واجبي كتمان السر المهني والتحفظ
المعلومة القانونية – آيت الشيخ محمد كريم
طالب باحث في ماستر العلوم الإدارية والمالية بكلية الحقوق محمد الخامس – السويسي
يعتبر الموظف العمومي في وضعية قانونية ونظامية إزاء الإدارة، مما يجعله متمتعا بمجموعة من الحقوق ومتحملا في نفس الأن مجموعة من الوجبات، وعمل المشرع من خلال النظام الاساسي للوظيفة العمومية والانظمة الخصوصية على تحديد طبيعة هذه الحقوق والواجبات، و عمل الفقه من جهة اخرى على تقسيم الحقوق التي يتمتع بها الموظف العمومي الى حقوق مادية [الأجرة، الترقية، المعاش…]، و حقوق غير مادية [ الاستفادة من الرخص الإدارية، الرخص لأسباب صحية…].
و قسم الفقه كذلك الواجبات التي يتحملها الموظف الى صنفين، واجبات مهنية و واجبات اخلاقية، و يعتبر اساس تكليف الموظف بالواجبات المهنية أو الأخلاقية الحفاظ على الهبة و صورة الجيدة للإدارة.
و مما لاشك فيه تظل أهم الواجبات التي تطال الموظف العمومي واجب كتمان السر المهني، و اجب التحفظ، حيث يختلف تطبيقهما حسب درجة أهمية الوظيفة.
و من الجدير بالملاحظة ما يميز موضوع واجبي كتمان السر المهني و تحفظ الموظف العمومي هو انفتاحه على مجال المنازعات القضائية، و يظهر ذلك من خلال إسهامات القضاء الإداري في تفسير و توسيع و تأسيس قواعد جديدة علاقة بموضوع واجبي كتمان السر المهني و التحفظ.
وتتجلى الإشكالية الرئيسية للموضوع الى أي حد استطاع المشرع و القاضي الإداري تحقيق التوازن بين مطلبي احترام واجبي كتمان السر المهني و التحفظ من جهة ومن جهة أخرى تأمبن حق الموظف العمومي في التمتع بالحقوق و الحريات الاساسية الواردة في الدستور؟
وتتفرع عن الإشكالية الرئيسية عدة أسئلة فرعية من قبيل:
كيف أطر المشرع المغربي واجبي كتمان السر المهني و التحفظ؟
كيف تعامل الاجتهاد القضائي مع الواجبات المهنية للموظف العمومي؟
كيف يمكن أن يتم التوفيق بين واجبي كتمان السر المهني و التحفظ والحريات الأساسية الواردة في الدستور؟
ولمقاربة إشكالية موضوع المقال سنعمل وفق التصميم الآتي:
المطلب الأول: واجب كتمان السر المهني بين سندان الاحترام و مطرقة تأمين الحقوق و الحريات الأساسية الواردة في الدستور:
المطلب الثاني: واجب التحفظ و هاجس توفير الحق في التعبير عن الرأي
المطلب الأول: واجب كتمان السر المهني بين سندان الاحترام و مطرقة تأمين الحقوق و الحريات الأساسية الواردة في الدستور
بداية لابد من الوقوف على مفهوم السر المهني، السر لغة ما يكتمه و يخفيه الإنسان، و اصطلاحا هو الحديث المكتم في النفس.
ولم يقدم المشرع المغربي تعريفا دقيقا و واضحا لمصطلح السر المهني ، و إنما اكتفى بتحديد طائفة المعلومات التي يمكن أن تدخل في دائرة السر المهني، و تحديد الجزاءات المترتبة عند الإخلال بهذا الواجب.
و في هذا الإطار و من اجل تحديد مفهوم السر المهني بشكل أوضح و أدق سنعتمد على ما جاء به الفقه و القضاء، حيث عرف الأستاذ السويسري لوغوز السر المهني هو ” حيازة حصرية لمعرفة بعض الوقائع المضافة الى إرادة صاحب السر بان يظل وحده الحائز عليه”.
أما بخصوص التعريف الذي وضعه القضاء للسر المهني، نجد التعريف الذي قدمته محكمة امن الدولة بمصر” السر المهني أمر يتعلق بشيء أو شخص خاصيته إن يظل محجوبا أو مخفيا عن كل احد غير من هو مكلف قانونا بحفظه.”
بينما رأى القضاء الفرنسي انه عند اكتساب معرفة وظيفية من طرف الموظف فإنه يلزم مباشرة بكتمانها حتى و لو كانت شائعة بين الناس و لكنها غير مؤكدة، أما متى تأكد للجمهور فقد زالت عنه صفة السر.
و تماشيا مع تم ذكره يتضح على أن السر المهني هو كل ما يتصل بالمعلومات و الإجراءات و القرارات التي يطلع عليها الموظف من خلال ممارسة الوظيفة العامة أو بحكم الوظيفة العامة.
و قد ألزم المشرع المغربي الموظف العمومي من خلال النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على كتمان السر المهني، فيما يتعلق بالأخبار و الأعمال التي يعلمها بمناسبة ممارسته للوظيفة أو بحكم الوظيفة التي ينتمي إليها، كما اعتبر المشرع استيلاء الموظف على الوثائق أو الأوراق الخاصة بالمصلحة أو اطلاع الغير عليها بكيفية مخالفة للقانون يعتبر خرقا للسر المهني.
غير أن مفهوم السر المهني ليس موحدا في جميع الدول، فما يمكن اعتباره سرا مهنيا ببلد ما يمكن أن يكون عكس ذلك ببلد آخر، فعموما دائرة السر المهني تتسع و تضيق حسب اتساع و ضيق مساحة الحرية و الديمقراطية بالدولة.
و كما هو معلوم فالدولة المغربية مثل كل الدول المنظمة تجمع بواسطة أعوانها معلومات عديدة و مختلفة فبواسطة شرطتها تجمع المعلومات حول حياة المواطنين الخاصة، و بواسطة إدارة الضرائب تجمع المعلومات حول ثروة المكلفين، و بواسطة القضاة تجمع المعلومات حول المنازعات التي تقع بين الأفراد، و بواسطة موظفي مصالح الإسعاف و المستشفيات تجمع معلومات حول صحة الأفراد، و بواسطة المعلمين تجمع المعلمين تجمع معلومات حول ذكاء الأحداث و نفسيتهم، و حتى المحادثات التليفونية المتعلقة بأسرار الحياة الخاصة يمكن للدولة أن تطلع عليها بواسطة أعوان المصلحة التليفونية، و عند إفشاء هذه المعلومات فإن ذلك يحدث اضطرابا عميقا في النظام الاجتماعي، و هناك أسرار أخرى تتعلق بحياة الأمة في حالة إفشائها فإن ذلك يعتبر بمثابة الخيانة، مثل الأسرار الدبلوماسية و أسرار الدفاع الوطني و أسرار اقتصادية.
فإفشاء السر المهني يمكن أن تترتب عنه مجموعة من الأضرار التي تختلف حسب نوعية السر الذي تم إفشائه، فمثلا إذ تم إفشاء السر من قبل موظف يزاول مهامه بمرفق القضاء فإن ذلك سيؤثر حتما على السير العادي للبحث، و يمكن أن يساعد المشتبه فيهم على الفرار، أو حتى تأثير المشتبه فيهم على الضحايا و الشهود، أو إتلاف وسائل الإثبات.
فعند إفشاء الموظف للأسرار المهنية فإنه تقام المسؤولية من ثلاثة جوانب:
جانب تأديبي؛
جانب جنائي {الفصول 229 و 446 و 554 من القانون الجنائي}؛
جانب مدني.
فالموظف ليس ملزم فقط بكتمان السر المهني تجاه الغير الأجنبي عن الإدارة، بل هو ملزم بذلك حتى في علاقته مع الموظفين الذين يشتغلون معه بنفس الإدارة، و ذلك ما ذهب إليه القضاء الإداري المغربي في قضية عرضت عليه سنة 2007، حيث اعتبرت المحكمة إخبار الموظف لمرؤوسيه حول ما يحوم حولهم من شبهات أثناء تفتيش لجنة التحقيق يعد خرقا لسرية التفتيش و مساس بمبدأ كتمان السر المهني.
و إذا كان المشرع قد ألزم الموظف بعدم إفشاء الأسرار المهنية فإن هذا الواجب لا يرتبط فقط بالحياة الإدارية للموظف، بل قد يمتد حتى بعد انتهاء مهام الموظف “التقاعد”، و يتضح ذلك جليا من خلال الظهير الشريف بشان هيئة رجال السلطة الذي ألزم رجال السلطة بمختلف الأطر على ضرورة كتمان السر المهني حتى بعد انتهاء مهامهم.
فكما تم و سبقت الإشارة فعند إخلال الموظف بواجب كتمان السر المهني فإنه قد يتعرض للمتابعة تأديبية و حتى الجنائية ولكن حتى نكون أمام إخلال بواجب كتمان السر المهني يجب توفر أربعة شروط:
أن يكون السر الذي تم إفشاؤه قد تم الحصول عليه من خلال مزاولة الموظف لمهنته؛
أن يكون موضوع الإفشاء من أسرار المهنة غير المتاحة إلا و بشكل حصري للمهني؛
أن يتوفر الضرر بالنسبة للذي افشي سره أو للمصلحة العامة؛
أن لا يكون ما تم إفشاؤه من الجرائم التي اوجب القانون على الموظف التبليغ عنها.
غير أنه رغم كل ما سبق فكتمان السر المهني ليس مطلق حيث ترد عليه بعض الاستثناءات، كحق العدالة في مطالبة الإدارة بالمعلومات التي من شانها مساعدة القضاء في البث في نازلة ما.
إضافة لوجود ما يسمى بقانون فاضحي الفساد، الذي يؤهل الموظف للتبليغ عن جرائم (الرشوة ، الاختلاس، التبديد، غسل الأموال…)،دون التعرض للمتابعة التأديبية أو الجنائية بحجة الإخلال بواجب كتمان السر المهني.
كما أن المشرع منح حماية خاصة للموظف و كافة الأشخاص الواردين في القانون السالف الذكر عند التبليغ عن الجرائم المشار إليها أعلاه، و نذكر على سبيل المثال لا الحصر، الحماية الجسدية للموظف و لأفراد أسرته ولأقاربه من طرف القوة العمومية عند تبليغ عن الأفعال المجرمة.
و يبقى من أهم الحقوق التي تواجه واجب كتمان السر المهني هو الحق في الحصول على المعلومة، باعتبار هذا الحق من الحقوق العتيدة، و المنصوص عليها في الإعلان العالمي للحقوق الإنسان، و كذلك العهد الدولي لحقوق الإنسان.
هذا الحق عرفته المنظمة الشفافية الدولية بأنه الحق المقرر للمواطنين بموجب القانون للوصول الى المعلومات التي تملكها الدولة و مؤسساتها و هيئاتها و أجهزتها.
و بالنظر لكون المغرب من الدول التي تسعى دائما الى الالتزام بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا، فقد تمت دسترة هذا الحق بموجب الفصل 27 من الدستور، و صدر قانون خاص ينظم حق المواطن في الحصول على المعلومة الذي يدخل حيز التنفيذ بحلول تاريخ 12 مارس 2019.
فقبل دسترة حق الحصول على المعلومة، كانت الإدارة تقع في خطأ التكييف القانوني للوقائع بالنظر لصعوبة التميز بين ما هو سر مهني و ما ليس بسر و يمكن تداوله كمعلومة، وخير مثال على ذلك القضية التي عرضت على المحكمة الإدارية سنة 2004 حيث قضت المحكمة بإلغاء قرار إدارة السجون بعد امتناعها عن تسليم النسخة التنفيذية للقرار الإستئنافي القاضي لفائدة الشخص رافع دعوى الإلغاء والذي سبق و أن أدلى به عند تقديم طلب تطبيق مسطرة الإكراه البدني في حق غريمه ، وعند مطالبته بالحصول على النسخة التنفيذية للقرار الاستئنافي حتى يتمكن من مواصلة التنفيذ في مواجه غريمه رفضت إدارة السجون تسليمه النسخة بحجة أن الوثيقة المطلوبة تتعارض مع واجب السر المهني.
و بصدور القانون المتعلق بالحق في الحصول على المعلومة فقد ميز المشرع بين المعلومات التي يمكن للمواطن الحصول عليها و المعلومات التي يمكن أن يتم الحصول عليها. و قد ألزم المشرع (الإدارات العمومية، الجماعات الترابية، مجلس النواب، مجلس المستشارين، المحاكم، المؤسسات العمومية، الهيئات العامة و الخاصة المكلفة بمهام المرفق العمومي)، على تعيين موظفين تكون مهمتهم الأساسية تلقي طلبات الحصول على المعلومات و دراستها و تقديمها لكل من تقدم بطلب الحصول عليها، وبالتالي يعفى الممارسون للمهام السالفة الذكر من واجب كتمان السر المهني لكن دون تجاوز حدود المهام المناطة بهم، وفي حالة امتناع الموظفين عن ممارسة بالمهام المشار إليها سابقا فإنهم يتعرضون للمتابعة التأديبية.
و لكن رغم أن الحق في الحصول على المعلومة حق دستوري، إلا أن هذا الحق ترد عليه مجموعة من الاستثناءات نذكر منها المعلومات المتعلقة بالدفاع الوطني و امن الدولة الداخلي و الخارجي، و المعلومات الشخصية أو التي تمس الحريات و الحقوق الأساسية، و اعتبر قانون الحق في الحصول على المعلومة كل من أفشى هذه المعلومات مخلا بواجب كتمان السر المهني.
المطلب الثاني: واجب التحفظ و هاجس توفير الحق في التعبير عن الرأي.
ما يثير انتباه الباحث هو غياب تعريف قانوني لواجب التحفظ ما يدفعنا الى اللجوء الى التعريف اللغوي، و يحيل لفظ التحفظ على مجموعة من المعاني فيقال تحفظ بمعنى احترز، و تحفظ على الشيء بمعنى حبسه و صانه، و تحفظ في القول أو الرأي إذ قيده و لم يطلقه أي تكلم بحذر، وعند اقتران لفظ التحفظ بالواجب تكون النتيجة الالتزام بالاحتراز و الاحتياط و عدم إطلاق القول و الفعل.
ونجد السند القانوني لواجب التحفظ في النظام الأساسي للوظيفة العمومية في الفصل الثالث عشر الذي يؤكد على ضرورة احترام الموظف العمومي لسلطة الدولة و العمل على احترامها، و يتأتى ذلك من خلال تحرز واحتياط الموظف عند تعبيره عن رأيه، حيث يجب على الموظف أن يحترز قولا و فعلا، فالموظف العمومي لا يجب عليه أخد مواقف علنية أو تقديم أو نشر تصريحات أو تعليقات تتناقض مع مواقف الإدارة التي يعمل بها.
كما أنه يلزم الموظف العمومي باتخاذ موقف الحياد و التحفظ و عدم ربط علاقات مشبوهة أو نفعية مع أشخاص أو هيئات ترتبط مصالحهم بقرارات الإدارة التي ينتمي إليها.
و في هذا الصدد يرى الأستاذ GASTON JĖZE انه “يتعين على الموظف أن يبقى خارج التصرفات والتظاهرات التي لا تليق بالوظيفة.”
ولتوضيح الصورة أكثر سنأخذ مثال الانضمام الى الأحزاب السياسية فإذ كان الدستور و القانون التنظيمي للأحزاب السياسية قد أجاز للمواطنين الانخراط في الأحزاب السياسية، و باعتبار الموظف في آخر المطاف مواطن و من حقه ممارسة حقوقه السياسية و المدنية، إلا أن هذا الحق ترد عليه استثناءات بالنظر لطبيعة وحساسية بعض الوظائف التي تقضي من مزاولها التحلي بالتجرد و الاستقلالية و الحياد السياسي حتى لا يؤثر ذلك على عمله( الشرطي، القاضي، رجل السلطة…)، والهدف من وضع الاستثناء بهذه الوظائف هو الحفاظ على حياد و تحفظ الموظف هذا من جهة، و من جهة أخرى و أن أجاز القانون لبعض الموظفين الانتماء للأحزاب السياسية فإنه لا يجب على الموظف أن يستغل وظيفته أو منصبه أو مسؤوليته لأغراض سياسية أو حزبية من شانها أن تسيء بمصلحة المرفق العمومي، و لا يجوز له كذلك أن يعيق السياسات أو يؤثر بسبب انتمائه السياسي على القرارات و الأنشطة التي تعدها و تتخذها و تطبقها الإدارة.
ويعود الفضل في ظهور واجب تحفظ الموظف العمومي الى القضاء الفرنسي، و بالضبط سنة 1935 في القضية الشهيرة بقضية وكيل الأشغال العامة بتونس على خلفية تصريحات أدلى بها الوكيل، واعتبرها القضاء خروجا عن واجب احترام سلطة الدولة و بالتالي الخروج عن واجب التحفظ.
وتختلف تطبيقات واجب التحفظ باختلاف أهمية و حساسية الوظيفة، وخير مثال يمكن أن نستند عليه هم القضاة، فقد نص دستور المملكة المغربية من خلال الفصل 111 على انه “للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ…”.
بداية يجب أن نشير الى انه باعتبار المملكة المغربية تلتزم بما تقضي به المواثيق الدولية من حقوق و واجبات، وان الاتفاقيات الدولية التي تصادق عليها المملكة تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، فواجب تحفظ القضاة المشار إليه أعلاه له مرجعية في المواثيق الدولية.
و ما يؤكد ذلك هو ما جاءت به مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلالية السلطة القضائية التي تم إقرارها في مؤتمر الأمم المتحدة بشان استقلالية السلطة القضائية، التي تم الـتأكيد عليها في مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة و معاملة المجرمين، حيث جاء في البند الثامن {وفقا للإعلان العالمي للحقوق الإنسان يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير و الاعتقاد و تكوين الجمعيات و التجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة لدى ممارستهم حقوقهم مسلكا يحفظ منصبهم و نزاهة واستقلال القضاء.}
و للتعرف على كيفية تطبيق واجب تحفظ القضاة لا بد من الاطلاع على القانون التنظيمي 106.13 بشأن النظام الأساسي للقضاة، فتطبيق واجب التحفظ أخد أشكال متعددة، فإذا كان الدستور قد منع انخراط القضاة بالأحزاب السياسية و المنظمات النقابية، فإنه سمح لهم بالانخراط بالجمعيات المهنية و الجمعيات التي تسعى لتحقيق أهداف مشروعة شريطة و ذلك تحقيقا لحق القضاة في حرية التعبير مع احترام واجب التحفظ.
كما سمح المشرع للقضاة في إطار حقهم في التعبير عن أرائهم المشاركة في الأنشطة و الندوات العلمية، مع اعتبار الآراء التي يدلون بها في هذه المناسبات أراء شخصية، وبتالي يجب على القضاة عند إبداء الرأي الأخذ بعين الاعتبار مراعاة واجب التحفظ و الأخلاقيات القضائية.
وقد ألزم المشرع كذلك القضاة بعدم إبداء رأيهم بخصوص القضايا المعروضة على القضاء، فكما ذهب الى ذلك ذ.ياسين العمراني عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب، فواجب التحفظ لا يعني مصادرة حق القضاة في التعبير، وإنما هو واجب يروم الى الحفاظ على حياد و تجرد و استقلالية القضاة بالشكل الذي يحفظ مكانة و هبة القضاء.
ولا بد أن نشير كذلك لمساهمة القضاء الدستوري بشان واجب تحفظ القضاة، فباعتبار انضمام القضاة الى الأحزاب السياسية أمر مخالف للدستور، لأن من شأن ذلك أن يؤثر على تحفظ و حياد القضاة، فقد ذهب القضاء الدستوري بمناسبة إحالة القانون التنظيمي 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة على أنظاره لفحص دستوريته قبل إصدار الأمر بتنفيذه،إذ أكد القضاء الدستوري بشان المادة 97 من القانون السالف الذكر إلى تحدد الأفعال التي تقضي بالتوقيف الحالي للقضاة انه يجبا للتمييز بين حالة اتخاذ القاضي لموقف سياسي، و حالة الإدلاء بتصريح يكتسي صبغة سياسية، فإذ اتخذ القاضي موقفا سياسيا فإن ذلك يتنافى مع استقلاله وحياده وتوقيف القاضي في هذه الحالة ليس فيه ما يخالف الدستور، و لكن عند إدلاء القاضي لتصريح يكتسي الصبغة السياسية فهذه المخالفة بالنظر لعمومية العبارة التي صيغت بها ليست من الأسباب التي تستدعي التوقيف الفوري للقاضي، مما يجعل اعتبار الإدلاء بتصريح سياسي موجبا للتوقيف الفوري للقاضي عن مزاولة مهامه غير مطابق للدستور، و تم الاحتفاظ باتخاذ موقف سياسي كفعل يقتضي التوقيف الفوري للقاضي بعد الأخذ بملاحظات المجلس الدستوري.
فواجب التحفظ لا يطال القضاة فقط بل حتى أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بالنظر لكون هذه الهيئة هي المكلفة بتدبير شؤون القضاة و السهر على توفير استقلال السلطة القضائية، فقد ألزم المشرع أعضاء المجلس من خلال القانون التنظيمي 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، على عدم اتخاذ أي موقف من شانه أن يمس بتجردهم و استقلالهم ، أو المجاهرة برأي حول القضايا المعروضة على المجلس أو القضايا التي سبق للمجلس و أن بت فيها.
فالإخلال بواجب التحفظ كان سببا مباشرا في عزل مجموعة من القضاة بالمغرب، كما الحال بالنسبة لاحد القضائ الذي تم عزله بسبب تدوينة له في موقع التواصل الاجتماعي أبدى من خلالها القاضي المعزول رأيه في مشروعي القانونيين التنظيميين للسلطة القضائية و النظام الأساسي للقضاة، و تم اعتبار ذلك خروجا عن واجب التحفظ.
و يحب أن نشير أن تأطير الواجبات الأخلاقية للقضاة ليس حكرا فقط على النظام الأساسي للقضاة بل هنالك كذلك مدونة الأخلاقيات القضائية التي لم تصدر بعد.
فمن خلال ما سبق حتى لا يقع خلط ما بين واجب كتمان السر المهني و واجب التحفظ فكلى الواجبين يختلفان عن بعضهما البعض في مجموعة من النقط و هي على النحو التالي:
أولا فالتحفظ يتعلق بالأمور الشخصية للموظف حيث انه يجب على الموظف عند إبداء رأيه حول مسألة ما يجب أن يلتزم بالحياد، أما السر المهني فهو مرتبط بالوظيفة التي يمارسها الموظف و الأخبار و المعلومات الني يطلع عليها الموظف بمناسبة تأديته لوظيفته.
أما النقطة الثانية فواجب تحفظ الموظف يبقى ملازما له خلال حياته الإدارية و عند نهاية مهامه سواء نهاية عادية بسبب الإحالة الى التقاعد أو بسبب العزل، فالموظف يتجرد من واجب التحفظ مع استثناء بعض الوظائف(موظفو الأمن الوطني، رجال السلطة…)، على عكس السر المهني الذي يلازم الموظف العمومي حتى بعد نهاية مهامه.
ختاما يمكن القول ان المشرع المغربي و ان تعامل بشكل صارم مع كل موظف أخل بواجب كتمان السر المهني أو التحفظ، حيث يمكن ان يصل الامر الى متابعة جنائية، إلا ان الشمرع عمل في نفس الوقت على تأمين الحقوق و الحريات الواردة في الدستور التي يمكن ان يستفيد منها الموظف و المواطن المتعامل مع الإدارة، و التي تظل أهمها الحق في الحصول على المعلومة و حرية التعبير.
فمع دخول القانون 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومة الى حيز التنفيذ، سنقف على مدى تحقيق التوازن بين احترام واجب كتمان السر المهني، و تامين حق المواطن في الحصول على المعلومات الموجودة بحوزة الإدارة العمومية.
قائمة المراجع: