التحكيم ما بين الحرية والتقييد – ج/1

المعلومة القانونية

*قديري المكي الخلافة
– محكم معتمد بغرفة التحكيم والوساطة بالرباط.

مقدمة:

يعتبر التحكيم من أهم الوسائل البديلة لتسوية المنازعات، التي قد تنشأ بين مختلف النسيج الاقتصادي والمدني المغربي، من قبيل: فئة “التجار” بمناسبة ممارستهم لأعمالهم التجارية، أو التي قد تنشأ للمهنين بمختلف أنواعهم في إطار المسؤولية عن عملهم الشخصي، مثلا، كالأطباء، الصيادلة، المحامين، المهندسين، الصحفيين أو الفنانين وغيرهم، وكذا التي قد تنشأ للحرفيين خلال مزاولة أنشطتهم بشتى أنواعها مثلا: كالصناع التقليديين، أو الباعة المتجولين، وغيرهم من الشرائح الاجتماعية العريضة.

وهذه الأفضلية في اللجوء إلى للتحكيم، تأتي نظرا لما يتميز به من خصائص ومميزات، بحيث يعرفه الفقه القضائي، بكونه: “الاتفاق على طرح النزاع على شخص معين، أو أشخاص معينين ليفصلوا فيه دون المحكمة المختصة به”. وحيث يعد مبدأ سلطان الإرادة، من أهم المبادئ التي يقوم عليها التحكيم، بل ويشكل أساس العملية التحكيمية وجوهرها، ويراد به: “أن الأطراف يستندون في تنظيم الإجراءات المتعلقة بالتحكيم إلى إرادتهم الخاصة”، أي انه يكون لحرية الأفراد جميع السلطات في إنشاء وتكوين اتفاق التحكيم، وتحديد الأثار المترتبة عليه، وكذا في خلق جميع الروابط القانونية لأطراف الالتزام بالتحكيم، في إطار علاقة تعاقدية وقانونية، يكون للمحكم خلالها، باعتباره الطرف الثالث المحايد، السلطة القانونية لإصدار القرار الأخير لإنهاء النزاع.

غير أن “هذا المبدأ” لا يراد به الإطلاق، وإنما ترد عليه مجموعة من الاستثناءات، بمثابة القيود العامة والخاصة، التي تضيق من حرية الأفراد في عقد التحكيم، وجعلها خاضعة بشكل أو بآخر لمجموعة من القواعد، التي تشكل ضمانات أساسية لاحترام قواعد النظام العام من جهة، ولحماية حقوق الأفراد الأساسية في التعاقد من جهة أخرى، وذلك من أجل التوفيق بين مجموعة من المصالح الأساسية والمتعارضة فيما بينها، في إطار معادلة جدلية بين مفهوم الحرية والسلطة.

من خلال ما سبق، يمكن طرح الإشكال التالي:
إلى أي حد يخضع التحكيم لمبدأ سلطان الإرادة في العقد؟ وهل تشكل قواعد النظام العام قيدا على حرية الأطراف في اتفاق التحكيم؟ وماهي الأثار القانونية المترتبة على مخالفاتها؟

لتسليط الضوء حول هذه الإشكالية، من المقترح اعتماد التصميم الآتي:

المطلب الأول: مظاهر سلطان الإرادة في اتفاق التحكيم – ج/1

المطلب الثاني: حدود النظام العام لإرادة الأطراف في عقد التحكيم – ج/2

المطلب الأول: مظاهر سلطان الإرادة الحرة في اتفاق التحكيم

يؤكد “مبدأ سلطان الإرادة” في إطار النظرية العامة للعقود والالتزامات أن الإرادة الحرة وحدها هي التي تملك إنشاء العقد وتكوينيه، وتحديد آثاره، فليس لأي جهة أن تتدخل لتفرض عليه ما يخالف إرادته، وهو مبدأ قانوني معروف قديما وحديثا، وحيث تنص جل القوانين المدنية الحديثة على أن الاتفاقات التي تعقد على وجه شرعي تقوم مقام القانون بالنسبة إلى عاقديها، بل ويرجع أصله للقوانين والمدونات القديمة، وله مرجعية أصيلة في الشريعة الإسلامية، ومختلف الأديان السماوية الأخرى، وكدا المجتمعات العربية والأمازيغية والحسانية والعبرية، التي تشكل روافد المجتمع المغربي.

وفي علاقته بالتحكيم، يشكل مبدأ سلطان الإرادة الحيز الأكبر في إنشاء وتكوين اتفاق التحكيم، وفي تحديد الآثار المترتبة عليه، بل وفي جميع الروابط القانونية، في حين ترد على هذا المبدأ مجموعة من الاستثناءات، ا سيتم التطرق إليها في الجزء الثاني من هذا المقال (المطلب الثاني).

الفقرة الأولى: الإرادة الحرة في عقد اتفاق التحكيم

إن اتفاق التحكيم مهما كان شكله، فإنه يعتبر عقدا مدنيا، بحيث تتجه على أساسه إرادة مجموعة من الأفراد في إنتاج قواعد قانونية خاصة، بالتالي ينبغي على أطراف هذه الروابط الخاصة الخضوع للقواعد العامة للالتزامات والتعاقد، وحيث لابد من توافر الشروط الموضوعية العامة للعقد، من رضا، ومحل، وسبب مشروع، كما هي محددة في قانون الالتزامات والعقود المغربي، وشروط أخرى شكلية خاصة متعلقة أساسا بالجانب الإجرائي للتحكيم، من أسس ومبادئ عامة للتحكيم، كالصفة والأهلية، ومواضيع النزاعات القابلة للتحكيم فيها، وشرط الكتابة، والآجال القانونية، وغيرها من الشروط التي سترد على مقالنا في الجزء الثاني منه (المطلب الثاني).
بالتالي تبقى إرادة المشرع في إخضاع اتفاق التحكيم للمبادئ العامة لقانون الالتزامات والعقود، من حيث شروطه العامة، مظهرا أساسيا من مظاهر الحرية في عقد التحكيم، وضمانة أساسية لتنفيذ المقرر التحكيمي اتفاقيا، ومن هذا المنطلق يشترط لصحة الرضى في اتفاق التحكيم أن يأتي مكتوبا، وواضحا، وصريحا، وخاليا من العيوب، وهذا ما سيتم معالجته في الفقرة الثانية من هذا المطلب.

الفقرة الثانية: الإرادة الحرة في اختيار القانون الواجب التطبيق على النزاع

إن أبرز مظاهر الحرية في عقد التحكيم، تظهر بمجرد إنشاء اتفاق التحكيم، الذي من أهم آثاره، نجد استفادة أطراف العقد الأصلي للنزاع من مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي، هذا المبدأ الخاص الذي يفيد بامكانية خضوع اتفاق التحكيم إلى نظام قانوني منفرد ومتميز، يختلف عن النظام المطبق على العقد الأصلي الناشئ عنه النزاع.

وحيث تخول مبادئ الاتفاق في التحكيم الحرية لأطراف النزاع الإرادة الحرة في اختيار النظام القانوني الواجب التطبيق على النزاع، سواء من النظام الموضوعي للتطبيق، مثلا هل هو القانون التجاري، أو المدني، أو العرف السائد في مركز تجاري معين لأحد الأطراف أو كلاهما، أو غيره، وذلك على خلاف القواعد العامة المعمول بها في قانون الالتزامات والعقود المغربي.

وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن المبادئ العامة لقانون الالتزامات والعقود المغربي، تحدثت عن امكانية أن يرد التعويض عن الخطأ في إطار المسؤولية العقدية أو التقصيرية، سواء من خلال حكم قضائي، أو من خلال اتفاق تحكيمي.

بالتالي الملاحظة الأساسية التي يمكن تسجيلها في هذا الإطار، وهي أن اتفاق التحكيم يخضع من حيث أسسه لنفس القواعد العامة لقانون الالتزامات والعقود المغربي، التي تعترف عامة بالمبدأ القائل بأن العقد شريعة المتعاقدين، مع مراعاة بعض الاستثناءات التي سترد في الجزء الثاني من المقال (المطلب الثاني).

ملاحظة: المصادر الأساسية المعتمدة في تحليل هذا الموضوع وهي المبادئ العامة لقانون الالتزامات والعقود المغربي، وقانون المسطرة المدنية.

(الجزء الثاني سينشر لاحقا)

قد يعجبك ايضا