.

فإن السؤال المرحلي الذي يطرح نفسه:

من يقف اليوم عقبة أمام إخراجه لحيز الوجود، وما الذي يبرر هذا التعثر الملحوظ، لمشروع يحظى بالأهمية البالغة كمدخل أساسي لتحديث الإدارة القضائية وتجويد مردوديتها؟

لذلك نجد أنفسنا اليوم أمام ضرورة الجواب عن هذا قبل كل شيء. لأنه إذا ما حددنا من يعرقل هذا الإبراز والتنزيل، وما يعرقله، فإننا نضع الإصبع على مواطن الخلل لاكتمال المشروع وتحقيق حلم الإدارة القضائية وعنصرها البشري، الغافل نسبيا اليوم عن ضرورة هذا المدخل، مما يَفرض تعميم القناعة بأنه لا مناص من تنزيل دليل توصيف المهام، الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات.

فمن خلال هذا الدليل وحده، كوثيقة معيارية يمكن تحديد الوظائف النوعية وتقاطعاتها، وتداخلاتها، وفك تشابكاتها، بتوضيح منهجية العمل وأساليبها، وآلياتها ومجالات تركيزها، من خلال تحديد المعارف والمهارات التي تحتاجها كل مهمة بالتفصيل، وتحديد المتطلبات الأساسية لبناء أوصاف كل وظيفة ومهمة بشكل واضح ومتكامل، يحفظ حدود المهمات. الشيء الذي يمكن تحقيقه بتحديد ماهيات الوظائف جميعها وبيان واجباتها ومسؤولياتها، وشروط شغلها، وشروط وسمات وإطار ودرجة القائم المؤهل بالوظيفة، لضمان حسن الأداء وغير ذلك من الأوراش التي يرتكز الاشتغال عليها، مع الإشارة إلى نقطة جوهرية غاية في الأهمية وهي:

الإشراك الجد موسع لخبراء المجال الداخليين والخارجيين المتخصصين، والممارسين على الخصوص، وجميع المنظمات الفاعلة بالقطاع، من نقابات وجمعيات وهيئات، محلية ووطنية، حتى يُبْنى حقيقةً التوصيف للمهام بكل تصنيفاتها، الإدارية المحضة والمالية وشبه القضائية وغيرها، على أسس علمية وتجريبية دقيقة توفر الزمن التقويمي، كي يظهر أثر التوصيف على الأداء والمردودية بشكل أسرع، وألا يبقى المشروع ونقاشه محصورا على غرف مغلقة، أفضل ما تنتج مشروعًا يصطدم بالواقع اصطداما يطيل المدة التقييمية والتقويمية لتصويب ما يبديه الواقع من إغفالات المشروع ومُجَانَباته.

وهكذا يمكن أن نقول: أننا أمام توصيف للمهام والوظائف غير تقليدي، يرقى للتطلعات الحالية ويتماشى والتطورات الراهنة دوليا ومحليا في مجال الدبير والرفع من المردودية، والاستثمار الأمثل للموارد البشرية.

استثمار تجدر الإشارة أن تَوَخيه يمكن فقط من خلال إحداث المدرسة الوطنية للإدارة القضائية وتمتيعها بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي اللازمين، كمؤسسة تناط بها مهمة تكوين الأطر والموظفين معرفيا ومهنيا، سواء على مستوى التكوين الأساسي أو المستمر. ما يستدعي إعطاءها الأهمية اللازمة من حيث التأطير التشريعي. حتى تُلَبي حقا الاحتياجات التدريبية التي يَرسُم معالمَ برامجها وموادها ومناهجها الوصف الوظيفي، مدخل كل تحديث منشود.

إن تنسيق وتكامل هذا الوصف الوظيفي المنظم للعمل يُمَكن من مباشرة جميع العمليات المرتبطة به، بنجاعة فريدة متميزة، كالتوظيف والترقية وتقييم الأداء، والتكوين المستمر، وإرساء تدبير الموارد البشرية، وتفعيل الحركية بجميع مستوياتها وضبط التوظيف وعملية الانتقاء، وتطور الإدارة القضائية عموما.

فالموظف والإطار إذا ما أطر اشتغاله الدليل المرجعي، يتمكن بسهولة من تكوين تصور واضح متكامل حول الوظيفة والمهمة وما يُطْلب إنجازه، وحول المسار المهني داخل الإدارة، الشيء الذي يسمح بتطوير المؤهلات الذاتية.

وحيث إن الحديث عن تحديث الإدارة القضائية ورقمنتها يبقى نقشًا على الرمل، تمحيه أول رياح تلامسه، مالم ير النور مشروع الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات، بوصفه الدقيق للمهمات، وقبل تجاوز عقبة الكشف عن جواب السؤال المطروح قبله؟، لبد من الإشارة إلى أن أهم عقبة موضوعية أمام تنزيل الدليل، هي عدم تطرق قانون الوظيفة العمومية ومعه الأنظمة الخاصة لقضية الدلائل المرجعية ودورها بشكل مفصل وواضح. في حين أن المرسوم الخاص بإجراءات وكيفيات تنظيم المباريات الخاصة بولوج المناصب العمومية والمؤرخ في 25 نونبر2011، رغم أنه نص على إمكانية الاستعانة بالأدوات التدبيرية الحديثة ولاسيما الدلائل وذلك عند إجراء عملية التوظيف، فقد دفع لسن مفارقات غير مستساغة، نتج عنها مثلا أن رئيس الإدارة بوزارة العدل، يعلن مباريات بشروط خاصة، لوظيفة بشروط خاصة، وبعد اجتياز المباريات المتنوعة نجد جميع الناجحين أمام إمكانية مزاولة واحدة من مئات الوظائف، لأن الواقع الحالي يقول الجميع يفعل الكل. مما يستدعي تجديد الترسانة القانونية للوظيفة العمومية لتبني الأدوات الحديثة لتدبير الموارد البشرية وإلزام الإدارات العمومية باعتمادها.

وفي الختام يبقى إبراز الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات مدخلا أساسيا، يَتَحتم الاشتغال الجاد عليه، حتى يمكن أن يكون لخطاب التحديث والرقمنة والتطور الإداري صدًى. فإن صحت البدايات، صحت معها النهايات، وإلا نرى عجبا بخصوص زيغ التدبير، واستهلاك الزمن وهدره، دون تحقيق للأهداف المنشودة، ومنه ضياع لمال وفير وجهد ليس باليسير، ومعه تضيع كفاءات وعطاءاتها، فكل تقرير يعني الإدارة القضائية يبقى مجانبا للصواب تأثرا بعالم الفوضى التدبيرية السائد في غياب تنزيل دليل توصيف المهام والوظائف ومن يشغلها.

وكما سبقت الإشارة أن توصيف المهام يُمَكن من مباشرة جميع العمليات المرتبطة به، كالترقية مثلا. فقد يدفع غياب البوصلة جهة لها علاقة بالتدبير مثلا، في يوم من الأيام إلى اقتراح الاحتكام للتنقيط والمردودية وتقييم المسؤول المباشر من أجل الاستفادة من حق الترقي أو الحركة الانتقالية، وحينها يكون ذلك ضربا من الخيال، وعيبا تدبيريا لا يستساغ، فرغم أن القانون والعقل والمنطق يفرض اعتماد ذلك ـ وهذا هو الصواب ـ، فلا يمكن تفسير اعتماده في مثل واقع الإدارة القضائية اليوم إلا بالعبث التدبيري، لأن التقييم والتنقيط واحتساب المردودية، يبقى أمرا مستحيلا ضبطه، وإضفاء المصداقية عليه في غياب الوصف القانوني الدقيق للوظائف. الذي يمكن من ضبط معايير التنقيط والتقييم ويفرض على المسؤول تبرير تقييمه بمعايير محددة ودقيقة، ويعطي حق الطعن للموظف والإطار في نتائج تقييمه وفق معايير مضبوطة يرسمها دليل توصيف المهمات، الحافظ لحدودها، وبآليات محكمة يحددها القانون.

والحمد لله رب العالمين

الرباط في 20 شوال 1443هـ الموافق لـ 21 ماي 2022م

قد يعجبك ايضا