الحكامة الأمنية الجيدة: واقع المنظومة الأمنية بالمغرب

المعلومة القانونية

*البلبال عاديل

  • ماستر الحكامة الأمنية و حقوق الإنسان
  • جامعة المولى اسماعيل كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية مكناس.

مقدمة:

احتل النقاش حول إصلاح قطاع الأمن حيزا مركزيا في الأوساط الوطنية، نظرا للاختلالات التي كانت تشوبه، سواء داخليا أو من حيث تعامله مع المواطنين، وترسخت قناعة حول أن المؤسسة الأمنية تعيش أزمة، لدى ارتفعت الأصوات من أجل إصلاح المنظومة الأمنية، فتنفيذا للتعليمات الملكية السامية في مجال حقوق الإنسان، وتنزيلا للمقتضيات الدستورية ذات الصلة، وملاءمة مع الالتزامات الدولية للمملكة المغربية في مجال حقوق الإنسان باعتبارها موروث مشتركا للبشرية، فقد انخرطت الأجهزة الأمنية في مسلسل الإصلاح وتوطيد مبادئ حقوق الإنسان في الوظيفة الأمنية، وترسيخ قيم النزاهة والاستقامة، وتكريس الممارسات السليمة في مجال إنفاذ القوانين، فضلا على اعتماد آليات تشريعية وإجرائية وقائية وتأديبية كضمانة للحد من التجاوزات الماسة بحقوق الإنسان أثناء ممارسة المهام الأمنية، كما حضر سؤال إصلاح الأمن في الخطاب الحكومي في الجانب المتعلق بالبناء المؤسساتي، وربط المسؤولية بالمحاسبة كقاعدة جديدة حملها دستور 2011، أثناء مناقشة البرنامج الحكومي، بمجلس النواب في 19 – 25 يناير 2012، خلال الأسئلة المتعلقة بالسياسات الأمنية، ضمن محور تحت عنوان “ترسيخ دولة القانون والجهوية المتقدمة والحكامة الرشيدة الضامنة للكرامة والحقوق والحريات والأمن، إلى جانب الإصلاح الإداري كمدخل للارتقاء بالمرفق العام إلى مستوى النجاعة والمردودية، ويقوم هذا الإصلاح على: أولا، الاعتراف بوجود اختلالات في المنظومة الأمنية من طرف الأجهزة الأمنية ذاتها تم السعي في خطوة ثانية من أجل إصلاحها.

فما هو واقع المنظومة الأمنية بالمغرب؟

للإجابة على هذه الاشكالية ارتأينا تقسيم الموضوع كالتالي:

المبحث الأول: الاختلالات التي كان يعرفها قطاع الأمن.

المطلب الأول: على المستوى الحقوقي.

الفقرة الأولى: فترة الاحتقان.

الفقرة الثانية: فترة الانفراج و المصالحة.

الفقرة الثالثة: فترة الانفتاح و تبني مبادئ الحكامة الأمنية.

المطلب الثاني: الاختلالات على المستوى التشريعي و التدبير العملي.

الفقرة الاولى: الاختلالات التشريعية.

الفقرة الثانية: الاختلالات العملية.

الفقرة الثالثة: اختلال منظومة التكوين.

المبحث الثاني: خطوات الإصلاح و الانتقال نحو شرطة مواطنة.

المطلب الأول: مسار إصلاح قطاع الأمن.

الفقرة الأولى: محطات الحكامة الأمنية و إصلاح الأمن.

الفقرة الثانية: دستور 2011 بين الحكامة الجيدة و الحكامة الأمنية.

الفقرة الثالثة: المجلس الأعلى للأمن قاعدة صلبة نحو الحكامة الأمنية.

المطلب الثاني: الإصلاح أساس الحكامة الديموقراطية الأمنية.

الفقرة الأولى: تغير العقيدة الأمنية و تبني معايير حقوق الإنسان.

الفقرة الثانية: تدعيم الثقة و أنسنة القطاع الأمني.

الفقرة الثالثة: الحكامة الأمنية الديموقراطية.

 

 

المبحث الاول: الاختلالات التي كان يعرفها قطاع الامن.

أدى تراكم مجموعة من العوامل التي ارتبطت بطبيعة تسيير المؤسسة الأمنية، طيلة السنوات التي تلت الاستقلال إلى حدود نهاية القرن السابق، إلى تدهور الأوضاع الحقوقية بالبلاد، حيث شهد المغرب سنوات غاب فيها الجانب الحقوقي  وسيطرة الهاجس الأمني أو المقاربة الأمنية على عمل أجهزة الدولة، كما أن البيت الداخلي للمؤسسة الأمنية بدوره كان يشكو من العديد من الاختلالات، سواء على المستوى التشريعي أو التدبير العملي، أو استثمار العنصر البشري، وكذا تكوين أطره ومكوناته. سنحاول تقسيم هذا المطلب إلى مطلبين: نخصص الاول: للاختلالات على المستوى الحقوقي، على أن نحصص الثاني:  للاختلالات على المستوى التشريعي والتدبير العملي.

المطلب الاول: على المستوى الحقوقي.

إن تباين السياقات العامة والعوامل التاريخية والثقافية والاحتياجات الخاصة وكذا المرجعيات المؤسسة لثقافة حقوق الإنسان والواجبات، ومستوى وعي ومسؤولية الدول يولد علاقات متباينة بين الدولة والمواطن وموظفي الأمن.

هكذا انخرطت الدولة الوطنية بعد السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال السياسي في مرحلة التأسيس وعرف المغرب خلالها وبعدها الى حدود سنة 1999 صراعا محتدما بين المؤسسة الملكية والتنظيمات الحزبية سليلة الحركة الوطنية (1973-1956) والجيش(1971-1972) والقرى والحركات اليسارية والاسلامية[1]. “فقرة أولى ” لتعقبها بعد تولي جلالة الملك محمد السادس نصره الله الحكم مرحلة الانفراج والمصالحة، “فقرة ثانية” ثم التوجه نحو تبني الفعلي لمبادئ الحكامة الأمنية، “فقرة ثالثة”.

الفقرة الاولى: مرحلة التشدد الأمني

وخلال هذه المرحلة الصراعية من التاريخ السياسي المغربي المتمحورة حول قضايا الاستقلال ومشروعية النظام السياسي والمشاركة السياسية وقضية الصحراء المغربية  والتي عرفت سلسلة من التراجعات عن الضمانات القانونية للحريات ومن الخروقات الخطيرة لحقوق الإنسان، ارتكزت العلاقة بين الدولة والمواطن على ثقافة الخضوع والخنوع بدافع الخوف والترهيب والبطش، كما أدت هيمنة الهاجس الأمني على السياسة التنموية وكذا أساليب استبعاد كل مشاركة حية ومؤثرة للمواطنين، إلى تعميق الهوة بين الدولة والمجتمع .

إن مختلف الانتهاكات التي عرفها المغرب في فترة ما يسمى بسنوات الرصاص بألياتها الاختلافية والتهذيبية و الاغتيالية والتهميشية، لم تكن ممكنة إلا باستعمال القوة العمومية فيغير محلها، وتسخير كل الأجهزة الأمنية السرية والعلنية كأداة تنفيذية مما حال دون تحقيق الموازنة المطلوبة بين حقوق الدولة وحقوق الأفراد والجماعات[2]، وأدي بالتالي إلى إفراغ جل المبادئ القانونية – كسيادة القانون، حق الفرد في الأمن والطمأنينة، المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، تحريم التعذيب والمعاملة القاسية، احترام كرامة الإنسان وحق الفرد في المعاملة الإنسانية واحترام حرمة المساكن والحياة الخاصة وضمان المساواة بين المواطنين – من محتواها .

على مستوى علاقة موظفي الأمن، تعتبر هذه الأجهزة الأمنية المنفذة الممثلة الأولى للسلطة في الدولة والقادرة عن طريق القوة  على إخضاع الأفراد والجماعات لهذه السلطة، لكن تجليات واسباب التوتر والاحتقان بين الأجهزة الأمنية والمواطنين لا تعزا إلى استعمال القوة العمومية كإكراه مشروع، بقدر ما هي مقرونة بسلوكات مكرسة للسلطوية والتعسف والاستعمال الغير متناسب والمفرط للقوة. هنا لابد من الإشارة إلى أنه يخطئ خطا جسيما، من يعتقد أن التجاوزات والاختلالات التي ميزت هذه المرحلة من مسؤولية الأجهزة الأمنية للدولة بمفردها، بل الأمر يتعلق بمسؤولية جماعية لكل الفاعلين في القطاع الأمني برمته. في هذا الصدد، وارتباطا بمدى شرعية أو لاشرعية العنف الممارس، تخلص هيأة الانصاف والمصالحة في إحدى الدراسات حول «السياق التاريخي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب» الى : «  أن الأحداث السياسية والمواجهات الحاصلة ما بين 1956 الى 1999 والتي ترتبت عنها انتهاكات حقوق الإنسان كانت في جزء كبير منها مرتبطة بخوف الجهات المتنازعة على مصالحها أو على ما هو منوط بكل واحدة منها من المهام التاريخية، إذ كان من الطبيعي أن تخاف الدولة على استقرار البلاد ووحدة ترابها،  وتخاف المعارضة الوطنية على مصير الديمقراطية ويخاف الجناح اليساري على وتيرة التقدم والحداثة وتخاف الحركة الاسلامية على الأصالة والموروث الديني والثقافي.

ورغم تنوع القراءات والأحكام المتداولة بشان الأحداث المرتبطة بهذه الانتهاكات، لكن مع ذلك يمكن القول بأنه إذا كانت الدولة المغربية، قد عاشت مراحل تاريخية عرفت فقرا في احترام مبادئ حقوق الإنسان وضعفا في اعتماد معاييرها الدولية، فإن السبب في لك راجع إلى مجموعة من العوامل: منها الظرفية التاريخية، والوضعية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

الفقرة الثانية: فترة الانفراج والمصالحة مع الماضي.

لقد عرف المغرب منذ مطلع التسعينات تقدما مهما تمثل في توسيع هامش الحريات العامة، وتصديق المغرب على مجموعة من الاتفاقيات والمواثيق والبروتوكولات الدولية حول حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا.

فهذا التقدم الحاصل على مستوى حقوق الإنسان يعكس وجود إرادة سياسية عليا للدولة المغربية مجدة في الإرادة العليا لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله نحو تبني مبادئ حقوق الإنسان داخل القوانين الوطنية، بالإضافة إلى تسوية انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها بلادنا والتي اصطلح على نعتها بمرحلة الرصاص[3].

فقد عبرت  المملكة المغربية عن رغبتها في معالجة ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والنبش في ذاكرة الماضي المؤلم، وتحملها المسؤولية عن العنف الممارس من طرف بعض الأجهزة في فترة تاريخية معينة، من أجل الوصول إلى مصلحة المغاربة مع تاريخهم، وحفظ الذاكرة وتجاوز ماسي سنوات الجمر والرصاص، والطي النهائي لملف للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عاشها المغرب في فترة عصيبة. وتجسد ذلك بإحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وهيئة الانصاف والمصالحة.

فقد انطلقت التجربة المغربية  في اصلاح البيت الداخلي الوطني في التسعينات، حيث طفقت رياح الانفتاح تهب على المغرب وراحت المنظمات الحقوقية الدولية تطالب السلطات المغربية بفتح بملفات معتقلي الرأي وهبت رياح الانفتاح الحقوقي مع اعتلاء العاهل المغربي الملك محمد السادس العرش.

في هذه المرحلة شهد المغرب اختلافا كبيرا في المناهج وأوضاع المواطنين والتعامل مع المعارضة والاختلاف السياسي، بدأت المصالحة في أول التسعينات وتسارعت وتيرتها منذ إنشاء “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان”  سنة 1990، وهي أول مرة يتم الحديث فيها عن حقوق الإنسان في المغرب. ثم أُنشئ ديوان المظالم، وهذا الانتقال الديمقراطي تطلب تلمس مدى فعالية المؤسسات في تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها،  فلا معنى لمؤسسات دون فعالية. كل الاجراءات كانت تدابير لبناء الثقة بين الدولة و “المخزِن”  وبين المتضررين والضحايا. وكان أولها اطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفيين  إلى الوطن في 1991 و1993 و1994، للكشف عن الحقيقة والاعتراف بالانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت في حق جيل بأكمله، وأسس منتدى الحقيقة والإنصاف عام 1999. ثم أوصى الملك بهيئة استجلاء الحقيقة “هيئة الانصاف والمصالحة ” وكان عمل الهيئة البحث عن الحقيقة والتحقيق مع الضحايا واصدار التّوصيات. وبعد 23 شهرا من العمل والتحقيق والتحري الذي شمل الآلاف من المظلومين ،جاء رد  الاعتبار للضحايا وجبر الضرر وصيانة الذاكرة الوطنية وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، واعطيت الاوامر في نشر مضامين تقرير ختامي الذي قُدم للملك الذي  امر بنشره للعموم.

فالتجربة المغربية في معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هي تجربة رائدة تندرج ضمن مسلسل التسوية الغير قضائية، وفي إطار التحول الديمقراطي وإرساء أسس المجتمع الحداثي ودولة القانون، ومواجهة شجاعة للفترة الحالكة من الماضي المؤلم، والبحث عن إقامة مصالحة وطنية بين جميع الأطراف دون إثارة المسؤوليات الفردية أيا كان نوعها، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات للتعويض المادي والمعنوي لضحايا الانتهاكات الجسيمة، وتأهيلهم نفسيا واجتماعيا وجبر الضرر المعنوي من أجل إنصافهم والمصالحة معهم، نيابة عن جميع المسؤولين الذين ارتكبوا جرائم حقوق الإنسان باسم الدولة ولحسابها، واعتبار الفترة الأليمة التي عاشها المغرب هي محطة قاتمة من التاريخ لن يشملها النسيان واللامبالاة وقد تشكل مهدا للمصالحة وحفظ الذاكرة[4].

لكن، ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن هذه الانتهاكات ارتبطت بأحداث تاريخية غير موثقة بالقدر الذي يسمح بقراءات دقيقة وموثوق بها، فهذه الأحداث لا توفر حولها إلا وثائق  وشهادات غير مكتملة ولم تنجز حولها إلا دراسات محدودة، جلها من طرف باحثين أجانب، وبالرغم من ان هذه الدراسات وثقت لأحداث ظلت تعتبر من المحرمات السياسية لعقود، فإن استنتاجات هذه الدراسات اعطيت فيها الغلبة للسياق النظري على ما توفر من معطيات بالرغم من فقرها وهي تتطلب بالتالي المراجعة الدائمة على ضوء ما يظهر من المعطيات الجديدة.

إن كتابات متنوعة حول تلك الأحداث قدمت معلومات كثيرة في شكل سير ذاتية، أو شهادات أو تحاليل سياسية وتاريخية، وساهمت هذه الانتاجات الجديدة في إلقاء الضوء على جوانب كانت مجهولة أو مغفلة مكنت نسبيا من سد النقص في التوثيق الذي مع ذلك سيبقى دائما في الحاجة إلى المزيد[5] .

في نفس السياق صدرت قرارات عفو ملكي استفاد منها مئات المعتقلين والمعتقلين لأسباب سياسية ورافقت هذه الإجراءات عدة إصلاحات دستورية، وتشريعية تصب في اتجاه انفتاح سياسي، وتوسيع التزامات المغرب، من خلال الانخراط في اتفاقيات دولية في مجال حقوق الإنسان، وبالموازاة مع ذلك اتسع فضاء حرية التعبير والتنظيم والتظاهر.

لكن رغم هذه الإرادة الطموحة والفريدة من نوعها التي ميزت هذه الفقرة، لا يجب إغفال أن السياق السياسي والأمني والحقوقي لم ينحصر فقط في مسلسل العدالة الانتقالية وحدها، بل ارتبط أيضا بطرفية خاصة سيعرف المغرب خلالها أحداثا إرهابية بالدار البيضاء يوم16 ماي 2003. أي في بداية مسلسل العدالة الانتقالية بالمغرب.

لقد شكل هذا الحدث الذي أودى بحياة أزيد من أربعين شخصا وخلف أزيد من 100 جريح، صدمة بالنسبة للمغاربة الذين لم يكونوا يعتقدون أنهم سيعيشون مثل هذه العمليات البشعة في وطنهم، بل ولربما أن الأمر كان كذلك حتى بالنسبة للأجهزة الأمنية التي ردت بحملة تمشيط واعتقالات واسعة في الأوساط التي اعتبرت محتضنة لمثل هذا الفكر. وبقدر ما أدانت منظمات حقوق الإنسان وطنيا ودوليا الأعمال الإرهابية، قد عبرت عن انشغالها من جهة أخرى بحملة الاعتقالات الواسعة، وما أثير خلالها من ادعاءات التعذيب وغيره من ضروب المعاملة المهنية والحاطة من الكرامة، والاعتقال التعسفي وغيرها[6].

وإذا كانت السنوات السابقة عن هذه الأعمال قد عرفت تطورا ملحوظا في أداء الأجهزة الأمنية، يتماشى والارادة السياسية المعبر عنها، والاجراءات المرافقة والصالحات المنجزة، خاصة مسلسل العدالة الانتقالية، ودينامية الانفراج الهام التي رافقتها واتساع فضاء التعبير والتظاهر والحريات. الا  أن هذا الحدث المفاجئ، أعاد الأجهزة الأمنية إلى ردود فعلها وأدائها بأساليب قديمة على ما يبدو، مما طرح آنذاك أسئلة عن مدى عمق الاصلاح المعتمد في هذا المجال ومدى انحراف هذه الأجهزة في ديناميته ومتطلبات مرافقته.

إن كل هذه العوامل ساهمت في إفراز فترات تاريخية عرفت ما عرفته من اختلالات، لعبت دورا مهما في سيادة الهاجس الأمني في تعامل أجهزة الأمن، الأمر الذي ادى بالقائمين على الحقل الأمني في التفكير جديا في التبني الفعلي للحكامة الأمنية، والانفتاح.

الفقرة الثالثة: مرحلة التأسيس لمبادئ الحكامة الأمنية.

إن المغرب بفعل مواكبته لمختلف التطورات التي يعرفها العالم أصبح واعيا تمام الوعي، بضرورة تبني سياسة أمنية تراعي جميع مقاييس التنمية واحترام دولة القانون وهذا ما يمكن استكشافه فعلا من خلال التفحص والتدقيق في مختلف السياسات والاستراتيجيات التي تتبعها الدولة في مختلف المجالات وخاصة المجال الأمني.

وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن المغرب قد قطع أشواطا مثالية على مستوى التدبير والتسيير الأمني، وهذا معطي لا يمكن لأحد تجاهله أو نفيه إذ يمكن القول بأن المغرب الجديد يعتبر أول دولة عربية تبنت سياسة أمنية تساهم في التنمية على صعيد جميع المجالات، كما تحترم في الوقت ذاته المبادئ العالمية التي تنص على احترام القانون وحقوق الإنسان.

وقد كان لتبني مبادئ الحكامة الأمنية في الاستراتيجيات الأمنية دورا فعالا على مستوى جودة اتخاذ القرارات، إذ إن اتخاذ القرار أصبح يمر عبر استشارات ولقاءات مفتوحة واحترام وجهات النظر كما أن المسؤول أصح يتحلى بالثقافة التشاركية عن طريق البحث عن المتدخلين والمعنيين بالمسالة الأمنية، حتى تتسم صياغة العمليات الأمنية بالجودة والحكمة المهنية اللتان ترقيان إلى مستوى الممارسة الديمقراطية.

فالحديث إن عن التبني الفعلي لمبادئ الحكامة الأمنية داخل الجهاز الأمني المغربي هو أمر متوفر، ويمكن الافتخار بما تم تحقيقه في هذا المجال، ذلك أن الجهاز الأمني أصبح جهازا منفتحا على جميع المتغيرات وكذلك المحيط الداخلي والخارجي وهو حال مختلف الأجهزة الساهرة على الحفاظ على الأمن، ومنها القوات المساعدة التي أصبحت أطرها تواكب جميع المستجدات التي تعرفها الساحة سواء تعلق الأمر بالمفهوم الجديد للسلطة أو التكوين على مبادئ حقوق الإنسان أو تبني مختلف المبادئ التي من شأنها تكريس مبادئ الحكامة الأمنية، كتجهيز هذه الإدارة بمعدات جديدة ذات تقنية عالية تساعد في الحفاظ على الأمن العام بكيفية جيدة بالإضافة إلى التوظيف عن طريق اللجن وكذلك إعداد مشروع قانون يعيد تنظيم القوات المساعدة.[7]

وهذا ينطبق على الإدارة العامة للأمن الوطني التي أصبحت تسعى إلى تجسيدا لمفهوم الجديد للسلطة الذي يهدف إلى احترام وترسيخ قيم المواطنة الفاضلة وحقوق الإنسان والحكامة الجيدة، وهو ما جعلها تضاعف من مجهوداتها لإتمام أوراشها الإصلاحية القائمة على سياسة الانفتاح والحوار والتواصل، وهي سياسة تروم احترام وإشراك المواطن وكافة هيئات المجتمع المدني في صياغة الخيارات والرؤى الأمنية التي تتماشى وتفعيل معاني إعلانات حقوق الإنسان وجعلها ثقافة ملموسة وواقعا معاشا داخل سلوكيات الأجهزة الأمنية[8].

لكن يزداد الأمر ترسيخا وقوة للحديث عليه إذا علمنا أن أرضية المغرب أصبحت اليوم تستجيب ليس لتطبيق مبادئ الحكامة الأمنية فحسب، وإنما لجميع المتغيرات والمستجدات التي يعرفها العالم، ويكون من شان تبني قيمها ومبادئها الرفع من مستوى التنمية ومسايرة التقدم إلى الأمام، ويرجع الفضل بطبيعة الحال في كل هذا إلى المجهودات الملكية التي ما فتئت تضحي بكل غال ونفيس من أجل النهوض بعزة هذا الوطن، فيفعل الرؤيا السديدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وسياسته الحكيمة استطاع رسم معالم المغرب الجديد، المؤهلة بنيته لاحتضان مختلف التطورات وقد تم ذلك عبر عدة محطات، كان لها وقعها في إحداث تغيير جدري على مختلف المجالات، ومن بينها المجال الأمني، حيث نجد أن الجهاز الأمني أصبح على درجة من التأهيل والتكوين يسمحان له بإنتاج عمل مسؤول وجاد، ويراعي جميع مقاييس دولة القانون، كما أصبح العمل الأمني يتسم بحكامته اثناء مختلف محطات انتاجه، وكذا بانفتاحه على باقي المحيطات الأخرى، وهو بالفعل ما يمكن استكشافه من خلال العدد الهائل من الندوات التي أصبحت تنظم من قبل الجهات الأمنية، والتي تهدف من خلالها إشراك جميع فعاليات المجتمع التي لها علاقة بالشأن الأمني، وذلك من أجل تقريب وجهات النظر والبحث عن مكامن الخلل.

فاستعراض جميع هذه المحطات لم يأتي من فراغ ولكن تم استعراضها حرصا منا على توضيح الاختلالات التي كانت تعرفها المنظومة الأمنية في تعاملها مع قضية حقوق الإنسان في فترة من فترات المغرب، وكيف استطاع بإرادة داخلية تظافرت فيها مجهودات جميع المكونات من القطع مع هذه الانتهاكات والتصالح مع الماضي الأليم في تجربة فريدة من نوعها على المستوى العربي، والتدشين لانطلاق عهد جديد يهدف للانفتاح وتبني مبادئ الحكامة الأمنية.

تأسيسا على ما سبق ذكره، وانطلاقا من قناعة مفادها أن غياب مرتكزات الحكامة الأمنية ارتباطا بالأداء والعملية الأمنيين، يعد مؤشرا قويا على غيابها ذاخل الأجهزة الأمنية نفسها، يمكن القول كذلك على أن المنظومة الأمنية كانت تعتريها جملة من الاختلالات على المستوى التشريعي والتدبير العملي، والاستثمار في العنصر البشري.

المطلب الثاني:  الاختلالات على المستوى التشريعي والتدبير العملي.

هناك اختلالات تعرق تحقق الحكامة الأمنية المنشودة وتكمن في صعوبة تطبيق مبادئ الشفافية والمسؤولية، والالتزام بالقانون، فضلا على العديد منا لأمراض المزمنة التي تعرفها مختلف الادارات التابعة للأجهزة الأمنية، وتكمن هذه الاختلالات لي وجود لمقاومة لكل اصلاح او تغير والرغبة في الاحتفاظ بالممارسات القيمة.

إن منظومة اتخاذ القرار في بلادنا، لم تكن دائما مبنية على دراسة استكشافية، أو على تحكم معقلن، ودقيق في الرهانات المطروحة، اذ ليس هناك سوى عدد محدود جدا من القرارات الحاسمة التي اتخذت في ضوء نقاش منفتح على تعدد وجهات النظر.

إن التحليل التجريبي، الأفقي والعمودي المنطلق من التجربة المعاشة، وليس من الرؤى المجردة، يفضي إلى ملاحظتين أساسيتين: كانت هناك اختلالات تشريعية في المجال الأمني تتمثل في اللا تجانس أو التنافر والشح التشريعي من جهة، ونواقص واختلالات ذات طابع عملي ومهني من جهة أخرى.

الفقرة الاولى: الاختلالات التشريعية في المجال الامني.

فإذا سلمنا بأن الشرطة القضائية، “الأمن الوطني والدرك الملكي”، تمارس الشطط في استعمال السلطة فيجب التساؤل عن السبب وراء ذلك، ولا شك أن الجواب سيفضي بنا، في الأخير إلى التأكيد على أن هذين الجهازين غير مسؤولين عن ذلك كما قد يعتقد، بل يمكن القول إن هناك مسؤولية مشتركة بين السلطات العمومية وأجهزة الأمن، ولعل أول هذه التناقضات الناتجة عن عدم تحكم نفس المنطق في صياغة النصوص القانونية المتعلقة بالأمن الوطني والدرك الملکي، تناقضات قانونية، مسؤول عنها البرلمان[9] .

وتجدر الإشارة، قبل الاستمرار في هذا التحليل، إلى أننا نعني بالمصالح الأمنية، أجهزة الأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة.

فالأمن الوطني ينظمه المرسوم 879.75.2 كما تم تعديله وإتمامه.وينظم القوات المساعدة ظهير بمثابة قانون رقم 73.75.1 بتاريخ 12أبريل، 1976 كما تم تعديله وإتمامه . أما الدرك الملكي الذي أحدث بموجب الظهير 079.57.1 بتاريخ 29 أبريل، 1975 فلم ينل الحظ الكافي من اهتمام المشرعين، باستثناء الظهير2.57.1بتاريخ 14 يناير 1985 المتعلق بمصالح هذا الجهاز.

إن الشح التشريعي، الضعيف أصلا بسبب العديد من الاستثناءات، قد أدى على مستوى نشاط الأمن الوطني والدرك الملكي إلى مواجهات بين النصوص.

لنأخذ مثلا على ذلك: فالفقرة الأخيرة من المادة 71 من الظهير المتعلق بالدرك الملكي، تبين أنه إذا كان هناك من شطط فلا يمكن رده بالكامل إلى جهاز الدرك الملكي، بل يجب البحث عن المسؤولية عنه في الحقل التشريعي: إن تنص هذه الفترة على أنه لا يمكن إبطال محاضر هذا الجهاز بسبب عيوب في الشكل، في حين أن المواد 289، و293 و751 من المدونة الجديدة للمسطرة الجنائية تؤكد مبدأ معاكسا على ما يبدو، ونفس الشيء بالنسبة للمادة 63 من نفس المدونة، فكيف لضابط أمن أن يوفق بين المقتضيات الواردة في المادة71 والمادة 63 مثلا؟

إن طرح السؤال يتطلب إيجاد حل، في حين أن الحل لا يمكن إلا أن يكون ضاغطا، هناك نصان ينظمان نفس الحقل، فما هو النص القابل للتطبيق علما بأن القضاء الزجري يطبق النص الخاص كلما صادف نصين، واحد خاص والآخر عام، ينظمان أو يعاقبان نفس الفعل؟

هكذا، سيتم تطبيق النص الأول الذي يؤكد بوضوح أن المحاضر التي ينجزها الدرك الملكي لا يمكن إبطالها بسبب عيوب في الشكل. فكيف يمكن، والحالة هذه، حماية الحريات الفردية والعامة للمواطنين؟

ومن جهة أخرى، فإن ديباجة الدستور المغربي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وليس الوطنية، للملكة المغربية، غير أن جل النصوص تمت صياغتها بالفرنسية ثم ترجمت إلى العربية. وهكذا، فإن إرادة المشرع توجد في الصيغة الفرنسية للنص وليس في الصيغة العربية، في حين أن المحاكم، وطبقا لما هو وارد في الدستور المغربي بخصوص اللغة العربية كلغة رسمية، تستعمل اللغة العربية وليس الفرنسية، وما تجدر الاشارة إليه ان الترجمة غالبا ما تكون ضعيفة بل ورديئة إلى حد أنها تغير المعنى بشكل جذري أحيانا. ولفهم النصوص يتم الانقسام إلى قطبين، من جهة هناك التأكيد على أن المعنى محدد في النص، ولا يتعلق الأمر إلا باكتشافه وتطبيقه على الواقع، ومن جهة أخرى، يتمخض المعنى من قراءة للنص فيكون فضفاضا ،ليتم تطبيقه على واقع غير قابل للإدراك .

وإذا كان مفهوم النشاط القضائي لا يهم، بالأساس، سوی جهازي الأمن الوطني والدرك الملكي، فإن مفهوم حفظ النظام العام يهم ثلاثة اجهزة. ويتعلق الأمر بالأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة. ويمكن أن نلاحظ بهذا الخصوص اللا انسجام على مستويين اثنين على الأقل[10]، أولهما:في الظهير بمثابة قانون المحدث للقوات المساعدة الذي يؤكد فصله الأول على أن القوات المساعدة تضمن، في إطار المهام الموكولة لها “من طرف من؟ النص لا يشير إلى ذلك”، حفظ النظام والأمن الوطني. ويستعمل المشرع هنا “الواو” كأداة عطف وليس “أو”، ويكتسي هذا أهمية كبيرة.[11]

إن الظهير بمثابة قانون المؤسس للقوات المساعدة ينص على أن هذا الجهاز يضمن، في إطار المهام الموكولة إليه، حفظ النظام والأمن الوطني مع قوات حفظ النظام الأخرى. فإذا أعدنا قراءة النص نجد أن هناك أولا فعل يضمن ثم مصطلح “في إطار” وهو تعبير أدبي لا يستعمله رجال القانون لكونه غير دقيق، لأنه لا يعني أي شيء ويعني كل شيء في ان واحد، حيث يفضلون مصطلح “في حدود”.

بالإضافة إلى أنه إذا كانت جل الظهائر والمراسيم المنظمة لمختلف الأجهزة الأمنية قد تم نشرها في الجريدة الرسمية باللغتين العربية والفرنسية، فإن القرارات التنظيمية تبقى مسألة داخلية ولم يتم نشرها .

إن اعتماد التسلسل الزمني (الكرونولوجي) يمكن من قراءة أولية لهذه النصوص في إطارها التاريخي، قراءة تربط النصوص بالحقب السياسية الكبرى التي ميزت تاريخ المغرب، حيث كانت النصوص الصادرة إبان الحماية تبتغي خدمة المصالح الاستعمارية علما أن بعضها ما زال، ساري المفعول في المغرب، مثل النصوص المنظمة للبلاد في حالة الحرب والنصوص المنظمة للمتفجرات.

كما أن النصوص التي صدرت في الفترة الأولى من نیل الاستقلال ما بين 1956 و1965 كانت نصوصا مهيكلة للدولة الوطنية، حيث تم إنشاء أجهزة الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية، كما كان أغلبها ذا روح ليبرالية سواء من حيث المضمون أو الصياغة القانونية، وإن كان مازالت في حاجة إلى تطوير وإصلاح[12].

وما بين 1965 و1977 عاش المغرب فترة استثنائية عرفت صراعا قويا حول السلطة تجلى في محاولتين انقلابيتين، وحركة مسلحة وحركات اجتماعية، ومن ثمة فإن كل النصوص التي صدرت خلال هذه الفترة كانت نصوص زجرية مقيدة للحريات، ومن ثمة وجب إعطاء الأولوية إليها بغية الإصلاح والتعديل.

أما النصوص التي ظهرت منذ سنة 1977، وخاصة في العقد الأخير من القرن الماضي فقد حاولت مسايرة تطبيع الحياة السياسية التي عرفتها بلادنا بالتدريج ومسايرة ما يحققه من تقدم على مستوى احترام وصيانة حقوق الإنسان.

على العموم يمكن إجمال الاختلالات على المستوى التشريعي في:

  • غياب جرأة الاهتمام لدى البرلمانيين في مناقشة الشأن والفعل العمر من الأمين.
  • غياب الوضوح والدقة في صياغة القوانين المنظمة للأجهزة الأمنية.
  • غياب التنصيص على الضمانات القانونية للحماية في مزاولة المهام الأمنية.
  • غياب الوضوح والدفة على مستوى تحديد الاختصاصات بين الأجهزة الأمنية خصوصا على مستوى العلاقة بين جهاز الاستعلامات العامة ومصالح مراقبة التراب الوطني) كأداة تنفيذية وبين هذه الأخيرة والسلطتين التشريعية والقضائية. و
  • عدم وجود حد فاصل بين الانتاج الاستخباراتي والسياسة.
  • عدم استصدار النصوص التنظيمية المتصلة بالأجهزة الأمنية.
  • غياب المقاربة التشاركية لكل الطاقات القانونية الأمنية وغير الأمنية في مسلسل صناعة القوانين المنظمة لمختلف الأجهزة الأمنية.
  • غياب آليات المساءلة وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب.
  • عدم خضوع الأداء العمومي الأمني لرقابة السلطات المدنية .
  • عدم التوفر على قانون يحدد حقوق وواجبات المخبرين والمتعاونين والمرشدين.
  • عدم ملائمة شبكة أجور موظفي الأجهزة الأمنية بالمهام المنوطة بهم.

الفقرة الثانية: على مستوى التدبير العملي.

مند الاستقلال إلى حدود نهاية التسعينات، عرفت المؤسسة الأمنية عدة اختلالات داخلية من قبيل مركزية القرار وتداخل الاختصاصات بين وزارة الداخلية ووزارة العدل والحريات، وضعف التأطير والتنسيق، وتدبير الموارد البشرية، وغيرها، أضف إلى ذلك مجموعة من التحولات التي عرفها المجتمع المغربي سواء على المستوى المجتمعي أو الحقوقي، كلها عوامل جعلت جهاز الأمن يتفاعل مع هذه التحولات ويكون جزءا منها، إذ ارتبط مفهوم الحكامة الأمنية بهذا التطور التاريخي الذي عرفه المغرب منذ بداية التسعينات، حيث بدأت تشكل التوجهات الأولى المتضمنة لعناوين “دولة القانون” و” الانتقال الديموقراطي وتعزير حقوق الإنسان”.

فيما يتعلق بالحكامة الداخلية للمؤسسة الأمنية هناك مجموعة الاختلالات المؤسسية، على عدة مستويات من قبيل هيمنة المركز على القرار والنقص في بعض وسائل عمل جهاز الشرطة، ومشكل تدبير الموارد البشرية[13].

أولا: مركزية القرار.

لقد تم تأسيس الإدارة العامة للأمن الوطني بموجب ظهير 16 ماي 1956، غير أنه بعد الاطلاع على مضامين الظهير، يتضح أن المشرع المغربي نص على الإطار القانوني المحدث للإدارة العامة للأمن الوطني، دون التنصيص على كيفية ممارسة العمل الأمني سواء كان مركزيا أو جهويا أو إقليميا، ذلك أن الظهير لم ينص على التنظيم الإداري والمرفقي للإدارة العامة للأمن الوطني، كتوزيع الصلاحيات بين المركز والإقليم، والذي يتطلب إحداث ولايات الأمن ومناطق ومفوضيات، كما يسجل أيضا إبان تلك الفترة غياب المراسيم التطبيقية لفصول ظهير الإدارة العامة للأمن الوطني، وهذا الفراغ التشريعي يفسر بعقدة المركزية التي كانت تطبع عمل الإدارة المغربية، والتي كانت تكرس هيمنة المركز على صناعة القرار دون منح هذه الإمكانية للمصالح الخارجية.

ويمكن إرجاع مركزية القرار أنداك إلى أن الفترة التشريعية، كانت مباشرة بعد الاستقلال، ذلك أن المشرع المغربي كان يلتزم الحذر الشديد في عملية صناعة النصوص القانونية، خاصة تلك المتعلقة بإحداث الأجهزة الأمنية عامة، والشرطة بصفة خاصة وذلك لحساسية تلك الفترة التاريخية، وما كانت تستوجبه من بعد النظر والتروي في اتخاد القرارات.

ثانيا: الإدارة والتنسيق.

في هذا الإطار يؤكد الكثير من المهتمين بالشأن الأمني، على ارتباط العديد من قضايا الاختلالات يتعدد المتدخلين كوزارتي الداخلية والعدل والحريات، فالشرطة القضائية مثلا، ومسألة العلاقة مع المنتخبين المحليين، أفرزت مجالا اخر فيه عدد من المشاكل. فالتوجه الحالي الممارس في العديد من دول العالم، في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأسيا يسعى إلى إسناد أجزاء مهمة من الشأن الأمني إلى الجماعات الترابية، حيث ترتكز كل اللقاءات الشرطية على لامركزية المهام الأمنية وعلى رأسها الشرطة، لكن هذا التوجه بالنسبة للمغرب حاليا سواء على مستوى الشرطة أو المنتخبين،  يظهر أننا ما زلنا غير مهيئين لهذه المراحل[14].

كما أن هناك تداخل في الاختصاصات، وعدم التنسيق مع وزارات أخرى كالنقل والمالية والاقتصاد، ذلك أن اكبر جهاز لتحصيل الأموال والغرامات المالية هو جهاز الشرطة. حيث أن وظفي الأمن الوطني الذين يجمعون أموالا مهمة، لا يستفيدون منها، على عكس نظام المكافآت المعمول به في عدة قطاعات، وخاصة قطاع المالية. هناك نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها عند بناء عدة فضاءات، وفي بعض الأحيان مدن بكاملها، ولا يتم إعطاء أهمية للجانب الأمني، وذلك ببناء وتجهيز مقرات للأمن ولو دائرة أمنية، وهذا على عكس ما هو عليه الأمر في دولة فرنسا حيث يتدخل الأمن في وضع مخططات التصميم الحضري بالمدينة ذلك أن رجل الأمن يتدخل في وضع مخططات التعمير فيما يخص الجانب الأمني[15].

ثالثا: تدبير الرأسمال البشري.

فيما يتعلق بتدبير الرأسمال البشري بالمديرية العامة، فإنه لم يكن بالمستوى المطلوب، مما أثر بشکل سلبي على الوضعية الفردية لموظفي الأمن الوطن، فنسبة التأطير كانت ضعيفة وغير كافية حساب معينة صندوق النقد الدولي، هذا الأخير في الدراسات التي أنجزها حول الاقتصاد في المصاريف العمومية، كان يذكر المغرب بأنه من البلدان التي لا تتوفر على الأطر الكافية المسائل الأمنية. فالشعار الدي كان يرفع في سنوات الرصاص في الكثير من المظاهرات هو “باركا من البوليس زيدوا فالمداريس”، فإذا كان الأمر يشير الى أن عدد قوات الشرطة كافي إلا أنه في واقع الحال عدد رجال الشرطة غير كافي مقارنة مع دول اخرى مثل تونس الأقل نسمة مقارنة بالمغرب، فعدد رجال الشرطة بالمغرب لا يتعدى حاليا  62 ألف شرطي بمختلف رتبهم[16]، وهو عدد ضعيف لضمان سلامة المواطن وأمن ساكنة فون تعدادها40 مليون نسمة يقطن أكثرها بالمجال الحضري بمختلف تعقيداته ومشاكله.

كما أن بعض المصادر في المالية تتحدث عن وجود موظفين أشباح في صفوف الأمن الوطني على غرار باقي قطاعات الوظيفة العمومية التي توجد بها الظاهرة، وقد تكون غير مستبعدة. ولكن السائد في قطاع الأمن الوطني، هو أنه ليس هناك فائض في الموارد البشرية، بل على العكس من ذلك نجد عدة موظفين يقومون بمهام متعددة.

فقد أكد تقرير لصندوق النقد الدولي أن درجة التأطير هي أقل أربع مرات مما يجب أن تكون عليه[17]. كما يتم التركيز على الأهمية الأكثر من اللازم التي تعطى للرسائل المجهولة، وطغيان الجائب التاکتیکي والظرفي، والمباشر الجاري على البعد الاستراتيجي، بالإضافة إلى اللامركزية، وضعف الميزانية المخصصة للقطاع، والمساطر المعقدة، ووسائل العمل اللوجستيكية، ومحدودية التواصل الداخلية.

و على العموم يمكن إجمال الاختلالات على المستوى التدبيري والعملي في:

  • أحادية ومركزية اتخاذ القرار الأمني.
  • عدم تحديد شروط وآليات التدخل العمومي الأمني.
  • عدم توثيق تدخلات الأجهزة الأمنية.
  • اعتماد تنفيذ الفعل العمومي الأمني على الأوامر والتعليمات الشفوية.
  • معاناة أجهزة الأمن من خصاص كبير على مستوى الموارد البشرية مما يولد الإرهاق الوظيفي والمهني.
  • معاناة أجهزة الأمن من خصاص كبير على مستوى الموارد المالية، مما يؤتر على جودة الأداء.
  • هزالة الراتب الشهري لموظفي الأمن تحول دون نجاعة تدخلاتهم وترمي بالبعض إلى نهج سلوكيات غير مشروعة.
  • قلة المناصب المالية وما يترتب عنها من عدم تحقيق الترقية وبالتالي يحول دون النهوض بالأوضاع الاجتماعية لكافة المترشحين رغم استيفائهم للشروط النظامية المطلوبة.
  • و جود قيادة رئاسية متعجرفة وسلطوية في بعض إدارات الأجهزة الأمنية.
  • غياب التواصل والتنسيق والتخطيط داخل الأجهزة الأمنية.

الفقرة الثالثة: على مستوى التكوين.

نظرا لحداثة المؤسسة الأمنية آنذاك، والرغبة في الإسراع في تشكيلها في نهاية الخمسينات عند بداية الاستقلال، وحساسية الفترة السياسية، والحاجة الملحة للتوظيف في صفوف هذه المؤسسة، فقد كان يتم غض الطرف الكثير من الشروط والمعايير المفروض توافرها في المنخرطين في سلك الأمن، وهو الأمر الذي جعل موظفي الإدارة العامة للأمن الوطني لا يتوفرون على تكوين لائق .

كما أن المؤسسة الأمنية وعلى غرار العملية التي استعملت في تأسيس القوات المسلحة الملكية، حيث تم استقطاب عناصر من جيش التحرير، وإدماجها ضمن المؤسسة العسكرية، كما  ثم استقطاب عدة عناصر من المقاومة المسلحة، الذين تم تأطيرهم من طرف كبار الضباط الأمنيين الفرنسيين، الذين تم الاحتفاظ بهم في بداية الاستقلال، ليتم بعد ذلك الاستعاضة عنهم بالمغاربة الذين يستطيع النظام السياسي الاعتماد على ولائهم ومواهبهم وشجاعتهم، على الرغم من أن بعضهم كان يجهل القراءة والكتابة[18].

فأقل من نصف رجال الشرطة تم توظيفهم قبل سنة 1980، في وقت كانت فيه الإدارة في حاجة الى موظفين، بحيث لم يكن ساعتها يشترط فيهم الحصول على دبلوم أو تكون خاص، الشيء الذي كان يؤثر سلبا على هذا الجهاز .

أما التكوين وشرط الدبلوم، فلم يظهر في إعلانات التوظيف إلا بعد بداية سنوات تسعينات القرن الماضي، ذلك أن ملامح الشرطي بدأت تتغير، وهو ما ترجمه إعلانات التوظيف، خاصة بعد تعديل النظام الأساسي لرجال الشرطة في سنة 2010، والمعدل 2019.

و رغم أن الإدارة قامت بتنظيم دورات تكوينية مستمرة، غير أنها ليست كافية نهي تقتصر فقط على دورات لا تتعدى أياما قليلة جدا، وبالتالي ليس لها أي انعكاسات على الوضعية النظامية الموظفين، وخصوصا ربط التكوين المستمر بالترقية في الدرجة، مما يؤدي إلى الجمود وإهمال المعارف.

فضعف التكوين سواء التعليمي أو القانوني، اعتبرا من أهم الأسباب التي كانت تساعد على حدوث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي كانت ترتكب من طرف أفراد المؤسسة الأمنية من  اعتقالات تعسفية، وتعذيب وتعنيف المعتقلين، واستعمال العنف المفرط في مواجهة المتظاهرين، وعدم احترام آجال الحراسة النظرية وغيرها من الخروقات.

كنتيجة للعوامل السالفة الذكر، ساءت العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطن خاصة في سنوات المفهوم التقليدي للسلطة، والتي تميزت بالاستعمال غير القانوني والخطير للعنف في حق المواطن، سادت تمتلات لدى المواطن في تلك الفترة بأن النظام العام يساوي القمع، أما رجال الأمن فكانوا يعتبرون الأمن سلطة عوض خدمة عمومية، ويعتبرون تعسفهم في استعمال القوة العمومية يندرج ضمن خدمة “قضية وطنية وعادلة”[19].

المبحث الثاني: خطوات الاصلاح.

غالبا ما تكون نقطة انطلاق أي إصلاح تغيير ما حدث في المحيط الداخلي أو الخارجي ،ففي المغرب مثلا انطلق إصلاح القطاع الأمني بفضل تغير في وضع التهديد الخارجي للبلاد،” قضية الصحراء المغربية، ويكمن التغير الآخر، الذي حدث في المحيط الأمني في التعبئة التي قامت بعد 11 شتنبر التي دفعت العديد من البلدان إلى محاولة مراجعة التهديدات الجديدة التي قد تواجهها، وإصلاح قطاعها الأمني مع المستجد والتهديد الدولي، اضف إلى ذلك التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان”.

وقد تحدث تحولات داخلية كما وقع في المغرب كذلك حيث اتجهت الإرادة السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس لبناء دولة الحق والقانون والتأصيل لمفهوم جديد للسلطة، وإحداث قطيعة مع ماضي الانتهاكات، كذلك شكلت أحداث 20 فبراير منعطف مهم في تاريخ المغرب وأجهزته الأمنية، فكان من الضروري إحداث تغيير جذري على قطاع  الأمن حتى يصبح منسجما مع الواقع الجديد.

إن نجاح الإصلاح الأمني، واعتماد مبادئ الحكامة الجيدة يرتبط بالاستجابة إلى أربعة مستويات مختلفة: المستوى المحلي والوطني والإقليمي والدولي. ويبدو من المهم جدا أن يحدد البلد المعني بنفسه متی يجب الاهتمام بهذه المستويات ووفق أي ترتيب.

و قد دخل هذان المفهومان ” الإصلاح الأمني، و” الحكامة الجيدة في قطاع الأمن” إلى القاموس السياسي المغربي في ظل سياق اتسم، من جهة: بتصاعد التهديد الارهابي وطنيا واقليميا، ودوليا، ومن جهة أخرى بخوض المغرب تجربة العدالة الإنتقالية بهدف المصالحة مع الماضي، والانخراط اللا مشروط في المنظومة العالمية لحقوق الإنسان.

إن إصلاح قطاع الأمن هو سيرورة تهدف إلى تغير جذري، ويهدف في السياق العالمي الحالي إلى تلبية متطلبات الديمقراطية والأمن الإنساني والحكامة الجيدة، وتحسين قدرة وأداء قوات الأمن، والمساعدة فيخلق مناخ من السلم الاجتماعي والاستقرار المؤدي إلى التنمية البشرية المستدامة والرفاه الاجتماعي.

إذن لعب التزام المغرب بمبادئ حقوق الإنسان وتبني خيار الحكامة والديموقراطية الأمنية دورا هاما في إصلاح قطاع الأمن، لذا سنحاول تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين: الاول: نخصصه للحكامة الأمنية؛ مسار لإصلاح قطاع الامن في مجال حقوق الإنسان: : الانتقال من شرطة مواطنة الى شرطة مواطنة ديموقراطية. أما الثاني: نتطرق فيه لإصلاح قطاع الأمن على أساس الحكامة الديموقراطية الأمنية.

المطلب الاول: الحكامة الأمنية؛ مسار إصلاح قطاع الامن

يستند إصلاح القطاع الأمني على ثلاثة مبادئ أساسية متمثلة في الارادة السياسية والمتمثلة في إعطاء واضعي السياسات الأولوية للأمن في مخططات وبرامج ومشاريع التنمية والتغيير في المجال الأمني، والتزام قوات الأمن بالمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الكونية، وأخيرا، دمج الأمن في السيرورة الديمقراطية والتنمية الشامل، والمغرب وبانخراطه التام في المنظومة الدولية عمل ويعمل جاهدا على تبني هدا النهج في سياسته الأمنية، وأداء جهاز الشرطة.

هناك مبادئ أخرى تعزز هذه المبادئ الأساسية منها:

  • مسؤولية قوات الأمن أمام السلطات المدنية الشرعية، المنتخبة ديمقراطيا.
  • قبول التسلسل الهرمي بين السلطات المدنية وقوات الأمن.
  • إدارة الموارد الخاصة بالأمن وفقا لمعايير الحكامة الجيدة، وخاصة الشفافية والمساءلة والرقابة.
  • حق السلطات المدنية في ممارسة المراقبة السياسية على قطاع الأمن والتعريف الدقيق للحقوق والتزامات الفاعلين المدنيين والعسكريين.
  • ولوج قوات الأمن إلى التكوينات المهنية التي تطابق متطلبات الديمقراطية.
  • إمكانية مشاركة المجتمع المدني في تدبير القضايا الأمنية، والمساهمة بطريقة بناءة في النقاش حول السياسات الأمنية.
  • مشاركة جميع الفاعلين في القطاع الأمني في تحديد ووضع وتنفيذ السياسات الأمنية بغرض المساهمة في خلق مناخ من السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي الملائم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

و قد عرفت مرحلة المفهوم التقليدي للسلطة بالمغرب بروز مجموعة من الاختلالات على مستوی المؤسسة الأمنية، وتماشيا مع الورش الحقوقي الذي دشنه المغرب بصفة عامة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي كإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وعودة بعض المنفيين، وأمام كثرة الادعاءات التي وجهت إلى المؤسسة الأمنية من طرف الفاعلين الحق في وطنيا ودوليا، ووفق هذا المنظور السياسي والحقوقي، اتخذت بعض المبادرات الرامية إلى الإصلاح، فكانت البداية بالخطاب الملكي  في أكتوبر 1999 الذي أكد على اعتماد المفهوم الجديد للسلطة، لذلك كان من الطبيعي أن تحظى المؤسسة الأمنية عموما وجهاز الشرطة على وجه الخصوص، بالأولوية داخل السياسات العمومية الجديدة التي وضع أسسها صاحب الجلالة نصره الله، لإدراكه العميق أن: لا دولة حق وقانون دون شرطة وأمن خاضع للقانون، وتوجت بتنصيب هيئة للإنصاف والمصالحة.

وتعد الحكامة الأمنية “حركة تجديد استراتيجيات تنمية الأمن ليس من منظور المهام والفعالية، ولكن أيضا من منظور القيم واحترام الحقوق الأساسية للمواطنين[20] “. وعرفها عالم الاجتماع الفرنسي سيرج باريو “بأنها ذلك المسلسل الديمقراطي في اتحاد القرار والتنسيق والمساءلة الجماعية، والذي يتم من قبل الشرطة والمؤسسات السياسية والمجتمع المدني، بغية إنتاج تدبير فعال للأمن العمومي.”

وبناء عليه فالحكامة الأمنية ترتبط بشكل مباشر بمضامين دمقرطة قطاع الأمن عن طريق تكريس التوازن بين المتطلبات الأمنية والحريات العامة، وبين مصالح الدولة وحقوق المواطنين، وهذا ما سعى إليه المغرب خصوصا بعد الاعلان عن المفهوم الجديد للسلطة، وصدور تقارير وتوصيات هيئة الانصاف والمصالحة، وصولا إلى تقرير مبادئ الحكامة الأمنية في دستور 2011، والتنصيص على جهاز أمني رفيع المستوى للحكامة الأمنية.

سنحاول من خلال هذا المطلب الحديث عن أهم الخطوات في مسار الحكامة الجيدة لإصلاح قطاع الأمن ” الفقرة الاولى”، ونخصص “ الفقرة الثانية” للحكامة الجيدة والحكامة الأمنية في دستور 2011، و” الفقرة الثالثة” نخصصها للمجلس الأعلى للأمن باعتباره قاعدة صلبة نحو الحكامة الأمنية.

الفقرة الاولى: محطات في مسار الحكامة الجيدة وإصلاح قطاع الأمن.

بيد أنه من المؤكد أن الانفتاح على مفاهيم مثل الرقابة والشفافية والمحاسبة في الخطاب الرسمي، وصلتها بقطاع الأمن وحقوق الإنسان، قد سبق زمنيا استعمال المفهوم الحكامة الأمنية من قبل هيئة الإنصاف والمصالحة[21]. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى وقائع دالة، منها:  الإيعاز إلى البرلمان بتشكيل لجنة تقصي الحقائق في أحداث فاس سنة 1990، وهي اللجنة التي تشكلت بموافقة الملك الراحل الحسن الثاني، وأعدت تقريرا أدان الاستعمال المفرط للقوة من قبل قوات الأمن والجيش.

كما أعقبت أحداث فاس واقعة اعتقال العميد الممتاز مصطفى ثابت بناء على شکایات مواطنين، ويعد العميد الممتاز ثابت أعلى مسؤول أمني حوكم بناء على شکایات الناس، بعدما وجهت إليه تهم ثقيلة من قبيل (الفساد، الاختطاف، الاغتصاب)، جعلت المحكمة تقضي في حقه بعقوبة الإعدام. وقد دفعت تلك الواقعة الملك الحسن الثاني إلى أن يخاطب المغاربة يوم 3 مارس 1993 بقوله: “إن المغرب دولة قانون، ولا يمكن تصور هذا المفهوم دون أن يكون رعايانا الأوفياء في مأمن من كل تعسف ومحصنين من كل استبداد، وأن تضمن لهم قوانين البلاد حقوق المواطن”[22].

ورغم الجهود التي بذلت منذ مطلع التسعينيات التقنين عمل قوات الأمن على وجه الخصوص، إلا أن أقوى المحطات في مسار إرساء الحكامة الجيدة في قطاع الأمن انطلقت بشكل بارز مع مجيء الملك محمد السادس إلى الحكم سنة 1999، ويمكن التميز بين محطتين رئيسيتين قبل وضع دستور 2011، الذي أعطى دفعة قوية لهذا المسار.

أولا: المحطة الأولى “المفهوم الجديد للسلطة”

استعمل “المفهوم الجديد للسلطة” في خطاب الملك محمد السادس يوم 12أكتوبر 1999 بالدار البيضاء، بحضور عدد من رجال السلطة والمنتخبين. لقد استعمل الملك عبارة “المفهوم الجديد للسلطة”، دون أن يستعمل صراحة مفهوم الحكامة الأمنية أو الحكامة الجيدة في قطاع الأمن. لكن رغم ذلك، فقد اعتبر بعض الباحثين أن المضامين الواردة في الخطاب الملكي يمكن أن تشكل “نقطة انطلاق مفهوم الحكامة الأمنية الجيدة، خصوصا وأن الخطاب الملكي حرص على الربط الوثيق بين “المفهوم الجديد للسلطة” و”مرجعية دولة القانون وحقوق الإنسان” [23].

و حدد الخطاب الملكي أفق هذا المفهوم في ثلاث أهداف رئيسة تتمثل في: رعاية المصالح العمومية، وتدبير الشأن المحلي، والمحافظة على السلم الاجتماعي.

واقترح الخطاب آليات لتحقيق ذلك تتمثل أساسا في تكريس سياسة القرب من المواطنين، والمشاركة في اتخاذ القرار، والمساواة بين الجميع أمام القانون. و لعل ظهور بعض الشعارات ابتداء من هذا التاريخ من قبيل “شرطة القرب”، وتقوية سلطات المجالس المحلية المنتخبة إزاء السلطات المحلية (القائد العامل، الوالي)، إنها جاءت لتساير هذا التوجه الملكي.

ويبدو أن المفهوم الملكي الجديد للسلطة كما ورد في خطاب 12 أكتوبر 1999 أسس للانتقال من مفهوم قديم يتمحور حول المحافظة على النظام العام، وفي القلب منه الأمن العام، إلى مفهوم جدید منفتح أكثر على الأمن الإنساني والمجتمعي، بحيث قد حاول استدماج مفاهيم دولة القانون وحقوق الإنسان والتنمية، علاوة على بعض معايير ” الحكامة الجيدة”، كمنظومة في تدبير المرفق العمومي وخدمة المجتمع، خصوصا حين ركز على قواعد ومعايير بعينها مثل المشاركة والمساواة والقرب من المواطنين.

وفي سياق إحلال المفهوم الجديد للسلطة مكان المفهوم القديم لها، أقدم الملك محمد السادس على إعفاء وزير الداخلية، إدريس البصري، بوصفه رمزا للمفهوم القديم للسلطة، يوم 9 نونبر 1999، بعد أن عمر في منصبه لمدة 35 سنة، وهو ما اعتبره البعض “أقوى قرار سياسي” [24]، اتخذه الملك الجديد محمد السادس بعد ثلاثة أشهر من توليه الحكم.

و طالما أعاد الملك محمد السادس التذكير بالمفهوم الجديد للسلطة، ففي خطابه بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأولى بتاريخ 8 أكتوبر2010.

وعليه، يمكن القول إن خطاب 12 أكتوبر 1999 قد شكل وثيقة مرجعية في توجيه عمل الأجهزة الأمنية، على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة كذلك، بهدف مسايرة متطلبات معايير الحكامة الجيدة في قطاع الأمن.

ثانيا: المحطة الثانية “توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة”

تحيل آلية الإنصاف والمصالحة التي أحدثها المغرب في ينایر2004، على مقاربة العدالة الانتقالية التي تبنتها عدة دول في العالم، بوصفها مقاربة بديلة للعدالة العقابية في معالجة آثار الجرائم السياسية التي ارتكتها الدولة ضد معارضيها. وتتميز العدالة الانتقالية بالسعي إلى المصالحة بين قوى وأطاف متعارضة، من خلال تدابير الكشف عن الحقيقة وجبر الضرر، والحفاظ على الذاكرة الأليمة، والالتزام بالتخلي عن العنف في تدبير الخلافات السياسية.

وإذا كان الملك الحسن الثاني قد سبق إلى فتح ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في السنوات الأخيرة من حكمه، من خلال الإفراج عن الأحياء المختفين قسريا، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتكليف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالبحث في مسالة تعويض الضحايا، فإن الملك محمد السادس قد تبني مقاربة متقدمة أساسها المصالحة مع الماضي بكل أبعاده ومكوناته، حيث استجاب لتوصية من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بإحداث هيئة وطنية للإنصاف والمصالحة التي تم تنصيبها يوم 7 يناير 2004 من قبل الملك محمد السادس.

بيد أن الطريق نحو هذا القرار لم يكن سهلا،  فهذه  الخطوة، بدا التفكير فيها من داخل فريق العمل المكلف بالتصدي للانتهاكات وحماية حقوق الإنسان بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي اقترحها كتوصية على المجلس في دورته يومي 10 و11 يوليوز 2003، وقد استغرق النقاش والجدل حولها ثلاثة أشهر عرفت خلافات قوية بين مكونات المجلس، انتهى إلى التوافق حول التوصية التي صادق عليها المجلس لافي أكتوبر 2003، الذي تولى رفعها إلى الملك محمد السادس يوم 14 أكتوبر من نفس السنة، ووافق عليها الملك بقرار يوم 6 نونبر2003 [25].

وقد شكل إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة تمرية غير مسبوقة في العالم العربي، وتكمن اهميتها، كألية للعدالة الانتقالية، في توصياتها التي تكشف أن الهيئة قد اعتبرت إصلاح القطاع الأمني من مواضيع العدالة الانتقالية، حيث شددت أن هذا الإصلاح هو جزء من متطلبات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الحاضر أو المستقبل. وبعبارة أخرى فقد اعتبرت الهيئة أن “العدالة الانتقالية بدون إصلاح قطاع الأمن عدالة ناقصة وغير مكتملة.”

في هذا السياق، تضمن التقرير الختامي للهيئة في التوعية الرابعة منه، تحت عنوان “ترشيد الحكامة الأمنية”  ما يمكن اعتباره برنامجا كاملا لإصلاح القطاع الأمني من سبع مرتكزات تدور حول الإصلاح التشريعي والهيكلي للقطاع الأمني: شرطة، مخابرات، قوات مساعدة …، والتكوين الممنهج لموظفي الأمن على حقوق الإنسان، وتعزيز الشفافية والرقابة على العمليات والتدخلات الأمنية.

ومن بين أهم تلك التوصيات الهامة، تعزيز المسؤولية الحكومية في مجال الأمن من خلال تفعيل قاعدة “الحكومة مسؤولة بشكل تضامني” عن العمليات الأمنية وحفظ النظام العام، وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلزام الحكومة بأخبار الجمهور والبرلمان بأية احداث تستوجب تدخل القوات العمومية، وبمجريات التدخل بالتدقيق، وبالعمليات الأمنية ونتائجها والمسؤوليات، وما قد يتخذ من تدابير تصحيحية.

لكن يبدو أن هناك تفاعلا بطيئا لأجهزة الدولة الأمنية مع توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وللدقة يمكن القول أن هناك تفاوتا في تعطي تلك الأجهزة مع التوصيات من مؤسسة إلى أخرى، بين مؤسسة الجيش التي لا زالت تحيط عملها بكثير من الحذر والسرية،” حيث رفض الجيش أن يطلع الهيئة على الأرشيف الخاص به، كما رفض زيارة معتقلات سابقة كانت تحت مسؤوليته قبل ان يتراجع بعد تدخل الملك.”[26] وبين مؤسسة الشرطة مثلا التي أقدمت على خطوات متقدمة، وإن كانت بطيئة ومتجزأة، فيما يخص إعمال بعض معايير الحكامة الجيدة في قطاع الأمن. وقد جاء دستور 2011، في سياق ثورات الربيع العربي، لكي يعطي دفعة قوية لمسار ترسيخ معايير الحكامة الجيدة في مختلف القطاعات، ومنها قطاع الأمن.

الفقرة الثانية: دستور 2011 بين الحكامة الجيدة والحكامة الأمنية

في إطار العهد الجديد، اكتسبت الحكامة الأمنية نوعا من النضج القانوني في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 رتب عدة اثار مهمة سواء على الأفراد أو على المؤسسات الأمنية عموما.

لقد خصص الدستور بابا كاملا للحكامة الجيدة هو الباب الثاني عشر، الذي تضمن جملة من المبادئ والمعايير الملزمة للمرافق العمومية والموظفين العموميين، ورد التأكيد عليها في الفصول 154 و155 و156 و157 و158 و159 و160، من قبيل مبادئ المساواة والإنصاف والشفافية وحكم القانون والنزاهة والمصلحة العامة والاستقلالية، في حين نصت الفصول من 161 إلى 170 من نفس الباب على الآليات المؤسسات للحكامة الجيدة والتقنين، التي أنيط بها التنزيل الدستوري لمبادئ ومعايير الحكامة الجيدة.

لكن الملاحظ أن الفصل 54 من الدستور، المحدث للمجلس الأعلى للأمن، قد نص صراحة على أن من بين اختصاصات هذا الأخير “مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة”، الوضع الذي يستفاد منه أن أجهزة القطاع الأمني غير معنية بأحكام الباب الثاني عشر من الدستور، ويتوقف خضوعها لمبادئ ومعايير الحكامة الأمنية الجيدة على آلية دستورية خاصة بها في المجلس المذكور.

فمن حيث المبدأ، تعد أجهزة القطاع الأمني مرافق عمومية، تمول من المال العمومي، ومكلفة بتقديم خدمات عمومية للمواطنين كما أكد على ذلك الخطاب الملكي حول المفهوم الجديد للسلطة، ويفترض أن تخضع للمقتضيات المنصوص عليها في فصول الباب الثاني عشر من الدستور، لكن الفصل 54 من الدستور نفسه يبدو وكأنه استثنى المؤسسات الأمنية، وهي مرافق عمومية معينة بتقديم الخدمة الأمنية للمواطنين، من الخضوع لمقتضيات الباب الثاني عشر، وعلق تفعيلها على إرادة آلية دستورية تتمثل في المجلس الأعلى للأمن المحدث بموجب الفصل السابق الذكر.

إن الملاحظ أن الحقوق الواردة في الدساتير المغربية السابقة بالرغم من تعددها المستمر غضت الطرف عن العديد من الحقوق كحقوق الجيل الثالث مثل الحق في بيئة سليمة وفي حياة كريمة. إلا أن دستور 2011 نص على الحق في بيئة سليمة وحقوق أخرى كثيرة تنتمي إلى الجيل الثالث”، مما جعل بعض الباحثين ينعته بدستور حقوق الإنسان.[27]

إن تحليل مضامين الدستور على ضوء مقاربة حقوق الإنسان يكشف أنه أحال عليها بأجيالها الثلاثة: جيل الحقوق السياسية والمدنية، وجيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم جیل حقوق التضامن كحقوق البيئة والتنمية الإنسانية المستدامة”. ومن خلال تحليل الوثيقة الدستورية يلاحظ انها اوست خمسة مرتكزات داعمة لهذا الخيار المتمثل في حقوق الإنسان، تتمثل في:

  • طبيعة النظام الدستوري المغربي، كنظام يقوم على أساس فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، ومبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
  • القانون باعتباره أسمى تعبير عن الإرادة العامة للأمة، حيث إن الجميع -أشخاص ذاتيون أو اعتباريون، بمن فيهم السلطات العمومية – متساوون أمام القانون، وملزمون بالامتثال له.
  • الاقتراع الحر والنزيه أساسا للمشروعية التمثيل الديمقراطي.
  • مشاركة المواطنين بشكل مباشر من خلال العرائض والملتمسات أو من خلال المجتمع المدني في إطار الديمقراطية التشاركية.
  • دور السلطة القضائية التي أكد دستور 2011 لأول مرة أنها سلطة مستقلة إزاء باقي السلطات، ومنحها صلاحيات حماية الحقوق والحريات، كما منح القضاء الدستوري صلاحية النظر في دعاوى الدفع بعدم دستورية قانون معين، اعتبر طرف ما أن فيه ما بالحقوق والحريات.

ولعل المتمعن في فصول هذا الباب، يخلص إلى أن لها صلة مباشرة بعمل واختصاصات الأجهزة الأمنية المكلفة في النهاية بحماية سلامة الأشخاص والممتلكات، وحفظ النظام العام، وأمن الدولة، وخصوصا الفصول رقم 20 و21 و22و23 و24، وكذا الفصول رقم 27 و28 و29.

فالمجموعة الأولى تؤكد على الحقوق والحريات الفردية مثل الحق في الحياة والحق في السلامة الشخصية وحماية الممتلكات، وعدم جوار المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، وتجريم التعذيب والاختطاف وكل المعاملات القاسية واللاإنسانية، وتحريم الاعتقال التعسفي أو السري او الاختفاء القسري، وحظر الكراهية والعنصرية والعنف، وتجريم الإبادة الجماعية، وتتبع المعتقلين بحقوقهم كاملة وفقا للقانون.

في حين تؤكد المجموعة الثانية على حقوق جماعية، مثل الحق في الوصول إلى المعلومات الموجودة في حوزة الإدارات العمومية، وحرية عدوة، وحرية التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء، علاوة على حريات الاجتماع، وتجمهر، والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي.

ويمكن أن تقرأ تلك الفصول مجتمعة، كما يمكن أن تقرا في صلة باقي الحقوق والحريات الواردة على امتداد ابواب وفصول الدستور، خصوصا وأنها تعد بمثابة نصوص مؤطرة وموجهة للتشريع الأمني والعمل الأجهزة الأمنية، لاسيما تلك المكلفة بالمحافظة على النظام العام، وسلامة الأفراد والممتلكات، كالإدارة العامة للأمن الوطني، والدرك الملكي، ومديرية مراقبة التراب الوطني، والقوات المساعدة.

الفقرة الثالثة:  المجلس الأعلى للأمن قاعدة صلبة نحو الحكامة الأمنية.

شكلت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 منعطفا حاسما في التقعيد القانوني لمصطلح الحكامة الأمنية، وهو منعطف انتقل بالمفهوم من التنظير إلى التطبيق، ومن النقاش الأكاديمي إلى المقتضى الدستوري الملزم للسلطات العمومية.

أناط الدستور إرساء ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة، بالمجلس الأعلى للأمن، من أجل حوكمة المجال الأمني المغربي وعصرنته ليطابق المواصفات العالمية في الدول الديموقراطية التي تجلع الإنسان محور اهتمامها، وبوصفه “جهازا للتصور الاستراتيجي للحكامة الأمنية” و”هيئة للتشاور”، الاختصاص فيما يلي:

– التشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد.

– تدبر حالات الأزمات.

– السهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة.

وعلى خلاف مؤسسات دستورية أخرى، نصت الفصول الدستورية المحدثة لها على تنظيمها بقانون تنظيمي أو عادي، فقد نصت الفقرة الرابعة من الفصل 54 على أن ينظم المجلس الأعلى للأمن بواسطة نظام داخلي يحدد قواعد تنظيمه وتسيره، ما يعني إبعاد البرلمان والحكومة عن إعداده، وهو شكل من أشكال استبعاد الرقابة الديمقراطية على المجالس الأمنية.

ويظهر هذا التوجه في تركية المجلس كذلك، الذي يترأسه الملك، حيث حددت الفقرة الثانية من الفصل 54 ممثلي المكون المدني بالحصر، وهم رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والوزراء المكلفون بالداخلية، والشؤون الخارجية، والعدل، وإدارة الدفاع الوطني، بينما أشار إلى ممثلي المكون الأمني والعسكري بدون تقيد وحصر، واكتفى بالتأكيد أن المجلس يضم في تركيه المسؤولين عن الإدارات الأمنية، وضباط سامون بالقوات المسلحة الملكية، وكل شخصية أخرى يعتبر حضورها مفيدا لأشغال المجلس. وأشرك الدستور لأول مرة في تاريخ المغرب المدنيين والسياسيين في المساهمة في وضع السياسات الأمنية للبلاد.

وإذا كان الفصل المذكور ينص صراحة أن المجلس يترأسه الملك، وأن رئيس الحكومة يمكنه أن يترأسه بناءا على جدول أعمال محدد، وهو ما يبدو منسجما معا لأسس النظرية التي تنظم العلاقات المدنية العسكرية، وخاصة مبدأ فصل السلط ومبدأ سيادة السلطة المدنية على السلطة العسكرية، إلا أنه في غياب النظام الداخلي للمجلس، لمعرفة كيفية اتخاذ القرار بداخل المجلس، يصعب القول بأن الفصل 54ينسجم مع المنظور الديمقراطي في تدبير العلاقات المدنية العسكرية.

ويبدو أن المؤسسات الأمنية تدرك هذا الامتياز الممنوح لها دستوريا، ويتجلى ذلك في الإصلاحات التي تخضع لها منذ سنة 2010 حتى الآن، والتي تركز على تحسين الإطار التشريعي والتنظيمي، وتعزيز مبادئ الشفافية والنزاهة في صفوف موظفي الأمن، وتقريب المؤسسة الأمنية من المواطن من خلال الانفتاح على مؤسسات المجتمع في إطار سياسة القرب.

وبالرغم من الأهمية القصوى التي أولاها المشرع للمجال الأمني من خلال إحداث هاته المؤسسة على المستوى الدستوري إلا أن غیاب النصوص والمراسيم التنظيمية أوقف تفعيل هاته المؤسسة.

ورغم أن المغرب يتوفر على خارطة طريق للحكامة الأمنية تعزز المجهود المبذولة وذلك باعتماد المسؤولية الحكومية في مجال الأمن بإخراج الحكامة السياسية الأمنية إلى حيز الوجود، والعمل بالمراقبة والتحقيق البرلماني في مجال الأمن وتحديث اجهزته، والمراقبة الوطنية والإقليمية والمحلية للسياسات والممارسة الأمنية، وتحديد معايير محدود استخدام القوة والتكوين الممنهج لرجال الأمن والسلطة والأعوان في مجال حقوق الإنسان… وهذا يدل على أن الدولة المعاصرة تسيست، ولا يمكن تقديم إصلاحات إلا عن طريق استعمال أدواتها المشروعية ووسائلها القانونية. إلا أنه إلى حد الساعة لم يخرج إلى حيز الوجود النظام الداخلي للمجلس الأعلى للأمن، التي يستمد أهميته من اعتباره أول مؤسسة أمنية يتم التنصيص عليها مباشرة في النص الدستوري.

كما أن التطورات المتسارعة التي تعيشها الساحة الوطنية والدولية على المستوى الأمني، الإرهاب، أزمة كورونا….، تجرنا للحديث بقوة عن ضرورة تنزيل هذه المؤسسة.

من الواضح أن مسار إرساء الحكامة الأمنية الجيدة في المغرب تصاعدي تراكمي، حقق تقدما مها خلال السنوات الماضية، بحيث يمكن التمييز بين ثلاث محطات کبری: محطة الخطاب الملكي حول المفهوم الجديد للسلطة في 12 أكتوبر 1999، ومحطة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي ألحت على “ترشيد الحكامة الأمنية”، ثم محطة دستور 2011 الذي أناط اختصاص “ماسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة بالمجلس الأعلى للأمن. وقد راكم المغرب مكتسبات لا بأس بها على مستوى الإصلاح المؤسسي والتشريعي.

المطلب الثاني: اصلاح قطاع الأمن أساس الحكامة الأمنية الجيدة

إن إصلاح قطاع الأمن هو سيرورة تهدف إلى تغير جذري، ويهدف في السياق العالمي الحالي إلى تلبية متطلبات الديمقراطية والأمن الإنساني والحكامة الجيدة، وتحسين قدرة وأداء قوات الأمن، والمساعدة في خلق مناخ من السلم الاجتماعي والاستقرار المؤدي إلى التنمية البشرية المستدامة والرفاه الاجتماعي. وهذا لن يتأتى إلا من خلال القطع مع السياسة القمعية للأجهزة الأمنية وإدخالها لمعايير حقوق الإنسان في مصار إصلاحها، وتدعيم ثقة المواطن في أدائها والتعامل معها عبر أنسنتها، تم اعتماد حكامة ديموقراطية في تسييرها.

الفقرة الاولى:  تحول العقيدة الأمنية و تبني معايير حقوق الإنسان داخل المنظومة الأمنية.

كل الانتقادات الموجهة للسلطة في إطار الاعتقالات والتجاوزات والانتهاكات ذات الصلة بقضايا حقوق الإنسان، تقودنا إلى رجال الأمن والدفاع، على اعتبار أنهم مسؤولون إلى حد كبير عن تدهور علاقة السلطة بالمواطن، والإخفاق في تجديد الثقة. فقد شكلت هذه الفئة في ثقافة المغاربة حضورا لافتا مثل في جانب من جوانبه التاريخية حضور السلطة والجبروت وعدم احترام حقوق الإنسان. لذا يطرح المفهوم الجديد للسلطة تحديا جديدا على مرفق الأمن ويفرض تغييرا جذريا في وظائف الأجهزة الأمنية بالمغرب من قوات مسلحة، ودرك ملكي وقوات مساعدة، وأمن وطني. ذلك أن المفهوم الجديد للسلطة جاء ليحول وظيفة مرفق الأمن -باعتباره مرفقا عاما مثله مثل باقي المرافق العمومية من مرفق عمومي تقليدي إلى مرفق عمومي عصري يهدف إلى تقديم خدماته بفعالية عالية، ومسؤولية وفق منظور حکماتي يضع في صلب أولوياته احترام حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، وانتظارات المواطنين .

إن القطيعة مع المفهوم التقليدي للشرطة كقوة عمومية وأداة في يد السلطة، هدفها النهائي هو الحفاظ على النظام من الاضطراب من جهة، وحماية المؤسسات القائمة من جهة أخرى، أدت إلى ظهور مفهوم «الشرطة مرفق عمومي» أساسه الحفاظ على دينامية الشرطة في الحفاظ على النظام العام والمؤسسات، بالإضافة إلى أن تركز اهتماماتها على المواطنين والمقيمين فوق تراب الدولة، وذلك بأن تصبح في خدمتهم وأن تحسن الاستجابة في تمتيعهم بحقوقهم وممارستهم لحرياتهم.

فالحديث إذن عن التبني الفعلي لمبادئ الحكامة الأمنية داخل الجهاز الأمني المغربي والقطع مع السياسة القمعية التي كانت سائدة فيما مضى، هو أمر متوفر ويمكن الافتخار بما تم تحقيقه في هذا المجال، ذلك أن الجهاز الأمني أصبح جهازا منفتحا على جميع المتغيرات وكذلك المحيط الداخلي والخارجي وهو حال مختلف الأجهزة الساهرة على الحفاظ على الأمن، ومنها الإدارة العامة للأمن الوطني التي أصبحت تسعى إلى تجسيد المفهوم الجديد للسلطة الذي يهدف إلى احترام وترسيخ قيم المواطنة الفاضلة وحقوق الإنسان والحكامة الجيدة[28]، وهو ما جعلها تضاعف من مجهوداتها لإتمام أوراشها الإصلاحية القائمة على سياسة الانفتاح والحوار والتواصل، وهي سياسة تروم احترام وإشراك المواطن وكافة هيئات المجتمع المدني في صياغة الخيارات والرؤى الأمنية التي تتماشى وتفعيل معاني إعلانات حقوق الإنسان وجعلها ثقافة ملموسة وواقعا معاشا داخل سلوكيات الأجهزة الأمنية.

وهذا ينطبق على القوات المساعدة التي أصبحت أطرها تواكب جميع المستجدات التي تعرفها الساحة سواء تعلق الأمر بالمفهوم الجديد للسلطة أو التكوين على مبادئ حقوق الإنسان أو تبني مختلف المبادئ التيمن شأنها تكريس مبادئ الحكامة الأمنية، كتجهيز هذه الإدارة بمعدات جديدة ذات تقنية عالية تساعد في الحفاظ على الأمن العام بكيفية جيدة بالإضافة إلى التوظيف عن طريق اللجن وكذلك إعداد مشروع قانون يعيد تنظيم القوات المساعدة[29].

نفس الشيء يمكن قوله على إدارة السجون وإعادة الإدماج، حيث تحدث السيد عبد الرحيم الرحوتي، مدير مركز تكوين الأطر للمندوبية، عن الحكامة الأمنية وحقوق الإنسان داخل الوسط السجنى. واعتبر المتدخل أن ما يميز الحكامة الأمنية بالسجون، من خلال المخطط الاستراتيجي للمندوبية العامة ومن خلال المبادرات المتخذة ،أنها شمولية من حيث ارتكازها على جوانب متعددة ومتنوعة، ولا يشكل البعد الأمني الصرف إلا بعدا من بين أبعاد أخرى متداخلة، وأن مرجعيتها تتمثل في مقتضيات دستور المملكة (2011)، والتوجيهات الملكية عند إحداث المندوبية العامة في 29 أبريل 2008، والقانون المنظم للسجون 23/98 والمرسوم التطبيقي له، واختصاصات المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، والتصريح الحكومي لشهر يناير 2012،  وأوضح أن المخطط الاستراتيجي للمديرية العامة الادارة السجون وإعادة الإدماج يتمحور حول أربعة محاور، ويتعلق الأمر بأنسنة ظروف الاعتقال، وتهييئ المعتقلين لإعادة الإدماج، والحفاظ على سلامة السجناء إضافة إلى تحديث الادارة وأجرأة الحكامة، مشيرا إلى أن كلفة ذلك بلغت 3،700 مليون درهم .وعلى صعيد آخر تم التطرق في هذه المداخلة إلى ما يتعلق بالانفتاح وعقد شراكات لتحديث الادارة وتعزيز الحكامة الأمنية وحقوق الإنسان، حيث انخرطت المندوبية في عدة برامج من خلال الانفتاح على عدة جهات حكومية وغير حكومية وطنية ودولية.وفي هذا السياق يندرج انفتاح المندوبية العامة على مركز دراسة حقوق الإنسان والديمقراطية من خلال توقيع مذكرة تفاهم في شهر أبريل 2016. عقب ذلك تم إعداد برامج تدريبية تراعي السياق المحلي، وخصوصيات واقع السجون بالمغرب وحاجيات الأطر والموظفين، ومستندة في نفس الوقت على المقتضيات القانونية الوطنية والتزامات المغرب الدولية والمواثيق والممارسات الفضلى ذات الصلة بالوقاية من التعذيب، وذلك من أجل مرافقة المجهودات المبذولة من طرف المندوبية العامة لإدارة السجون[30].

الفقرة الثانية: تدعيم ثقة المواطن في رجل الامن وأنسنة القطاع الأمني

إن الصورة القديمة للشرطة في وعي الناس تشوبها سلبيات كثيرة ليس فقط بسبب عنف الشرطة، لكن هناك عوامل أخرى:فالمظهر العام خاصة لشرائح الشرطة الأدنى كعساكر الحراسات والمرور حيث يبدو عليهم الفقر الشديد والملابس الرثة ويقبلون الصدقات من المارة، وإن أكسبهم هذا تعاطف المواطنين، إلا أنه يقضى على الشعور بالثقة والاحترام استغلال موارد العمل في المصالح الشخصية، كتوصيل الأسرة داخل مركبة الدورية، أعطت انطباعا للمواطن أن الشرطي مجرد خادم للنظام يستفيد من سلطاتها لانتهاك المتكرر للقانون من شرائح ضباط الشرطة الأعلى وقبول الرشاوى مقابل اختراق القانون، الاحتفاظ بالصفة الوظيفية باستمرار، واستخدام السلطة الوظيفية والعنف في المعاملات اليومية، أصاب المواطن بالتشوش تجاه من يحميه ومن يهدده، كذلك انتزاع اعترافات مكذوبة تحت التعذيب بارتكاب جرائم رسخ الانطباع بافتقار الشرطة للمهارة، وأفقد المواطن الثقة بنتائج أي تحقيقات حتى لو كانت سليمة تصاعد أعمال البلطجة والعنف بسبب إهمال الشرطة للأمن الجنائي لصالح الاهتمام بالأمن السياسي، أفقد المواطن الشعور بالأمان وأصبح يلوم تقصير الأجهزة الأمنية.

لكن وتماشيا مع الورش الحقوقي الذي دشنه المغرب بصفة عامة مند بداية التسعينات، اتخذت مجموعة من المبادرات الرامية لإصلاح قطاع الأمن من أجل تلميع صورته، وتدعيم ثقة المواطن به، وأنسنة تدخلاته، وشكلت المديرية العامة للأمن الوطني نموذجا فريدا في مواكبة هذا الإصلاح والتوجه، بدأت بوادره الأولى مع إعدام العميد تابت، ومحاكمة مجموعة من الضباط بالأمن، حيث اعتبرت بداية لتطهير هذا الجهاز، وإشارة قوية لعدم الإفلات من العقاب. كما أن اضفاء الطابع المدني على هذه المؤسسة الأمنية، ولد الارتياح لذا المواطنين، وذلك بتفكيك الشبكة الأمنية القديمة التي كانت تابعة لوزير الداخلية ان ذاك، وتعيين شخصيات مدنية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة، أمثال الشرقي الضريس/ وبوشعيب الرميل، وتوجت بتعيين عبد اللطيف حموشي على رأس المديرية[31]، وهو شخصية تحظى بثقة المغاربة بالداخل والخارج، وهذا يظهر جليا من خلال الرسائل الموجهة له عبر وسائل التواصل، والتي يطالبونه من خلالها للتدخل من أجل تطبيق القانون.

كما أن التوجه الجديد الذي تتبناه المؤسسة الأمنية منذ تغيير قيادتها يقوم على اتخاذ إجراءات وقرارات هامة في سبيل إعطاء صورة جديدة عن مؤسسة كانت في ما مضى عنوانا للقهر واغتصاب الحقوق.

إن النهج التواصلي لمؤسسة الأمن الوطني وتفاعلها مع الأحداث الوطنية ونهجها الحوار والإنصات والمهنية، يجعل منها مؤسسة تستعيد أدوارها القانونية كمؤسسة وطنية حامية للحقوق وحريصة على تحقيق العدالة والإنصاف.

إن ما قامت به المؤسسة الأمنية من تأديب عناصرها لشططهم في استعمال السلطة أمر إيجابي يعطي رسائل مطمئنة على أن سيادة القانون وعلوه فوق كل الحسابات أمر ممكن في بلادنا، ويعطينا جرعة أمل في بناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات. إن عمليات التأديب التي تقوم بها المؤسسة الأمنية في حق أفرادها المخالفين للقانون تهدف أساسا إلى تكريس سمو القانون، واعتبرها إجابة ضمنية على بعض التقارير الحقوقية الوطنية والدولية التي أثارت قضايا تتعلق بسوء المعاملة.

إن تأديب مسؤولين أمنيين متورطين في ممارسات غير قانونية أثناء تنفيذ مهامهم أعطى رسائل إيجابية إلى الداخل والخارج بأن بلادنا ماضية في احترام التزاماتها الحقوقية. والدليل على ذلك التنويه الذي حظيت به المبادرة التي قام بها المدير العام للأمن الوطني، عبد اللطيف حموشي، عندما قام “بإنصاف مول التريبورتور”، حيث عبر العديد من رواد منصات التواصل على أن هذا الأمر كنا ننتظره من رجال الأمن والساهرين على حماية ممتلكات وأرواح وحقوق المواطنين في إطار تجسيد علو القانون وسموه.

كل هذا ولد ثقة لذا المواطن في جهاز الأمن الوطني، حيث كشفت دراسة ميدانية أنجزها مكتب الدراساتFuture Elite لفائدة مرصد الشمال لحقوق الإنسان، حول الشباب المهمش و كوفيد 19 بالمغرب: من الخوف إلى الغضب، أن المواقع الإلكترونية الإخبارية تحظى بنسبة كبيرة من ثقة المغاربة كمصادر خبر، فيما يعد الأمن الوطني المؤسسة الأكثر ثقة، فقد احتلت المديرية العامة للأمن الوطني الرتبة الأولى من حيث مؤشر الثقة الإيجابي، إذ بلغ 69 بالمائة مقابل 27 بالمائة من المستجوبين الذين عبروا عن عدم ثقتهم، وحياد 4 بالمائة. كما أن المديرية العامة للأمن الوطني شكلت استثناء من بين القوات الأمنية الأخرى حيث  لم يجل ضد موظفيها أي شكاية أو حتى ملاحظة بشأن تجاوزات أو تعسفات أو خرق لحقوق الإنسان أثناء تدبير أزمة كوفيد 19

و من جانب اخر وجه عبد اللطيف حموشي، المدير العام للأمن الوطني، من خلال مذكرة مصلحية، تعليماته تلزم جميع ضباط وأعوان الشرطة القضائية، حيث طالبهم باعتماد جملة من التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية، قبل توقيف أي مشتبه فيه، ووضعه تحت الحراسة النظرية.وطالبت مذكرة حموشي، بضرورة الاحتفاظ بالمشتبه فيهم المصابين، تحت الحراسة الطبية بالمستشفيات العمومية، وإخضاعهم للتحقيق بعد تماثلهم للشفاء، وذلك بدل إيداعهم بمراكز الوضع تحت الحراسة النظرية، أو أماكن الإيداع الخاصة بالأحداث، هذه المذكرة تعتبر مؤشرا على المنحى التصاعدي لثقافة حقوق الإنسان في الوظيفة الشرطية منذ تولي حموشي مهمة المدير العام للأمن الوطني، كما تعكس المقاربة الأمنية الجديدة التي تحاول التوفيق بين حق الدولة في فرض الأمن وصون النظام العام من جهة، وكفالة الحقوق الفردية والجماعية من جهة ثانية، وذلك بدون تفريط ولا إفراط. كما أن هذه المذكرة شدّدت بشكل صريح وصارم على وجوب عرض كل مشتبه فيه يتم ضبطه في حالة سكر متقدمة، أو تبدو عليه علامات التخدير المطبق أو الانهيار العصبي على مؤسسة استشفائية، وتحصيل شهادة طبية بحالته الصحية، وذلك قبل اتخاذ أي إجراء مقيد للحرية في حقه، وألزمت المذكرة موظفي الأمن كذلك، بإحالة المشتبه فيهم الحاملين لإصابات جسدية ظاهرة أو أعراض مرضية سابقة، على قسم المستعجلات أو على طبيب معالج، وتحصيل شهادة طبية بتلك الإصابات والأعراض، وذلك قبل الاحتفاظ بهم تحت الحراسة النظرية رهن إشارة البحث القضائي.

إن مثل هذه المذكرة ستعزز ثقافة حقوق الإنسان، وذلك من خلال مطالبة ضباط الشرطة القضائية بتفادي نقل المشتبه فيهم المصابين بجروح خطيرة أو نزيف دموي على متن سيارات المصلحة أو سيارات النجدة، والعمل لزوما على نقلهم على متن سيارات الإسعاف.

إن هذه المدكرة حسب رأينا  تهدف إلى تلافي الإكراهات المرتبطة بتدبير الحراسة النظرية، خاصة أن بعض المشتبه فيهم الذين يكونون في حالة سكر طافح أو تحت تأثير أقراص الهلوسة، قد ينساقون بشكل لاإرادي إلى تعنيف أنفسهم أو الانتحار أحيانا، كما أن بعض الأشخاص الذين يتم توقيفهم وهم يحملون إصابات جسدية أو نزيف دموي قد يتعرضون لمضاعفات خطيرة ما لم يتم إسعافهم بشكل فوري.

وتأتي هذه المذكرة، الصادرة عن إدارة الأمن الوطني بعد سلسلة من المذكرات الأمنية والقرارات الخاصة بـالتخليق والنزاهة وتدعيم آليات الاستقامة في صفوف موظفي الأمن، وذلك بهدف توطيد ثقافة حقوق الإنسان في الوظيفة الشرطية و أنسنتها.

الفقرة الثالثة: الحكامة الأمنية الديموقراطية

إن تعدد التهديدات الأمنية وظهور فاعلين جدد جعلا من غير الممكن استمرار احتكار الأمن من طرف المصالح الأمنية فقط، فالأمن أصبح اليوم منفعة عامة ثمينة على الجميع ينبغي أن يهتم بها،، كل في مستواه، وفقا لقدراته ودوره ومسؤولياته. هذه الحالة، يجبأن تقوم الحكامة الأمنية على أرضية مؤسسية صلبة، في بيئة سياسية سليمة وديمقراطية. ومن تمة سنلج عهد الحكم الديمقراطي للأمن، الذي يعني في الواقع، التدبير المندمج لقضايا الأمن بين الأجهزة الأمنية ومحيطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

وتستلزم الحكامة الديمقراطية للأمن اندماج الأمن في الحكامة الديمقراطية الإجمالية، والتزام قوات الأمن بالمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية العالمية، وانفتاح هذه القوات تجاه غيرها من الجهات الفاعلة في القطاع الأمني وخضوعها لقواعد الرقابة الديمقراطية. و يتطلب ذلك انخراط جميع فاعلي قطاع الأمن في وضع وتنفيذ السياسات الأمنية، والتي تشكل أوسع مشاركة ممكنة في تدبير الشؤون الأمنية. ومن ثمة الحاجة إلى إعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات بين جميع الفاعلين في الأمن وضرورة رفع التقارير الذي يدخل ضمن المراقبة الديمقراطية لقطاع الأمن، الأمر الذي يتطلب إخضاع قوات الأمن المراقبة المؤسسات المدنية المخول لها القيام بذلك. والواقع، فيما أن مصالح الأمن مصالح عمومية، وأنها مسؤولة أمام الشعب، أو على الأقل، أمام ممثلي الشعب، وبالتالي يصبح من الممكن مساءلتها في أي وقت من طرف السلطة التنفيذية، وعند الاقتضاء، من قبل السلطة التشريعية والسلطة القضائية. وينبغي النظر إلى هذه المراقبة كوسيلة لضمان نزاهة الأجهزة الأمنية والتأكد من حسن ممارسة وظائفها الرئيسية. وفي هذه السياق، فإن المراقبة المباشرة تتم عادة من قبل المؤسسات الديمقراطية مثل البرلمانات التي يدخل ضمن صلاحياتها مراقبة عمل الحكومة، ومع ذلك  ففي سياق ديمقراطي، غالبا ما يتم تعزيز هذه المراقبة المؤسسية عن طريق منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الأمن وحقوق الإنسان. لقد أصبحته ذه المراقبة غير المباشرة ضرورية خاصة وأنها تمنح للقوى الحية بالبلد فرصة الحرص على جودة الحكامة الأمنية. فكثيرون هم الذين يتفقون على تجنب جعل تدبير جميع قضايا الأمن من اختصاص أجهزة الأمن لوحدها. ومن هنا يصبح من الضروري أن يكون المجتمع المدني على بينة بقوة بقضايا الأمن حتى تكون المراقبة المواطنة فاعلة. لكن غالبا ما يكون ضروريا إصلاح القطاع الأمني لتحقيق هذا المستوى من الحكامة.

والمغرب بفعل مواكبته لمختلف التطورات التي يعرفها العالم، أصبح واعيا تمام الوعي، بضرورة تبني سياسة أمنية تراعي جميع مقاييس التنمية واحترام دولة القانون وحقوق الإنسان، وهذا ما يمكن استكشافه فعلا من خلال التفحص والتدقيق في مختلف السياسات والاستراتيجيات التي تتبعها الدولة في مختلف المجالات وخاصة المجال الأمني.وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن المغرب قد قطع أشواطا مثالية على مستوى التدبير والتسيير الأمني، وهذا معطي لا يمكن لأحد تجاهله أو نفيه، إذ يمكن القول بأن المغرب الجديد يعتبر أول دولة عربية تبنت سياسة أمنية تساهم في التنمية على صعيد جميع المجالات، كما تحترم في الوقت ذاته المبادئ العالمية التي تنص على احترام القانون وحقوق الإنسان.

وقد كان لتبني مبادئ الحكامة الأمنية في الاستراتيجيات الأمنية دورا فعال على مستوى جودة اتخاذ القرارات، إذ أن اتخاذ القرار أصبح يمر عبر استشارات ولقاءات مفتوحة واحترام وجهات النظر، كما أن المسؤول أصبح يتحلى بالثقافة التشاركية عن طريق البحث عن المتدخلين والمعنيين بالمسألة الأمنية، حتى تتسم صياغة العمليات الأمنية بالرفعة والحكمة المهنية اللتان ترقيان إلى مستوى الممارسة الديمقراطية[32].

خاتمة:

انخرطت الدولة المغربية بعد السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال في مرحلة التأسيس وعرف المغرب خلالها وبعدها الى حدود سنة 1999 صراع محتدم بين المؤسسة الملكية والتنظيمات الحزبية سليلة الحركة الوطنية والجيش والقوى والحركات اليسارية والاسلامية. وخلال هذه المرحلة الصراعية من التاريخ السياسي المغربي عرف غيابا للضمانات القانونية للحريات، طما شهد خروقات خطيرة لحقوق الإنسان. لكن مع نهاية 90، ولئن اعترفت الدولة بمسؤوليتها عن انتهاكات حقوق الإنسان، وقررت رد الاعتبار للضحايا وجبر الضرر، كان من اللازم كذلك الإقرار بمسؤولية الأجهزة الأمنية، وذلك انطلاقا من قناعة راسخة مفادها غياب مرتكزات الحكامة الأمنية. وباعتبار أن الأمن لا غنى عنه لتحقيق الاستدامة لأي مشروع ديمقراطي، فان تأهيل إدارة الأمن و دمقرطتها  كان من بين الأولويات التي اهتمت بها الإدارة المغربية من أجل تحديث الدولة، سيما أن الإرادة العليا بالبلاد عملت على الاهتمام بهذا المجال الذي يتعدى الأمن التقليدي إلى الأمن الإنساني.

فحينما نتحدث عن الحكامة الأمنية بالمغرب فهذا يعني أن الإرادة توجهت نحو القطع النهائي مع التحكم مقابل إرساء أسس التشاور والثقة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهذا تأتى من خلال تجاوز الاختلالات التي تعرفها المنظومة الأمنية والانخراط في مسلسل الإصلاح الشامل لقطاع الأمن. و وعيا منها بأهمية الإصلاح بلورة الأجهزة الأمنية استراتيجية متكاملة تروم تقوية قدرات موظفيها في مجال إشاعة ثقافة حقوق الإنسان من خلال تضمينها في مقررات التكوين والتكوين المستمر على اعتبار أن الشرطي المؤهل أداة لإنتاج الأمن الذي بفضله تتحرك عجلة الإنماء الاجتماعي، يضاف إلى هذا اعتمادها مقاربة جديدة لشرطة مواطنة تقوم على الانفتاح والتوصل مع الفاعلين المدنيين وبلورة برامج عمل مشتركة سواء في المجال المدرسي، أو العمل مع مكونات المجتمع المدني في مختلف المجالات.

 

[1] : منشورات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، سلسلة” دراسات وندوات هيئة الانصاف والمصالحة” السياق التاريخي لانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يونيو 2005. ص: 13-15.

[2]: عبد الجبار عراش: “القطاع الأمني بالمغرب وسؤال الدمقرطة”. حوارات. مجلة الدراسات السياسية والاجتماعية  مرجع سابق. ص: 69.

[3]: كريم الدكالي. التأطير القانوني للحكامة الأمنية. مجلة القانون المغربي. العدد 43. 2020. ص: 51.

[4]: يوسف البحيري: تأصيل مسؤولية الدولة المغربية في مجال حقوق الإنسان- المكتسب والرهان، المواطنة وحقوق الإنسان بالمغرب. المطبعة الوطنية بمراكش. يونيو 2020. ص: 45.

[5]: كريم الدكالي. التأطير القانوني للحكامة الأمنية. مرجع سابق. ص: 52.

[6]: مركز دراسات حقوق الإنسان والديموقراطية. الحكامة الأمنية وحقوق الإنسان مرجع سابق. ص: 25.

[7]: كريم الدكالي. مرجع سابق. ص: 54.

[8]: أحمد بن دحمان. لمحة حول لقاءات سنة 2008. مقال منشور بمجلة الشرطة. عدد 48. يناير 2009. ص: 28.

[9]: الميلودي حمدوشي. المصالح الأمنية: تشخيص الوضع. اشغال ندوة حول الحكامة الأمنية الجيدة. مرجع ابق. ص: 112.

[10]: الميلودي حمدوشي. مرجع ابق. ص: 116.

[11]: ويمكن القول أنه من الضروري مراجعة القوانين الأساسية لهذه الأجهزة التي تتدخل معا في مجال الشرطة القضائية وحفظ الأمن. كما تجدر الإشارة، أيضا، إلى أنه غالبا ما تستعمل مصطلحات لا يفهم معناها، مثل استعمال حفظ النظام، عندما تريد التعبير عن إعادة النظام.

[12]: ادريس بلماحي. تجميع النصوص التشريعية الخاصة بقطاع الأمن التجربة المغربية. أشغال ندوة حول موضوع” إصلاح قطاع الأمن الاطار التشريعي ودور المجتمع المدني”. مطبوعات مركز دراسات حقوق الإنسان والديموقراطية. مطبعة البيضاوي. الطبعة الأولى 2010. الطبعة الثانية 2014. ص: 41.

[13]: عبد الله ساعف. درس افتتاحي تحت عنوان” الإصلاح الأمني”. كلية الحقوق السطات. مجلة الشرطة عدد71. مطبعة اديال. دجنبر 2010. ص: 42-43.

[14]: عبد الله ساعف. مجلة الشرطة عدد71. مرجع سابق. ص: 42.

[15]: محمد الحسيني. دور الأمن في تدعيم وحماية حقوق الإنسان بالمغرب” قطاع الأمن الوطني نموذجا”. مرجع سابق. ص: 213.

[16]: أبو بكر سبيك. الأمن والجريمة نقاش مفتوح. مجلة الشرطة عدد 19. شتنبر- أكتوبر 2016. ص: 22.

[17]: عبد الله عاسف. مجلة الشرطة عدد 71. مرجع سابق. ص: 43.

[18]: محمد شقير. المؤسسة الامنية بالمغرب: بين حماية النظام وسلامة المواطن. دار النشر افريقيا الشرق. 2016. ص: 145.

[19]: مصطفى المنوزي.: من أجل دينامية ثقافية تؤسس لأدبيات وأخلاقيات الحكامة الأمنية. أشغال لقاء نظم يوم 5 فبراير2010. لتقديم كتاب أصدره مركز دراسات حقوق الإنسان والديموقراطية: ” التشريع المغربي في مجال الحكامة الأمنية”. مطبعة البيضاوي. الرباط. الطبعة لسنة 2010. ص: 25.

[20] : ALI SEDJARI : droit de l’homme et gouvernance de la sécurité. PARIS. Le Harmattan GRET DL. 2007. P/ 122.

[21]: اسماعيل حمودي: السياسة الأمنية للمغرب الراهن. دراسة في المحددات والفاعلين والقضايا. أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية. جامعة محمد الخامس. سلا. 2017-2018. ص: 166.

[22]: اسماعيل حمودي. مسار الحكامة الأمنية بالمغرب. الحكامة الأمنية بالمغرب “مقاربة في ثنائية الأمن والحرية”. مؤلف جماعي. مكتبة الرشاد سطات. مطبعة الأمنية الرباط.2019. ص: 37.

[23]: احمد أيت الطالب. الحكامة الأمنية الجيدة وحقوق الإنسان. الحكامة الأمنية الجيدة أو إصلاح قطاع الأمن على ضوء توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. مرجع سابق. ص: 122.

[24]: اسماعيل حمودي. مسار الحكامة الأمنية بالمغرب. الحكامة الأمنية بالمغرب “مقاربة في ثنائية الأمن والحرية”. مرجع سابق. ص: 39.

[25]: امبارك بودرقة وأحمد شوقي بنيوب: كذلك كان – مذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة- دار النشر المغربية. الطبعة 2. 2017. ص: 15.

[26]:امبارك بودرقة وأحمد شوقي بنيوب. نفس المرجع. ص: 121.

[27]:  عكاشة بن المصطفى. حقوق الإنسان بالمغرب. دار الأفاق للنشر والتوزيع الطبعة الأولى. 2018. ص: 79.

[28]: أحمد بن دحمان: لمحة حول لقاءات سنة2008. مقال بمجلة الشرطة. عدد.48. يناير 2009. ص: 28.

[29]: كريم الدكالي. التأطير القانوني للحكامة الأمنية. مجلة القانون المغربي. مرجع سابق. ص: 44.

[30] : الحكامة الأمنية وحقوق الإنسان. قراءة في تجربة. مرجع سابق. ص: 62-63.

[31] : تجدر الإشارة إلى أنه قد تعاقب على منصب المدير العام للمديرية العامة للأمن الوطني مجموعة من المدراء العامين ( أولهم محمدالغزاروی (1955-1960 ). الجنرال محمد اوفقير (1960-1964)، الجنرال احمد الدليمي ( 1964-1970)، الجنرال حسني این اسلیمان (1970-1972)، ادریس حصار. عبد الرحمان ربیع، مولاي اسليمان العلوي، حميد البخاري ( 1979-1981. امحمد ظریف (1981-1984)، الجنرال عبد الحق القادري (1984-1991). الجنرال عزيز الوزاني (1991-1993). احمد الميداوي 1993۔1997، مولاي حفيظ بن هاشم (1997-2003)، الجنرال حميدوا لعنيكري (2003-2006)، الشرقي اضريس (2006-2012، بوشعيب ارمینل(2012-2015) وحاليا عبد الطيف حموشي عين بتاريخ 16 ماي 2015 وهو يجمع بين المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والمديرية العامة الأمن الوطني.

[32]: محمد أمزيل. مراقب عام الأمن الإقليمي للجديدة. حوار منشور بمجلة الشرطة. عدد 18- 19. يوليوز- غشت. 2006. ص: 55.

قد يعجبك ايضا